المصدر النهار
25082017
في #نهار_من_الأرشيف، جزءاً جديداً من سلسلة “الأسطورة والأمبراطورية والدولة اليهودية القنوات السرية للمفاوضات العربية-الأسرائيلية”، التي كتبها محمد حسنين هيكل. يحمل هذا الجزء عنوان: “ترومان يأمر بالإعتراف بدولة إسرائيل فور إعلانها”، وكانت قد نشرته “النهار” بتاريخ 28 آذار 1996.
مع اقتراب 15 ايار 1948 موعد الانسحاب البريطاني من فلسطين، بعد قرار التقسيم، تسارعت الاتصالات والضغوط اليهودية بغية ضمان الاعتراف الدولي بالدولة اليهودية فور اعلانها، ولاسيما من جانب الولايات المتحدة، وتحاشي اصطدام قوات “الهاغاناه” التابعة للولايات اليهودية مع الجيوش العربية ولاسيما مع جيشي الاردن ومصر. وسعى العرب من جهتهم الى تحقيق نوع من الهدنة في فلسطين وتحاشي سيطرة اليهود على فلسطين بكاملها، يساعد على ذلك الانكليز. وتروي الوثائٍق السرية التي ينشرها محمد حسنين هيكل في هذه الحلقة (12) من ثلاثيته عن “القنوات السرية للمفاوضات العربية – الاسرائيلية” الايام الحاسمة والفاصلة عن موعد الجلاء البريطاني عن فلسطين والاستعداد اليهودي لادارة المناطق التي سيخليها الانكليز، مظهرين الاستعداد كذلك لجبه اي تدخلات عسكرية عربية. وبين ما تكشفه الوثائق حضور غولدا مائير الى عمان متسترة بعباءة وعقال اردنيين، للاجتماع بالملك عبدالله ومحاولة تحييد الجيش الذي يقوده ضباط انكليز.
ونجحت المساعي اليهودية مع الرئىس هاري ترومان فاصدر تعليماته بالاعتراف بدولة اسرائيل فور اعلانه، وقت اظهر العرب تضعضعاً وارتباكا، على رغم قرار مصر دخول الحرب، وسلموا قيادة جيوشهم الى ضابط عراقي فضل لعبة “الثلاث اوراق” مع محتال في احد شوارع القاهرة على حضور اجتماع عسكري مهم.
وتنشر “النهار” ثلاثية هيكل بموجب ترتيب مع “دار الشروق” في القاهرة التي تصدر الكتب الثلاثة كل واحد على حدة. -12- موشي شرتوك “لا داعي الى الخوف من العرب فهم ضعفاء بطريقة بائسة”. (حاييم وايزمان للسفير الأميركي الدائم في الأمم المتحدة). ان الوثائق البريطانية والاميركية والاسرائيلية، وكلها الان متاحة، تكفي لمعرفة ما كان يجري في الخفاء طوال عام 1947. لكن هناك ثلاث حقائق يمكن رصدها من خلال قراءة دقيقة لهذه الوثائق:
1- الحقيقة الاولى ان الولايات المتحدة الاميركية، رئيسها وحكومتها ايضا، اصبحت بالكامل من انصار قيام دولة يهودية في فلسطين، مع ادراكها كل المصاعب التي تنتظرها على الطريق. ان الرئيس الاميركي هاري ترومان مضى في طريقه نحو فتح ابواب هجرة اليهود واقامة دولة يهودية في فلسطين، لا يلوي على شيء. ويمكن ان يقال ان مصالحه الانتخابية وارتباطاته الشخصية والسياسية كانت محركه، ولكن الذي لا يقبل الشك في الوقت عينه ان بقية اجهزة الدولة الاميركية اقتفت خطى الرئيس. ولم يكن ذلك بمجرد ضغط منه، وانما الى جانب ذلك كان نتيجة تقديراتها لأوضاع متغيرة افرزت رؤية استراتيجية مختلفة. وكانت الحرب الباردة ومطالبها هي اظهر الاعتبارات التي افسحت المجال لهذه الرؤية. وربما ان السياسة الاميركية، وقد آل اليها ارث الشرق الاوسط بكامله عن بريطانيا، لم تلبث ان اكتشفت اهمية منطق نابوليون وبعده بالمرستون في افضلية عزل مصر عن سوريا، وبعده عزل عرب افريقيا عن عرب المشرق اذا امكن.
2- والحقيقة الثانية ان تقسيم فلسطين اصبح قرارا نافذا من الجمعية العمومية للأمم المتحدة صدر يوم 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947 برقم 181. وفي اجواء اشبه ما تكون بعاصفة اجتاحت ليك ساكسس حيث المقر المؤقت للامم المتحدة في نيويورك. لقد تعرض مندوبو الدول في الجمعية لصنوف من الضغط بدت لا تقاوم، واستهدفت توفير غالبية كافية للموافقة على قرار التقسيم. (وهناك تفاصيل كثيرة معروفة وشائعة عن تهديدات وجهت الى رؤساء دول، وعن رشاوى دفعت لمندوبين، وعن شركات اميركية كبرى تدخلت لارغام اصوات على تغيير اتجاهها، واشهر مثال على ذلك ما حدث من شركة فايرستون للمطاط مع رئيس جمهورية ليبيريا حتى يفرض تغيير صوت بلاده من لا الى نعم للتقسيم. والنتيجة ان قرار التقسيم بدا عملية فرض بالقوة اكثر منه عملية اختيار لحل مناسب.
3- والحقيقة الثالثة ان العرب في هذه الفترة كانوا بالفعل شبه عراة من كل الوسائل اللازمة لتغطية مواقفهم في مواجهة من هذا النوع. وبعد اسابيع قليلة من صدور قرار التقسيم بدا العالم العربي اشبه ما يكون بجسد كبير عاجز عن الحركة، واذا تحرك فقد كان اول ايحاء تعطيه حركته انها صادرة عن مركز عصبي فقد تماسكه. وبدأت 1948، وهي السنة التي قامت فيها الدولة اليهودية في فلسطين والاجواء مختلطة، والضباب يغطي الساحة، والخطى متعثرة. في أواخر 1947 اعلنت الحكومة البريطانية انه، وقد صدر قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين دولة عربية ودولة يهودية، فانه لم يعد امامها (الحكومة البريطانية) الا ان تسحب قواتها من فلسطين فاتحة المجال بذلك لتنفيذ قرار المجتمع الدولي. وهكذا وجد الكل انفسهم امام امر واقع عليهم ان يواجهوه، كل بطريقته ووفق رؤاه. وكانت الرؤية فوضى واسعة ترسم الوثائق صورة حية لها.
