26-08-2021 | 00:04 المصدر: النهار


غلاف الكتاب
صدر هذا الشهر للزميل جهاد الزين كتابه الجديد تحت عنوان “حرائق في ثقافتنا السياسية” عن “الدار العربية للعلوم ناشرون”. الكتاب (342 صفحة من القطع الكبير) استهله الكاتب بمقدمة بحثية طويلة تحت عنوان: تدقيق جنائي في الثقافتين اللبنانية والعربية ننشر هنا جزءًا منها. والكتاب يضم مراجعات نقدية لـ47 كتاباً لبنانياً وعربياً وغربياً كما بضع مراجعات لأفلام سينمائية إسرائيلية وإيرانية وأميركية تصب كلها في إطار معضلات الثقافة السياسية المعاصرة في أبعادها السياسية والثقافية والدينية والاجتماعية السائدة. وكلها نتاجات اختارها الكاتب من بين قراءاته على مدى ربع قرن واعتبرها جزءًا لا يتجزأ مما يسمّيه “التهابات” الثقافة السياسية السائدة. التاريخ كائنا ما ما كان، أكان كتلةً أو مساراتٍ أو تصوراتٍ، ليس مهذّباً. أكثرُ كُتُبِ التاريخ وحشيّةً في الوقائع والأحداث والأفكار تنطوي، بمجرّد الكتابة عنها ومحاولة تسجيلها، على تهذيبٍ للتاريخ لا يملكه التاريخ الذي يمتلئ بتحولات غير عادلة لبعض البشر أو المجتمعات أو الدول. التاريخ في إنهائه ظواهرَ أو عهوداً وحكّاماً وسياسيين أو إمبراطورياتٍ وإماراتٍ أو دولاً أو دفعهم إلى الولادة والاستمرار، ينطوي أحيانا على حقارة نتائج إن لم يكن حقارة قوة. ماذا نسمّي الدورة الخلدونية: هل هي إثبات لمنحى التاريخ غيرالعادل أم نتأمّل في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، وأكرِّر التاريخ الحديث، فنجد أنه تاريخ غير خلدوني لأنه انْبنى على القوتين العسكرية والثقافية للغرب في تغيير بنية منطقة من خارجها أي لم ينبع من الدورة الخلدونية الشهيرة للازدهار والانحطاط وهذا ما أعنيه هنا بالنموذج غير الخلدوني؟ لقد قام الشرق الأوسط الحديث على اجتياح التفوّق الحضاري للتخلف الحضاري وأبْرزُ نتاجاتِه حدودُ دول متعدّدة ومضطربة؟ ومجتمعات “جديدة” بمعنى أنها حملت هوياتٍ لم تكن لها أو لمعظمها أو لبعضها سابقا. و”سابقا” هنا تعني بشكل خاص، في الشرق الأوسط قبل الحرب العالمية الأولى، بما فيها التسمية نفسها “الشرق الأوسط” التي تكرّست كتوصيف سياسي نطلقه أحيانا على أنفسنا بعدما كان لزمن طويل مصطلحاً جغرافيّاً عسكريّاً أميركيّاً أو بريطانيّاً بدأ ب “الشرق الأدنى” وانتهى متوسِّعاً إلى “الشرق الأوسط”. لستُ مطّلعاً على التاريخ الدقيق للصفة ولتحوّلِها، غير أنني من جيل وُلِد وصار يقرأ لاحقاً كفتىً في الصحف عن “المبعوثين الأميركيين إلى الشرق الأوسط” قبل أن تُتاح له بعد عشرين عاما دخول مبانٍ في لندن، مقر وزارة الخارجية، وفي واشنطن، مقر وزارة الخارجية ومبنى البنتاغون، مقر وزارة الدفاع وجناح الصحافة والإعلام في البيت الأبيض، ومكتب الناطق الرسمي باسمه…مكاتب هي الأكثر تداولاً لمصطلح “الشرق الأوسط” وبعضها ساهم على الأرجح في توليده. كنتُ دائما كمتابع ثقافي أنظر إلى ظواهر عديدة في ثقافة منطقتي السياسية المعاصرة كما يقف مراقبٌ على رأس تلٍّ يشاهد حرائقَ مندلعةً ومتقطِّعةً وأحيانا “أليفة”، على مساحة هو في وسطها ولكنه ليس داخلها. هكذا اخترتُ العديد من الكتب التي قرأتها كما لو أنني أبحث عن بدايات الأحداث التي هي في الواقع لا تبدأ، وإذا بدأَتْ فمن حيث لم أتوقّع، وإذا توقَّعْتُ، فمن حيث لم “ألمس”، وإذا انتهتْ فمن حيث أنها لا تزال مستمرة النهايات. مصطلح الثقافة السياسية الذي يستخدمه الكثيرون أكاديميين أوكتاباً أو صحافيين أو ناشطين سياسيين يستلزم مني هنا العودة إلى سؤال أساسي وهو:ما هي الثقافة السياسية؟ هل هي مجموع المعايير التي تعتنقها جماعة أو فرد في النظر للشأن العام؟ هل هي المستوى العام من التحصيل والمخزون الثقافيين اللذين يطبعان بل يقرِّران ردَ الفعل الذي تمارسه جماعة أو فرد حيال الشأن العام؟ هل الثقافة السياسية “جهاز” ذاتي أو جَماعي جاهز لتلقي الحدث السياسي ثم الانفعال معه بنمطٍ معياريٍّ ما؟ مالذي “يلتهب” في ثقافة سياسية ما؟ هل هو الالتهاب الذي يُنتِج المحرَّمَ أو الممنوعَ أو الخطِرَ (بمعنى الإحساس بالخطورة؟) وكيف تتجدّد ثقافة سياسية؟ بكسر المحظورات (والمسموحات) القديمة أم بإنتاج محظورات ومسموحات جديدة؟ ماهو الالتهاب إذن في الثقافة السياسية وما هو الاحتراق كنتيجة؟ كيف تُولد المبادرات غير التقليدية في نظام المحظورات نفسه وكيف تتحوّل إلى معايير؟ لنصل إلى السؤال الأعقد والأسهل معاً: هل الثقافة السياسية ينتجها المثقفون؟ أم هي حصيلة مداولات وتحولات تنتجها فئة اجتماعية أو مجموعة نخبوية أو قيادة سياسية أو تراكم عمل أفراد مهنتهم الثقافة؟ يأخذنا البحث بطبيعة الحال إلى خارج سياسيّةِ الثقافة، إلى متداوَلِها المتعدد المستويات.طالما شغلني موضوع الخوف في الثقافة السياسية. يحتاج الأمر إلى شجاعة كبيرة لتناوله! هل يصنع الخوف ثقافة سياسية أم يحميها من خارج حاملها لصالح مُوظِّفيها(بكسر الظاء) إذا كان يجوز التقسيم بين الحامل والموظِّف، أي المستفيد منها من حيث افتراض ثقافة فرد أو جماعة يتلقفها أو يمارسها أو يفكِّر عبرها أو يستفيد منها. أكاد أقول لا ثقافة سياسية من دون عزلة ما فردية أو جماعية. تعريف “العزلة” هنا ليس الجمود بل الغشاء “الصلب” المتين حياتيا وتبادلُها، أي المفردات والمفاهيم، مع النفْس ومع الآخر، كذلك بالنسبة للجماعة مع الجماعة ومع الجماعات الأخرى. سيصعب بطبيعة الحال تعريف العزلة في زمن الإنترنت والتلفزيون بل حتى قبل ذلك بالمذياع والهاتف والصحافة المكتوبة ولكن المحاولات الجديرة بالاهتمام فعلا هي المحاولات التي يقوم بها علم الاجتماع أكثر من الاقتصاد وأكثر من السياسة في التعريف المعاصر للعزلة الثقافية في هذا العصر. كيف تصبح المعلومة عنصرا ثقافيا عازلاً لا من حيث صحتها أوعدم صحتها بل من حيث طاقتها على ما يمكن أن أسمّيه الاحتواء المعلوماتي العازل. لا أرغب بالتوقف طويلاً عند المثال الكلاسيكي عن العزلة وما تؤدي إليه لدى جماعة ما من تقييمات خارج السياق العام للأحداث، وهو المثال الذي يفتتح به والتر ليبمان كتابَه الشهير “الرأي العام” (1922-Public Opinion) عن ردود فعل سكان جزيرة لم يعرفوا بنشوب الحرب العالمية الأولى. نستطيع أن نفهم عزلة صدام حسين خلال الحصار الذي تعرّض له العراق بعد هزيمته في حرب الخليج الثانية التي أعقبت احتلال الكويت واضطراره للاعتماد على شخص واحد من خَدَمِه الشخصيين لتوصيل رسائل الاتصال بمساعديه من أركان النظام العراقي حتى أصبح هذا الخادم الشخصي “أقوى شخصية سياسية في الدولة بعد صدام” في معظم التسعينات من القرن العشرين المنصرم حتى إسقاط صدام وفراره العاثر عام 2003، كما أكّد لي أحد المقربين الشخصيين من صدام الراحل الياس الفرزلي اللبناني الوثيق الصلة به وبالنظام في العراق وكان منزل الفرزلي في باريس مكان اتصالات سياسية هامة للنظام العراقي على مدى سنوات طويلة. لم يكن صدام حسين قادراً على ارتداء ساعة يد يمكن