05-10-2020 | 00:10 المصدر: النهار

تسعون عامًا على غياب فوزي المعلوف
فوزي المعلوف (1899-1930) شاعر لبناني من الدوحة المعلوفية، وجه شعري لبناني مهجري مشعّ له سحره وطابعه وعمقه وعذوبته. والده عيسى اسكندر المعلوف العالِم والمؤرخ وعضو المجامع العلمية العربية. وهو شقيق شفيق صاحب “عبقر” والشاعر رياض. شاعر التأمل والألم والطفولة والحب والهجرة والمرض والتضحيات والأحلام. تمرّ اليوم تسعون سنة على وفاته من دون أن تنال من موقعه المميز في حركة الشعر النهضوي وذلك لعمق تجربته وحداثة تعابيره ورحابة ثقافته. ولعلّ غيابه المبكر حرمه من ترسيخ تجربته في الأدب التأملي الرؤيوي، ومن الحفر أكبر وأوسع في تاريخ الشعر العربي الحديث. ولد عام 1899 في زحلة. درس في الكلية الشرقية حيث أتقن الفرنسية وأحبّها. ثم انتقل في الرابعة عشرة إلى بيروت متابعاً دراسته في الفرير، وهناك أصدر وهو تلميذ مجلة بعنوان “الأدب” كان يكتبها بخطّه ويوزعها على صفوف المدرسة. اشتغل في التجارة بين بيروت ودمشق وكان يكتب في الصحف اللبنانية والسورية والمصرية. أنشأ مع أسرته معملاً للحرير لكن نفسه لم تألف العمل. توظف بدائرة الميرة والاعاشة في الحرب العالمية الأولى. عمل كمدير لمدرسة العلمين في دمشق ثم أمين سر عميد كلية الطب. هاجر إلى البرازيل قاصداً أخواله ومارس هناك التجارة والصناعة. عايش شعراء المهجر ولمس مبلغ حنينهم إلى الوطن وألَمَهم من جور المستعمر. كتب في المهجر منتقداً العثمانيين وأبناء بلده. وكان إنتاجه زاخراً بالثقافتين العربية والغربية والمناخ البرازيلي. أتقن البرتغالية وكتب بها في الصحف وحاضر في الأندية العربية وأنشأ “المنتدى الزحلي” في سان باولو 1922 وأقام فيه الحفلات ومثّل رواية “سقوط غرناطة” و”ابن حامد”. أما أشهر آثاره فهي ملحمته الشعرية “بساط الريح”، التي وصف فيها جمال الشرق الروحي مقارنةً بجماد الغرب، ولُقِّب بسببها بـ”شاعر الطيّارة”، وهو يسامر النجوم ويصادق الكواكب وصولاً إلى روح نورانية لا تعرف المطامع. وتعتبر ملحمته هذه في رأي النقّاد من أهم الآثار العربية الحديثة التي جمعت سمو الخيال والهدف وروعة الشعر بحسب جورج صيدح. وقد ترجمت إلى سبع لغات. كتب لأيضًا ملحمة “شعلة العذاب” لكنه لم يكملها. توفي في عز شبابه إثر عملية جراحية عام 1930 وخسر الشعر العربي طاقة شعرية يصعب تعويضها. عكس شعره تقلّب النفس المعذبة وشجن القلب الحزين الغامض الذي اخذ قلبه إلى بلبال وعقله إلى بحران. وإذا كان من فضل لأحد في شعره فهي عائلته وحزنه وحنينه وزحله. لكن حزنه لم يظهر في شعره كشعور فحسب بل كفلسفة حياة. ولا شك أن تأثير أبي العلاء المعري كان واضحاً عليه وكذلك رباعيات الخيام وهو كتب غير مرة “تعب كلها الحياة وهذا/ كل مال فيلسوف المعرة”. ذهب فوزي المعلوف في سفر إلى أعماق المعنى وكان ينتقد المظاهر في الحياة ويسميها الأعراض الخادعة. بقيت رومنطيقيته أصيلة ومتفردة. يقول: “يا يراعي ما زلت خير صديق/ لي منذ امتزجت به وستبقى/ باسماً من تعاستي حين أهنأ/ باكياً من تعاستي حين أشفى”. احتفظت والدته السيدة عفيفة ابراهيم برسائل عدة من نجلها فوزي وبقيت في حوزتها 45 سنة حتى وفاتها، وواحدة منها مؤرخة في 1 تشرين الأول 1921 وهو في طريقه إلى البرازيل، يقول فيها: “سيدتي الوالدة الحنون، اكتب إليك هذه الرسالة من غرفتي