وثيقة رقم 47/-/2 ج مذكرة من السفارة البريطانية في واشنطن الى وزارة الخارجية الاميركية. “التاريخ: 5 يناير (كانون الثاني)، 1948 “سري جدا” 1- اثناء مناقشة بين المستر بيفن (وزير خارجية بريطانيا) والمستر مارشال (رئيس أركان حرب الجيش الاميركي السابق الذي اختاره الرئيس ترومان لكي يكون وزيرا لخارجيته) وذلك حينما اجتمع الاثنان في لندن يوم 17 ديسمبر (كانون الاول) 1947، عبر المستر بيفن عن رأيه ان ردود فعل الحكومات العربية حيال قرارات الامم المتحدة في شأن فلسطين كانت أسوا مما توقع على رغم كل الجهود التي بذلها الممثلون البريطانيون في العالم العربي “لتعقيل” الحكومات العربية.
وقال المستر بيفن انه سوف يقابل كل الممثلين العرب في لندن واحدا بعد الاخر لكي يتولى “تركيزهم” (to steady them). ان الحكومة البريطانية تخشى ان الموقف في الشرق الاوسط سوف يفلت زمامه، وقد يعرض المصالح البريطانية والاميركية للخطر هناك، وهو امر لا يستفيد منه الا الاتحاد السوفياتي.
2- ولتوضيح وجهة نظره اكثر فان المستر بيفن اشار الى ملخص للاتصالات التي اجراها الممثلون البريطانيون في عدد من العواصم العربية المعتمدة لديها. ومنها امكن استخلاص ردود الفعل العربية حيال ما اعلنته الحكومة البريطانية من انها تنوي سحب قواتها من فلسطين.
أ – ان كل المسؤولين العرب اعطوا تأكيدات انهم سوف يتجنبون القيام بأي عمل يؤدي الى احتكاك مع القوات البريطانية في الفترة السابقة للانسحاب، لكنهم مع ذلك لا يعرفون كيف يمكن تجنب المخاطر التي ستنشأ اذا ما افترض الاخرون ان معارضة العرب تقسيم فلسطين سوف تقتصر على مجرد الكلام وان يكن عنيفا.
ب – ان كل الحكومات العربية لا تعتقد انها تستطيع كبح جماح مواطنيها عن التطوع للقتال في فلسطين. وقد ورد ذلك بالنص على لسان وزير خارجية مصر (احمد خشبة باشا)، ونائب رئيس وزارة العراق ورياض الصلح رئيس وزراء لبنان، وجميل مردم رئيس وزراء سوريا، وسمير الرفاعي باشا رئيس وزراء الاردن.
ج – ان هناك قلقا واضحا في شأن ما اذا كان اليهود سيضبطون تصرفاتهم، او ان احدا ينصحهم بذلك على نحو مؤثر. وقد عبر عن هذا الرأي وزير خارجية مصر والشيخ يوسف ياسين وكيل وزارة الخارجية السعودية. ومن الواضح ان هذا القلق مبعثه تكرار اعتداء اليهود على العرب في فلسطين، وكثرة اعداد الضحايا بين العرب.
د – لقد كانت هناك مرارة واضحة لدى كل المسؤولين العرب ضد الحكومة البريطانية، واكثر ضد حكومة الولايات المتحدة الاميركية. وفي التعبير عن المرارة ضد الحكومة الاميركية بالذات فقد تكررت الاشارات الى ديبلوماسية الدولار . ومن الملحوظ انه بدت من البعض تعبيرات عن الرغبة في الصداقة مع بريطانيا، وفي الغالب ان تلك كانت محاولة للعب ببريطانيا ضد الولايات المتحدة.
ه – من المؤكد ان هذه الاوضاع سوف تؤثر على كل محاولات اقامة نظام للدفاع عن الشرق الاوسط. وعلى سبيل المثال فان رياض الصلح رئيس وزراء لبنان اهاب بالحكومة البريطانية ان تعزز صداقاتها مع العرب. واشار الى المفاوضات التي تجري بين بريطانيا وكل من العراق ومصر. كما انه قلل من قيمة الاتفاق مع شرق الاردن قائلا: ” اي فائدة لهذا الاتفاق اذا ضاعت فلسطين؟”
3 – ان هناك علامات ظاهرة على رغبة عامة في التفاهم مع بريطانيا، ومن دون هذا التعاون يخشى الزعماء العرب ان الامور سوف تفلت من ايديهم، ان احداً من هؤلاء الزعماء لم يشرح بوضوح ماذا يريد منا، ولكن مؤدى كلامهم جميعا يمكن ترجمته في عبارة “اليس في مقدوركم ان تفعلوا شيئا لمساعدتنا؟”
4- ان هذه المشاعر جرى التعبير عنها في احاديث مع نوري السعيد وصالح جبر (رئيسا وزراء في العراق). وكان رئيس الديوان الملكي تحسين قدري هو الاكثر صراحة في شرح ما يريد. وقال للسفير البريطاني في بغداد “لمدة ثلاثين عاما كانت الحكومة البريطانية هي التي تقول لنا كيف نتصرف. وكنا بالفعل نتصرف لما فيه مصلحة البلدين. والان للمرة الاولى فانتم لا تقولون لنا شيئا سوى النصح بالتزام الهدوء. والوصي على العرش والحكومة يريدان ما هو اكثر والا فان “الاعداء” سوف يجدونها فرصة لتكثيف الضغوط علينا”.
5 – هناك تفاصيل لها تأثير على الموقف العام يستحسن وضعها في الاعتبار، ومنها ان الحكومة الاردنية تركز اهتمامها على ان تحصل لنفسها على القسم العربي من فلسطين، وتعتقد ان في امكانها ان تتوصل الى اتفاق في هذا الشأن مع اليهود. لكنها تحت الضغط مضطرة الى مسايرة الرأي العام العربي. ……….. ………..
كان الرئيس الاميركي هاري ترومان يعرف “ما يريد”، كما انه كان يعرف ما يريده الاخرون عارفا حدود كل منهم – وهكذا تتحدث الوثائق:
وثيقة رقم 448 -2/ج 090 711 مذكرة كتبها السفير الاميركي في العراق (وادسورث) الى مدير قسم الشرق الاوسط في وزارة الخارجية الاميركية (لوي هندرسون) عن مقابلة له مع الرئيس ترومان. “التاريخ: 4 فبراير (شباط) 1948 “سري جدا” الموضوع: حوار مع الرئيس. كما تعلم فانني قابلت الرئيس وقد قدمت اليه مذكرة بواسطة مساعده لشؤون الامن القومي الاميرال سويرز، وتم ذلك قبل الاجتماع لكي يكون على علم مسبق بما انوي ان اتحدث فيه، وكان بناء على طلب الاميرال سويرز.
وقد استقبلني الرئيس عند الظهر تماما وتحدثنا لمدة خمس عشرة دقيقة. قال لي الرئيس انه قرأ الورقة التي ارسلتها اليه، وعقب بقوله “ان الاوضاع في الشرق الاوسط هي التي تشغله الان”. وقد قلت له انني اريد ان اعرف منه مباشرة ما اذا كانت حكومة الولايات المتحدة تفكر في ارسال قوات الى الشرق الاوسط لكي تفرض قرار تقسيم فلسطين، وقد رد على الفور بقوله انه يفضل ان يعمل بواسطة الامم المتحدة.
واضاف الرئيس ان ذلك هو ما قاله بالضبط للامير فيصل ولأمير اليمن وللوصي على عرش العراق الذي اجتمع به لمدة ساعتين كاملتين. وقال الرئيس انه لفت نظر الوصي الى ضرورة الاهتمام بالمشروعات الكبرى في العراق بدلا من الانشغال بمشاكل بلاد اخرى مثل فلسطين.
وقال الرئيس في هذا الصدد ان لديهم (العراقيين) مشروعا مثل مشروع تنمية وادي دجلة والفرات بأموال النفط العربية التي يحصلون عليها، فالعراق بلد يحتاج الى التنمية. وفي كل مرة دخل الغزاة اليه، من اول تيمورلنك حتى الاخرين، فانهم حطموا في طريقهم كل شيء.
ان الغزاة يفعلون ذلك باستمرار. واما نحن – قال الرئيس – فللمرة الاولى في التاريخ تكون سياسة الغزاة هي التوجيه الى البناء”. وقلت للرئىس انه يصعب تحويل نظر العراق عما يجري في فلسطين، والعرب اليوم يريدون منا اجابة واضحة عن سؤال واحد وهو ما اذا كنا سوف نقبل بالضغوط الصهيونية ونبعث بقوات اميركية او قوات تابعة للامم المتحدة لفرض قرار التقسيم. ورد الرئيس: “اننا لن نفعل شيئا من ذلك، ولكني لا استطيع ان اعطيهم ضمانات بان لا افعل قبل ان يؤكدوا لي هم انهم لن يستعملوا السلاح لعرقلة التقسيم”.
وقلت للرئيس انني افهم وجهة نظره، واقترحت عليه ابلاغها الى كل رؤساء البعثات الاميركية في الشرق الاوسط. وعقب الرئيس بقوله: “ان العرب ليس لديهم اي شيء اكثر من حجج قانونية”. ………… ………… الامضاء وادسورث”.
وثيقة رقم 3/فلسطين ب ب 501 برقية من الوزير المفوض في السعودية (تشايلدز) الى وزير الخارجية. “التاريخ: جدة 13 مارس (آذار) 1948 اخطرني عزام باشا الذي جاء الى جدة اليوم بعد مقابلة الملك عبد الله في عمان انه تم الاتفاق على ان يرسل عزام باشا بصفته امينا عاما للجامعة العربية رسالة تحذير عام من اصدار اي تصريحات يمكن ان يعتبرها مجلس الامن تهديدا للسلام الدولي. وقد شرح لي ان النزاع في فلسطين هو نزاع مدني، ويجب من وجهة نظر عربية عدم اعطاء الفرصة لاحد كي يتدخل بالقوة في فلسطين. وقد اخطرته بمضمون برقيتكم الرقم 76 في تاريخ 1 مارس (آذار)، وعلى الفور راح عزام باشا يكتب برقية الى وزير الخارجية السوري يؤكد عليه فيها الامتناع عن اصدار اي تصريحات تحمل نبرة التهديد. الامضاء تشايلدز”.
كانت ساعة الحسم تقترب، وموشي شرتوك المسؤول في الوكالة اليهودية عن العلاقات الدولية (وفي ما بعد وزير خارجية اسرائيل، ثم رئيس وزرائها) هو الذي يمسك بزمام التوجيه في الساحة الاميركية، وكان يتحرك بوضوح وحزم، وبشهادة الوثائق:
وثيقة رقم 2648 – 3/01 ن 867 مذكرة عن مناقشة بين وزير الخارجية وكل من المستر موشي شرتوك والمستر الياهو ابيشتين من الوكالة اليهودية في فلسطين. التاريخ: 26 مارس (آذار) 1948 جاء المستر شرتوك الى مقابلة الوزير الذي دعاه الى الاجتماع به. شرح الوزير للاثنين هدفه الذي من اجله طلبهما لمقابلته. وقال الوزير انه يريد ان يستطلع رأي الوكالة اليهودية في امر اجتماع يمكن ترتيبه بين الهيئة العربية العليا والوكالة بقصد ترتيب وقف للعمليات العدائية في فلسطين، او هدنة.
وسأله المستر شرتوك ان يكون محددا في وصف الفرق بين التعبيرين اللذين استعملهما، وهما: “وقف الاعمال العدائية” او “الهدنة”. وقال الوزير انه يقصد ترتيب وقف اطلاق نار اولا، ثم اتفاق على هدنة بعده. ورد المستر شرتوك ان موقف الوكالة اليهودية واضح، وان الشعب اليهودي في فلسطين لن يوافق على هدنة بينما هناك قوات اجنبية في فلسطين وامدادات تتسلل عبر الحدود.
وقال شرتوك انه لا يعني بالقوات الاجنبية قوات الانتداب البريطاني، وانما يعني اعدادا من المتطوعين العرب دخلوا الى فلسطين من سوريا ولبنان وشرق الاردن والعراق. واشار بالتحديد الى مجموعة متطوعين عراقيين اقاموا معسكرا لهم قرب محطة المياه عند القدس. وقال له الوزير “ان الولايات المتحدة تريد حقن الدماء، وتريد الوصول الى نوع من التوفيق بين الاطراف” وهو يريد ان يسأل المستر شرتوك كيف امكن التعرف على هوية هؤلاء المتطوعين العرب الذين اشار اليهم ورد شرتوك “انه لا يعرف كيف يمكن تحديدهم لانه من الصعب تمييزهم من السكان العرب”.
وتوجه الوزير بسؤال مباشر الى المستر شرتوك: “هل الوكالة اليهودية مستعدة لقبول هدنة اذا كان بين شروطها سحب اي متطوعين عرب مسلحين من فلسطين؟” ورد المستر شرتوك ان “ذلك لا يكفي لان العرب سوف يستغلون فرصة الهدنة لبناء قوة تتسلل في اي وقت ومعها اسلحة اضافية تعزز نشاطها، وهم سوف ينتهزون فرصة التزام قوات الهاغاناه الهدنة ويعززون قوتهم مطمئنين الى انهم لن يهاجموا”. وقال المستر شرتوك انه مستعد لان يوصي الوكالة اليهودية بقبول هدنة بالشروط الاتية:
1- الوقف الكامل لكل العمليات العسكرية بما في ذلك تحريم كل انواع الارهاب.