في اللوكندة والساعة لا تتجاوز العاشرة ليلاً. وقد انفردت وحدي كما أفعل أكثر الليالي تاركاً المدينة وضوضاءها. مختلياً بنفسي طائراً بروحي وافكاري إلى بلدي إلى مهد طفولتي، وملهى شبابي حيث تقف هذه الروح هائمة فوق أعزّ مكان لديّ وهو منزلي الذي انتمي فيه. فأراكم بعين الخيال. أنت وسيدي الوالد وحولكما الإخوة الأعزاء. فأتمنى لو أنني لا أزال صغيراً… أتمنى كل ذلك ولكن وأسفاه بعيد عني. وما أنا غير غريب لا أم تواسيه ولا أباً يحنو عليه ولا اخوة يلاعبهم. ولا أهل يحبونه ويحبهم… كلما جئت مرة إلى فراشي اذكر الليلة الأخيرة التي قضيتها في البيت وأنت بجانبي في الفراش تبكين وابكي! وتضمينني إلى صدرك وأضمّك إلى صدري! وما أحلى هذه الذكرى وأمرّها على قلبي”. اسمعه يخاطب فؤاده: “يا فؤادي وأنت مني كلي/ ليت حكمي يوماً عليك يصح/ فيك كنز لم تعط إلا قليلاً/ منه والحسن لا يزال يلح/ إن جود الفقير بالنزر جود/ حيث جود الغني بالوفر شح”. هو شاعرٌ متين يعرف أسرار اللغة ويعرف كيف ينطلق من التقليد إلى التجديد وفي شعره دعوة إلى التحرر من القيود التي تشدّ الإنسان إلى الاستعباد. عارض قصيدة “كاريزفون” لأحمد شوقي في قصيدة تفوّق فيها عليه ونشرت في “المقتطف” في القاهرة ولما قرأها الشاعر خليل مطران قال: “كأن فوزي كان حاضراً وشوقي غائباً عن مصر”. فامتعض شوقي وقاطع خليل زمناً. قال عنه عميد الأدب العربي طه حسين: “مرّ فوزي مرّاً سريعاً ولكنه نزل في النفوس صدى يتردد منها حلواً لاذعاً محرقاً معاً. ولا اعرف أني تأثرت بشاعر كما تأثرت بهذا الشاعر الشاب حين قرأت قصيدته “على بساط الريح” فاهتزّت لها نفسي اهتزازاً، وما أرى إلا أني سأقرأها وسأجد في قراءتها هذه اللذة المرّة التي يحبها الأديب حين يقرأ الشعر الجيد الرائع الجميل”. من مؤلفاته المطبوعة: “على بساط الريح” بالعربية والبرتغالية والاسبانية. رواية “ابن حامد” أو “سقوط غرناطة” ط أولى، العصبة الأندلسية في سان باولو والثانية في بيروت 1956. “ديوان فوزي المعلوف” 1957. ومن آثاره النثرية أيضاً بعض القصص التي نشرها في مجلة والده “الآثار”. ومقالات نشر بعضها في الصحف بعنوان “على ضفاف بردى” وفي جريدة “حرمون”. وصدرت منتخبات من شعره ونثره بعنوان “فوزي المعلوف – مناهل الأدب”. وثمة مؤلفات له لم تطبع ولا شيء يبرّر عدم طباعتها نذكر منها: “من قلب السماء”، “صفحات غرام”، “على ضفاف الكوثر” “الحمامة في القفص”، و”مجموعة شعره الوطني والفكاهي”. كُتبت أطروحات جامعية كثيرة عن تأثيره في الشعر العربي. صدرت أعماله الكاملة في بيروت عام 2004. ويقول الناقد عبده وازن: “أما مشروعه الشعري فيتجلّى بالنزعة الرؤيوية التي تميّزت بها قصيدته “على بساط الريح” حيث يقترب أن يكون شاعراً ميتافيزيقياً وكان بعيداً من مضارب الفلسفة والثقافة الفلسفية”. يقول الشاعر والأديب جوزيف صايغ (ابن زحلة) “أن فوزي معلوف لو اعطي عمراً لكان ابداعه أكمل ودوره أفضل”. أزيح الستار عن تمثاله البرونزي المنصوب في حديقة الشعراء في زحلة في 12 أيلول 1937 ونال وسام الاستحقاق اللبناني المذهّب بعد الوفاة في حضور ممثل رئاسة الجمهورية. يوم وفاته رثاه شقيقه الشاعر شفيق المعلوف فقال: “وطفقت ابحث عنه في التراب/ تاج تدحرج عن جبين أبي”. ورغم العمر القصير إلا أن تاجه بقي عزيزاً مضفوراً على هامة الشعر العربي.