2- سحب جميع العناصر المسلحة التي تسللت الى فلسطين من اراض مجاورة.
3- قيام نظام للرقابة على الحدود تكون له القدرة على منع اي تسلل.
4- ان تحفظ الوكالة اليهودية لنفسها بالحق في مقاومة اي عمل ترى من شأنه الاضرار بهذه الهدنة. وابدى المستر شرتوك “ان الوكالة اليهودية اعدت برنامجا عالي الكفاية لتحمل مسؤولية الادارة فور انتهاء الانتداب البريطاني يوم 15 مايو (ايار)، وذلك في الاراضي المخصصة لها بمقتضى قرار التقسيم”.
ان الوزير سأل المستر شرتوك عن “استعداد المستعمرات اليهودية في فلسطين للدفاع عن نفسها؟” ورد المستر شرتوك ان “هذه المستعمرات جاهزة للدفاع عن نفسها الى الابد”. وسأله الوزير “عما يكون عليه الحال اذا احس اليهود ان الميزان سوف ينتقل الى مصلحة العرب ونشبت معارك على نطاق واسع وتدخل متطوعون عرب؟” وقال المستر شرتوك “ان هناك عددا كبيرا من المتطوعين اليهود سوف يجيء من كل انحاء العالم، وانهم يعرفون ان ذلك سوف يحدث مضاعفات دولية خطيرة، وعلى القوى المهتمة بالمنطقة ان تتدبر ذلك”. ثم راح المستر شرتوك يشكو من الحكومة البريطانية التي اصبحت تعتمد على مجموعة من الشيوخ العرب والباشوات المصريين. …………………….. ……………………..
وثيقة رقم 1548 -4/فلسطين ب ب 501 برقية من المندوب الدائم للولايات المتحدة (اوستن) الى وزير الخارجية. “التاريخ: 15 ابريل (نيسان) 1948 “سري وعاجل” دعاني الدكتور حاييم وايزمان ومعي السفير جيسوب الى لقائه بعد ظهر امس، وقد وجدنا ابا ايبان عنده. وقال لنا (الدكتور وايزمان) انه لا يفهم تردد الولايات المتحدة ازاء ما يجري في فلسطين. وهو يتساءل “ما هو مبعث التردد؟ هل هو الخوف من العرب؟ هل هو النفط؟ هل هو الخوف من روسيا؟” وقد راح الدكتور وايزمان يجيب بنفسه عن اسئلته قائلاً: “اما عن العرب فليس هناك داع من اي نوع للخوف منهم، فهم ضعفاء بطريقة بائسة. واما عن نفط العرب فانهم لا يستطيعون ان يبيعوه الا للولايات المتحدة، وعلى سبيل المثال فهل نخشى انهم يمكن ان يبيعوا نفطهم للروس؟ واذا باعوه للروس فماذا يفعلون بالروبلات التي سيحصلون عليها؟
واستطرد الدكتور وايزمان قائلاً: “هل تخشون من ان الدولة اليهودية سوف تكون متأثرة بالروس؟” ثم اجاب بنفسه مرة اخرى: “انه ليس هناك داع للخوف من هذا التأثير، فالعملاء البلاشفة حاولوا منذ عام 1920 ان يجدوا لانفسهم موطئ قدم بين المستوطنين اليهود، وقد فشلوا في ذلك فشلاً ذريعاً”. ان الدكتور وايزمان انتقل بعد ذلك الى المساعدات التي يمكن ان تقدمها الولايات المتحدة الى الدولة اليهودية. وقد تحدثنا في هذا الموضوع بصفة عامة، ومن دون التزامات محددة. الامضاء اوستن”.
وثيقة رقم 2248 – 4/01 ن 867 برقية من القنصل العام الاميركي في القدس (واسون) الى وزير الخارجية. “القدس: 22 ابريل (نيسان) 1948 في ما يأتي نص التصريح الذي صدر عن المؤتمر الصهيوني العام: لقد قررنا اعتماداً على السلطة المخولة للحركة الصهيونية وبتأييد الشعب اليهودي بأسره، انه فور انتهاء نظام الانتداب والحكم الاجنبي في فلسطين فان الجهاز الحاكم لدولة يهودية سوف يقوم بتولي المسؤولية. ان الدولة التي يقيمها الشعب اليهودي في بلده سوف تضمن العدل والحرية والمساواة لكل السكان بصرف النظر عن الديانة والعنصر والجنس وبلد المهجر. ان هدفنا ان نجعلها دولة لكل اللاجئين من شعبنا الذين تجمعوا هنا، دولة تسودها السعادة والعلم، وتضيئها رؤى انبياء اسرائيل. وفي هذه الساعة التي فرض علينا فيها القتال، فاننا نهيب بالعرب داخل الدولة اليهودية والدول العربية في الاراضي المجاورة لنا، ان يقبلوا اخوّتنا وتعاوننا من اجل السلام. ………. ………. الامضاء واسون”.
على رغم ذلك فقد كان العرب على استعداد للتفاهم حتى هذه اللحظة، وذلك من اسباب عدة اولها انهم لم يكونوا قد حزموا امرهم على شيء محدد، هكذا تقول الوثائق: وثيقة رقم 2548 – 4/ فلسطين ب ب 501 برقية من المندوب الدائم للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة السفير اوستن الى وزير الخارجية. “نيويورك: 25 ابريل (نيسان) 1948 عقد بروسكاور (رئيس اللجنة اليهودية – الاميركية) اجتماعين مع فوزي بك المندوب المصري (ىقصد الدكتور محمد فوزي مندوب مصر في مجلس الأمن وقتها، وقد اصبح في ما بعد نائباً لرئيس الجمهورية ورئيساً للوزراء).
وكان فوزي بك خلال الاجتماعين متقبلاً بما فيه الكفاية فكرة تشجيع اتصالات بين العرب واليهود في فلسطين بهدف ترتيب هدنة تيسر ترتيب الاحوال فور انتهاء الانتداب البريطاني. وقال فوزي بك انه مخول من القاهرة وفي الغالب من الجامعة العربية ايضاً بحسب اشارته بأن يجلس مع وسطاء وممثلين يهود للبحث في الموقف كله من دون تعهد نهائي من جانبه. الامضاء اوستن”.
وثيقة رقم 2648 – 4/01 ن 867 برقية من السفير الاميركي في القاهرة (بنكين تاك) الى وزير الخارجية “القاهرة: 25 ابريل (نيسان) 1948 “سري” تناقش الآن في القاهرة خطط لدخول قوات عربية الى فلسطين عندما ينتهي الانتداب البريطاني. ويبدو العراق متحمساً، كما تبدو الحكومة المصرية معارضة طبقاً لما علمته من مصادر مصرية بحسب الاطلاع. ان النقراشي باشا (محمود فهمي النقراشي رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت) ابدى معارضة في النقاط الآتية:
1- خوفه من ان يؤثر اشتراك مصر في مثل هذه العمليات على قضيتها المطروحة على الأمم المتحدة، وقد عرضها بنفسه على مجلس الأمن طالباً جلاء القوات البريطانية عن بلاده.
2- ان القوات المصرية مشغولة الآن في مهمات داخلية. فهناك مخاوف من ان يقوم الوفد باثارة متاعب، كما ان هناك قلقاً من احتمال انقلاب عسكري يقوم به الجيش. واخيراً هناك احتمال ان يتجدد اضراب البوليس المصري (1).
3- ان القوات المصرية ليست مسلحة او مجهزة بطريقة كافية، وبالتالي فاشتراكها في اي عمليات في فلسطين سوف يكون بلا اثر، ومن المعروف على نطاق واسع ان مخاوف النقراشي باشا من هزيمة تلحق بالجيش المصري على ايدي اليهود سوف توجه ضربة قاضية الى ادعاءاته (في مجلس الأمن حين عرض قضية مصر وطالب بجلاء الانكليز) ان مصر قادرة على الدفاع عن نفسها وعن قناة السويس من دون مساعدة اجنبية.
4- ان النقراشي باشا خائف من ان يظهر عجز الجيوش العربية عن حماية فلسطين مما يؤدي الى الاضرار بايمان الشعب الفلسطيني بانتمائه العربي. ان الامير عبد الله الوصي على عرش العراق كان هنا وفي صحبته عدد من ضباط الجيش العراقي. ومن الواضح ان هدفه كان التأثير على الملك فاروق لكي يؤيد قراراً في شأن اشتراك الجيوش العربية في الدفاع عن فلسطين، وهو قرار اعد مشروعه خلال اجتماعات عقدتها اللجنة العسكرية للجامعة العربية اخيراً في عمان. وقد فهمت ان الوصي على عرش العراق يحض الملك فاروق بمنطق ان مصر لا يمكن ان تقوم بدور اقل مما تقوم به بقية الدول العربية الاخرى والا فقدت مكانتها وهيبتها في العالم العربي. ……… ……… الامضاء بنكني تاك”.
وثيقة رقم 2848 – 4/01 ن 867 برقية من السفير الاميركي في مصر بنكني تاك الى وزير الخارجية. “القاهرة: 28 ابريل (نيسان) 1948 يبدو ان الدول العربية توصلت الى قرار بدخول قواتها الى فلسطين، وطبقاً لمعلومات حصلت عليها من عزام باشا وعدد آخر من المصادر المطلعة، فان الامر لم يحسم بعد بطريقة قاطعة، ولن يتم ذلك قبل:
1- موافقة ابن سعود وحكومتي سوريا ولبنان.
2- اعطاء الفرصة للمتطوعين اذا ظهر انهم قادرون على حماية السكان الفلسطينيين.
3- اذا امكن تعبئة الجيوش العربية وتنسيق جهودها. ان عزام باشا سافر اليوم الى بيروت ودمشق وعمان والرياض لاستطلاع المواقف وتنسيق الجهود.
كذلك توجه حلمي حسين بك(2) مبعوثاً من الملك فاروق الى الرياض برسالة الى الملك ابن سعود. ان طبيعة الاتفاقات التي جرت بين الدول العربية لم تتضح بعد، ولكن يبدو طبقاً لمصادر مطلعة ان الاردن والعراق والقوات السورية معززة بوحدات من لبنان سوف تقوم بالمجهود الرئيسي. واما مساهمة مصر فسوف تقتصر على المساعدات المالية حتى يتضح الموقف بعد انتهاء الانتداب يوم 15 مايو (ايار). ان وفود العراق والاردن وكذلك الوفد المصري ايدت اتخاذ اجراءات كافية لتنفيس ضغط الرأي العام. ولا تزال الحكومة المصرية تعارض دخول قوات رسمية قبل 15 مايو (ايار). وليس هناك دليل يدعونا الى الاعتقاد ان الملك فاروق غيّر تأكيداته لي ان القوات المصرية لن تدخل فلسطين قبل ان تتضح الاحوال في 15 مايو (ايار).
وقد تم اخطار السفارة البريطانية هنا بأن لا تسيء فهم تحرك قوات مصرية الى العريش، فهذا اجراء يهدف الى طمأنة الرأي العام المصري وارضائه بأن بلده لن يتخلف عن العمل العربي العام. وقد اكدت مصادر مطلعة في الجيش المصري لنا ان قطارين محملين بقوات عسكرية مصرية غادرا القاهرة الى العريش يوم 27 ابريل (نيسان)، وعليهما مجموعة قيادة وقوة كتيبة واحدة مزودة مدافع رشاشة، وكذلك مجموعة مشاة، وتعداد القوات كلها الف ومئة جندي.
ان عزام باشا قال لفيليب ايرلاند (السكرتير الاول للسفارة الاميركية في القاهرة) “ان تطور الاحداثفي فلسطين يشير الى تصميم اليهود فيها على مواجهة العالم بأمر واقع يوم 14 مايو (ايار) حين يعلنون قيام دولة يهودية ثم تتوغل قواتهم في الاراضي المخصصة للدولة العربية قدر ما تستطيع ان تصل، وان هذا هو الذي جعله يغير رأيه في شأن دخول الجيوش العربية فلسطين، وهو يشعر بأن الامور قد تصل الى حد انسحاب كل الدول العربية من الأمم المتحدة. …….. …….. الامضاء بنكني تاك
وثيقة رقم 3048 – 4/01 ن 867 برقية من السفير الاميركي في مصر بنكني تاك الى وزير الخارجية القاهرة: 30 ابريل (نيسان) 1948 تلقينا مذكرة من الجامعة العربية في شأن الاماكن المقدسة في القدس وضرورة حمايتها من العمليات العسكرية التي تقوم بها القوات الصهيونية في فلسطين. وتقترح المذكرة حفاظاً على هذه المقدسات من اي عدوان، التزام جميع الاطراف وقف اي اشتباكات مسلحة داخل القدس. وقد ابدت الجامعة استعدادها لتمويل قوة دولية خاصة تقوم بحماية هذه الاماكن المقدسة. ………. ………. امضاء بنكني تاك
كانت الحكومات في حالة حيرة شديدة، ثم انها كانت تمارس مقداراً كبيراً جداً من ضبط النفس امام تجربة لم يتهيأ لها أحد. النقراشي باشا “كيف نستطيع اعلان الاعتراف بدولة لم يعلن قيامها بعد؟”. (مساعد وزير الخارجية الاميركي في حوار مع مستشار الرئيس الاميركي). كان ضغط الشعوب العربية على حكوماتها هائلاً. وقد بدا ما توقعه الامين العام لجامعة الدول العربية عبد الرحمن عزام باشا على وشك ان يتحقق، ومؤداه ان اليهود سوف يضعون العرب والعالم امام امر واقع فيقيمون دولتهم في الاراضي المخصصة لهم بقرار التقسيم، ثم لا يتوقفون هناك. كانت الوكالة اليهودية قد تحولت بالفعل حكومة.
وكان لهذه الوكالة جيش متمثل في قوات “الهاغاناه” (قوات الدفاع)، وكان جيشها اكبر من كل توقعات العرب وحتى خيالاتهم. ثم ان هذا الجيش قادر على الامساك فوراً بالمناطق المخصصة للدولة اليهودية، وهو بعدها جاهز للوثوب على ارض الدولة العربية في فلسطين. وفي مقابل ذلك، فان شعب فلسطين مكشوف ينتظر المدد العربي. وقد وصلت الى ارضه بالفعل مجموعات من قوات المتطوعين العرب: من سوريا والعراق في الشمال، ومن مصر في الجنوب على الخط ما بين العوجة الى بئر سبع والى بيت لحم. لكن قوات المتطوعين على بسالتها، وخصوصاً القوات المصرية بقيادة الاميرالاي احمد عبد العزيز، لم تكن في وضع يسمح لها بالوقوف امام قوات “الهاغاناه” التي كانت على وشك ان تتحول “جيش الدفاع الاسرائيلي”.
ولم يكن امام الدول العربية خيار سوى ان تتقدم نحو ساحات فلسطين بخطى متثاقلة. وكان الواضح ان الدول العربية كلها تقصر عملياتها على الاجزاء العربية من فلسطين، لكي تؤمنها وتحميها من اغارة القوات اليهودية عليها. وكان معنى ذلك واقعياً، وان لم يكن قانونياً، ان الدول العربية اعترفت بقرار التقسيم وقررت العمل في حدوده. كانت الدول العربية قد انشأت قيادة عليا لجيوشها تنسق استراتيجية عملها في فلسطين. وقد رؤي ان يتولى الملك عبد الله ملك الاردن هذه القيادة العليا بنفسه. وكانت لذلك اسباب عملية اهمها ما يأتي:
1- ان الاردن هو اقرب البلدان العربية الى قلب فلسطين. وبالتالي فان قواته قادرة على الوصول بسهولة الى المناطق الحيوية في العمق الفلسطيني.
2- ان الملك عبد الله كان لديه واحد من اقوى الجيوش العربية المجهزة لنوع ما من القتال. فالفيلق العربي الذي انشأه الانكليز وتولوا كل المراكز الحساسة في قياداته، ووضعوا على رأسه قائده الشهير غلوب باشا – كان على مستوى عسكري افضل حالاً من بقية الجيوش العربية.
3- وساعدت على هذا الوضع حقيقة ان مصر لم تكن حتى وقت متأخر قد حسمت رأيها على دخول الحرب. وبالتالي فان جيشها، على فرض انه كان مستعداً، كانت بينه وبين ميادين القتال مسافات واسعة.
4- وربما اضيف الى كل هذه الاسباب ان معظم الدول العربية كانت تشك في نيات الملك عبد الله وتتصور ان هدفه هو ضم فلسطين العربية الى مملكته. وكان الظن ان تولي الملك قيادة الجيوش العربية سوف يكبح جماح طموحه الشخصي بثقة عربية ظاهرة وصلت الى حد اختياره قائداً اعلى لكل الجيوس العربية.
وكانت تحت القيادة العليا التي يتولاها الملك قيادة عامة للجيوش العربية اسندت الى اللواء العراقي اسماعيل صفوت باشا. وقد وضعت هذه القيادة خططاً طموحة على الورق، لكن الذين وضعوها انفسهم كانوا يعرفون مسبقاً انها مستحيلة التحقيق. فالقائد العام صفوت باشا لن تكون له في حقيقة الامر اي سلطة على بقية الجيوش العربية لأن هذه الجيوش سوف تكون باستمرار في يد حكوماتها التي كانت لكل منها حسابات خاصة تختلف اكثر مما تتفق. وكان اسماعيل صفوت باشا ضابطاً لم يعش تجربة ميادين القتال، وقد ترقى الى رتبته الرفيعة كما هو الحال في معظم الجيوش العربية وقتها، بحكم الاقدمية، وبتقدير انه ضابط مأمون لا يتجاوز تفكيره حدود خرائطه.
والواقع ان اسماعيل صفوت باشا خسر قيادته قبل ان يمارسها. فقد حدث قبل اسبوع من بدء القتال انه خرج من الفندق الذي يقيم فيه في القاهرة، وهو فندق “شبرد” القديم” ليتريض قبل ان يحضر اجتماعاً للجنة العسكرية لجامعة الدول العربية. وبجوار سوار الازبكية شاهد اللواء صفوت باشا مجموعة صغيرة من المارة يلتفون حول رجل يلعب معهم لعبة “الثلاث ورقات”، ووقف القائد العام للجيوش العربية يشاهد ما يجري، ويبدو ان اللعبة اثارته فشارك فيها.
وفي عشر دقائق كان اللواء صفوت باشا قد خسر كل ما معه من نقود، وكان مبلغ 286 جنيهاً. ولم يكتف صفوت باشا بخسارة امواله، وانما دخل في مشادة مع لاعب “الثلاث ورقات” وصلت الى قسم بوليس الازبكية. وتعطل القائد العام للجيوش العربية عن حضور اجتماع اللجنة العربية عن حضور اجتماع اللجنة العسكرية، وحين وصل اليها متأخراً كانت تفاصيل حادثة النصب التي وقع ضحيتها قد سبقته الى هناك، وكانت دليل شؤم مبكر. ومن مجمل الاوضاع وحقائقها ان الملك عبد الله مارس دور القائد الاعلى من دون ان يكون بجانبه قائد عام ميداني ينسق العمليات بين الجبهات العربية المشتركة، وفي واقع الامر فان هذه المهمة انتهت بطريقة عملية الى يد الجنرال غلوب باشا والى رئيس اركان حربه البريغادير برودهيرست.
وكان مزعجاً ان تكون مقاليد العمل العربي العسكري في هذه اللحظات الحاسمة في يد مجموعة من الضباط الانكليز. …….. …….. ويوم الاربعاء 12 مايو (ايار) 1948 كان النقراشي باشا يقف امام جلسة سرية لمجلس النواب المصري مكاشفاً اعضاء المجلس بقرار من الحكومة الاشتراك في معارك فلسطين.
كان رئيس الوزراء المصري قد غيّر موقفه في دورة كاملة عن موقفه الاصلي. ففي البداية كان متردداً لاسباب لديه معقولة (سبقت الاشارة اليها في سياق برقية من السفير الاميركي في القاهرة الى وزير خارجيته). وبعدها بايام – يوم 12 مايو (ايار) – كان النقراشي باشا قد انقلب من معارض لاشتراك الجيش المصري في معارك فلسطين الى مؤيد له. ومن الانصاف للرجل انه فعل ذلك من دون ان تكون لديه فكرة واضحة عن القوة العسكرية للدولة اليهودية، والى جانب ذلك فان الملك فاروق كان يمارس عليه ضغطاً شديداً كي لا تتخلف مصر عن بقية الدول العربية، وتفقد مكانتها في العالم العربي، وخصوصاً مشرقه.
في اليوم عينه (12 مايو /ايار 1948) كان هناك اجتماع في البيت الابيض برئاسة هاري ترومان رئيس الولايات المتحدة نفسه، وقد حضره مع الرئيس كل من وزير الخارجية (آتشيسون) ومساعد الوزير (لوفيت)، وكلارك كليفورد وديفيد نايلز وماثيو كونيللي من مستشاري الرئيس في البيت الابيض، واثنان من خبراء وزارة الخارجية هما فريزر ويلكنز وروبرت ماكلينتوك. وطبقاً للوثيقة الرقم 1248 – 5/ ب ب فلسطين 501 – فان وقائع هذه الجلسة جرت على النحو الآتي:
“بدأ الرئيس فقال انه دعا الى هذا الاجتماع لأنه اصبح شديد القلق على ما يمكن ان يحدث في فلسطين يوم 15 مايو (ايار)، وبدأ المستر لوفيت يقدم عرضاً وافياً للحوادث، ثم ركز كلامه على وقائع يوم السبت 8 مايو (ايار) وحين جاء المستر موشي شرتوك مندوب الوكالة اليهودية. ففي ذلك اليوم جاء شرتوك ومعه الدكتور ابيشتين بمعلومات مهمة عرضها على الوزير. قال المستر شرتوك “ان وزير المستعمرات البريطاني السير آرثر كريتش جونز اخبره رسمياً ان الملك عبد الله ملك الاردن سوف يدخل بجيشه يوم 15 مايو (ايار) الى الاجزاء العربية المخصصة للعرب في فلسطين.
وفي رأي وزير المواصلات البريطاني ان هذا التعهد من الملك عبد الله يمكن الاطمئنان اليه بواقع ان الجيش الاردني يقوده ضباط بريطانيون وتموله الحكومة البريطانية. اضاف شرتوك الى ذلك ان رسالة وصلته من الوكالة اليهودية في فلسطين اخطرته ان الكولونيل غولدي من هيئة اركان حرب الفيلق العربي الاردني اتصل بالوكالة اليهودية ناقلاً رسالة مؤداها ان صفقة يمكن ترتيبها بين عبد الله والوكالة، وان الملك سوف يدخل الاجزاء العربية من فلسطين تاركاً لليهود ملكية بقية هذا البلد. ……. ……. تدخل المستر كلارك كليفورد(4) في المناقشة فاوضح ثلاث نقاط:
النقطة الاولى: ان تقسيم فلسطين قد وقع فعلاً من دون تدخل قوات خارجية.
النقطة الثانية: ان المستر كليفورد توجه الى الرئيس طالباً منه ان يعطي اعترافه الرسمي للدولة اليهودية في فلسطين فور انتهاء الانتداب البريطاني يوم 15 مايو (ايار)، وفي رأيه ان الولايات المتحدة يجب ان تسبق الاتحاد السوفياتي في الاعتراف بالدولة اليهودية.
والنقطة الثالثة: ان الرئيس يجب ان يعلن في مؤتمره الصحافي في اليوم التالي (13 مايو/ ايار) عزم الولايات المتحدة على الاعتراف بالدولة اليهودية. وقدم المستر كليفورد مشروع صياغة لما يمكن ان يقوله الرئيس في تصريحه، كان نصه: “انني طلبت من وزير الخارجية ان يطلب من ممثل الولايات المتحدة في الأمم المتحدة ان يحصل في وقت مبكر من اعضاء المنظمة الدولية بالاعتراف بالدولة اليهودية في فلسطين”. واعترض مساعد الوزير المستر لوفيت قائلاً “ان ذلك سوف يكون استباقاً للأمور لا داعي اليه، فكيف يمكن ان تعلن الأمم المتحدة اعترافها بدولة لم يعلن قيامها بعد؟”. …….. …….. وافق الرئيس على مشروع اعلان يقول “انني انظر بروح العطف الى انشاء دولة يهودية في فلسطين طبقاً لقرار الأمم المتحدة بتاريخ 29 نوفمبر (تشرين الثاني). وعندما يجري اعلان دولة يهودية في فلسطين فاني ارى ان تقدم الولايات المتحدة اعترافها بهذه الدولة”.
ثم تجيء وثيقة اميركية تالية برقم 4814 – 5/1- ن 867، وقد جاء فيه ما يأتي: “تلقت وزارة الخارجية في الساعة 45ر5 بعد ظهر يوم 14 مايو (ايار) 1947 رسالة من المستر كلارك كليفورد المستشار الخاص للرئيس ترومان جاء فيها: “ان الرئيس عرف ان دولة يهودية باسم “اسرائيل” سوف يعلن قيامها في فلسطين في الساعة السادسة بعد ظهر اليوم (اي بعد ربع ساعة من رسالة كليفورد). ان الرئيس طلب مني اخطار الوفد في الأمم المتحدة باعلان اعتراف الولايات المتحدة بهذه الدولة فور اعلان قيامها”. وقد اضاف كليفورد في رسالة الرئيس الى وزارة الخارجية، وقد تلقاها الوزير المفوض دين راسك (اصبح بعد ذلك وزيراً للخارجية مع الرئيس كينيدي): “هذا ما يرغب الرئيس في عمله، وقد اخطرتكم به”.
في الساعات عينها تقريباً، وبالتوازي مع ما كان يحدث في مجلس النواب المصري وفي البيت الابيض الاميركي، كان هناك مشهد اكثر غرابة يجري في عمان، فقد وصلت الى العاصمة الاردنية السيدة غولدا مائير( وزيرة الخارجية ورئيسة وزراء اسرائيل) مندوبة عن الوكالة اليهودية، وكانت متخفية في زي رجل بدوي لموعد مرتب مع الملك عبد الله ملك الاردن. وكان ذلك اجتماع الساعة الاخيرة قبل ان تقترب الجيوش العربية من حدود فلسطين. كانت الوكالة اليهودية تحسب مبكراً حساباً لبلدين: الاردن، بحكم ان الفيلق العربي قريب بأكثر من اللازم من فلسطين، بل ان احد الويته كان يعمل بالفعل على موقع من جسر اللنبي الى القدس، بما في ذلك منطقة اريحا. وكان البلد الثاني هو مصر باعتبار ما تمثله من وزن سياسي وتأثير ادبي ومعنوي على بقية العالم العربي. ولم تكن لاسرائيل دعاوى دينية او اسطورية في الاراضي المصرية.
كان حجم مصر كان قوة من نوع تختلف عن كل ما يحيط بفلسطين في المشرق. وكان ذلك الحجم في حد ذاته “طاقة” لا تريد اسرائيل ان تشتبك معها. وفي ما يتعلق بالاردن والملك عبد الله فقد كانت الوكالة اليهودية باستمرار على علاقة به، كما انه كان على علاقة بها. وفي الواقع فان سفرة غولدا مائير السرية الى عمان يوم 12 مايو (ايار) كانت تكملة لاجتماع غير حاسم بين الملك عبد الله وموشي شرتوك. وكان الاجتماع بين الملك وشرتوك قد جرى يوم 12 ابريل (نيسان)، اي قبل شهر من سفرة غولدا مائير. وفي ذلك اليوم (12 ابريل/ نيسان) قال الملك لخاصته انه يريد ان يزور مقام الصحابي الجليل ابي عبيدة بن الجراح.
ويروي اللواء عبد الله التل القائد الاردني لمنطقة القدس والذي جرى اللقاء في منطقة قيادته، ان الملك وصل الى مزرعة احد اصدقائه في منطقة الغور ثم مشى من بين الاشجار الى مستعمرة مشروع “روتنبرغ” (للكهرباء)، وهناك كان في انتظاره موشي شرتوك الذي دعي للغداء معه الى مائدة مضيفه. ويظهر ان الاجتماع لم يصل الى نتيجة مرضية، وبقيت الاتصالات معلقة بعده مرتبطة باجتماع يعقد سراً في ما بعد في عمان. لكن شرتوك كان قد اوفد الى نيويورك، وقررت الوكالة اليهودية ان تقبل تطوع غولدا مائير لاداء المهمة بدلاً منه.
وليلة 12 مايو (ايار) وصلت سيارة يقودها احد رجال الملك الى منطقة الغور والى المزرعة عينها التي تم فيها لقاء الملك مع شرتوك قبل شهر. وفي الساعة التاسعة كانت غولدا مائير ترتدي الكوفية والعقال وعباءة فوقها وتدخل الى خلفية السيارة، ثم تتوجه مباشرة من هناك الى بيت للملك على اطراف عمان. كانت الساعة الحادية عشرة مساء، وطبقاً لوصف اللواء عبد الله التل فان غولدا مائير كانت مضطربة ولم تتناول عشاء امر الملك باعداده. ولاحظ الملك اضطرابها فراح يلاطفها لتهدئة مشاعرها، وقد راحت بعد ذلك تعرض عليه آخر مقترحات الوكالة اليهودية، وكانت على النحو الآتي:
1- ان يعلن جلالة الملك الصلح مع اليهود، ولا يبعث بجيشه الى فلسطين بالمرة.
2- ان يرسل جلالته والياً ليحكم القسم العربي من فلسطين بحسب قرار التقسيم.
3- في مقابل ذلك تقبل الوكالة اليهودية ضم القسم العربي في فلسطين الى التاج الهاشمي.
وروى اللواء عبد الله التل ان “جلالته رفض تنفيذ الشرط الاول لأنه يظهره مظهر الخارج على الاجماع العربي. وتعهد الملك في مقابل ذلك “ان لا يحدث صدام بين جيشه والجيش اليهودي”، وان يقف الجيشان في الحدود التي رسمها التقسيم. “وقبلت غولدا مائير رأي جلالة الملك واخذت عليه العهد بذلك”. والغريب ان الانسان العربي العادي، وبغير معلومات، كان، بشعوره الباطن، يحس بأن موقف الملك عبد الله في الباطن غيره في الظاهر.
وجرى في سهل اريحا في اليوم التالي مشهد بالغ الغرابة حين وقف الملك، غداة اجتماعه مع غولدا مائير، يستعرض فرقة من جيشه كانت تعسكر بالفعل في المنطقة، وقيل انها ذاهبة الى القدس لحمايتها. بدا المشهد مهيباً، فسهل اريحا منبسط، وتلال الخان الاحمر تبدو من بعيد غامضة مثقلة بعبء الاساطير. وفرقة الجيش الاردني مصطفة وموسيقاها تدق، والملك عبد الله واقف على منصة مرتفعة ووراءه يقف الجنرال غلوب باشا واركانات حربه من الضباط الانكليز. ونادى الملك على امام مسجد عجوز وضرير دعي الى حضور الاحتفال، وقال له: “ايها الشيخ… عظ الجيش”.
ووقف الشيخ العجوز الضرير على المنصة بجوار الملك وهو لا يرى شيئاً ولكنه يحس بكل شيء. صمت لحظات وانظار الكل وآذانهم معلقة به، ثم صاح منادياً: “ايها الجيش، ليتك لنا”. فوجئ الملك بما قاله الشيخ، وهمس قائلا: “قبحك الله، ضرير اعمى بعينيك واعمى بقلبك”. واقتيد الشيخ من المنصة، لكن آفاق اريحا كانت تتجاوب باصداء الحقيقة. فالجيش الاردني بالفعل كان جيشاً عربياً، لكنه في تلك اللحظة من تاريخه لم يكن ملكاً للعرب.
(1) كان البوليس المصري لمطالب تتعلق بالمرتبات، قام بالفعل باضراب عام امتد اسبوعين ابتداء من 5 ابريل (نيسان) 1948، وخلال هذا الحادث غير المسبوق في تاريخ مصر فان قوات الجيش كانت تقوم بمهمات المحافظة على الأمن.
(2) كان الاميرالاي حلمي حسين بك هو المسؤول عن التنقلات في العصر الملكي، ومن الغريب ان يعهد اليه مهمات سياسية على هذا المستوى العالي والدقيق.
(3) كان كلارك كليفورد بعد ذلك احد اطراف واحدة من اكبر فضائح المصارف العربية في الولايات المتحدة. فبعض العرب لم يجدوا غيره ليكون رجلهم في مشروعاتهم المالية في اميركا! الحلقة المقبلة: ايبان ينصح بعدم التفاوض مع العرب.