أن تلتقطها الأقمار الصناعية، أي تشير إلى مكان حاملها، كما يقول الشاهد نفسه. هذا حاكم معزول فعلا في عزلة صارمة يمكن أن تفلت منه معرفة أوضاع الداخل والخارج. أما حاكم مثل حسني مبارك يعيش حياة طبيعية كرئيس دولة في ظروف عادية فلا يمكن فهم عزلته وقصور تقييماته بسهولة وأهمها سقوطه المهين الذي كان بلا شك يستطيع تلافيه لو توفّر لديه تقييم “الحس السليم” الذي كان يتداوله رجل الشارع والنخبة المصرية نفسها باستثناء مجموعة ضيِّقة من المستفيدين منه أو من عائلته سقطت معه وبسرعة. وسأشرح في السطور اللاحقة لماذا أربط هذه التجربة بالثقافة السياسيّة.. أشعر هنا، لأنني في المجال التأملي الثقافي، أنني ألامس معطيات “سائلة” وغائمة، ذروةُ وضوحها كطبقات الضباب التي يراها المسافر من مقعده في الطائرة. يبدو لي هذا التشبيه الممل مفيدا على مستوى واحد هو تلازم الضباب مع الخوف. هي موجات الخوف التي تنفصل عنا فيما هي تطلع منا لتحدد معنى ومجال ردود فعلنا في الثقافة السياسية. سمع عديدون باكرا وداخل مصر شخصياتٍ من التركيبة الحاكمة خلال سنوات 2005-2010 تجزم أن توريث جمال مبارك نجل حسني مبارك للرئاسة غير ممكن بل مستحيل. ومرة كان ممدوح البلتاجي الذي شغل مناصب وزير السياحة ووزير الشباب ووزير الإعلام، وقبلها رئيس مصلحة الاستعلامات سنواتٍ قبل ثورة ميدان التحرير، يقول لي ولزميل مصري عام 2006 على مدخل قاعة احتفال شبابي ل”الحزب الوطني” كان سيرعاه نجل الرئيس المصري الذي كان الحديث عن تحضيره للوراثة قد انطلق، أن هذا المشروع مستحيل. اعتقدتُ يومها أن ما تفوّه به البلتاجي كان زلة لسان بل حماقة تدل أنه سيُصرف من موقعه. هذا ناهيك عن العديد من الآراء التي ظهرت حتى في الصحافة المصرية تنتقد بأشكال مباشرة وغير مباشرة مشروع التوريث. إذن أظهرت الأحداث أن الرئيس حسني مبارك رابع رئيس لمصر يأتي من الجيش ويأتي به الجيش ويحكم باسمه لم يكن يفهم أهم معادلة مستمرة في الدولة المصرية منذ عام 1952 وهو أنه لا يستطيع أن يأتي بمدني للرئاسة حتى لو كان ابنه. لاحقا في شتاء عام 2010 وكنت مدعواً إلى لقاءات في وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن، بتنظيم من سفارتها في بيروت، قال لي رئيس دائرة مصر ولبنان ( لا أعلم إذا كان هذا التنظيم الإداري الذي يضم البلدين لا يزال سارياً في “الستايت ديبارتمانت”) أن معلومات تتردد من القاهرة أن الجيش المصري يعارض توريث جمال مبارك. أعترف أنني يومها وبسبب كون الديبلوماسي الذي كان يستقبلني هو من ديبلوماسيي الدرجة الثانية في الوزارة لم أعر أهمية لمعلوماته تلك واعتبرتها تكرارا لثرثرات سياسية وإعلامية ولم أكن أعلم أن الرجل كان ينقل لي معلومة أصلية كبيرة من أجهزة بلاده، وفوّتُ على نفسي فرصة سبق صحافي حقيقي لو كنت عدت إلى بيروت ونشرتها كمعلومات باسم “مصادر” في وزارة الخارجية الأميركية. بعد أشهر قليلة في خريف العام نفسه ستندلع ثورة الشرائح الشابة المدينية في الطبقة الوسطى المصرية بتشجيع ضمني من بعض أوساط الجيش المصري أو “الدولة العميقة” ضد الرئيس حسني مبارك فتطيح به وبكل مشروعه لتوريث ابنه وسينضم “الإخوان المسلمون” للثورة ويحاولون السيطرة على الدولة عبر نجاح مرشحهم للرئاسة محمد مرسي وخلال سنة سيطيح الجيش ب”الإخوان” مدعوماً من نقمة شعبية وشبابية واسعة ضدهم وخصوصا بعدما حاولوا اللجوء إلى السلاح والحرب الأهلية في مواجهة القوة المسلّحة الشرعية الوحيدة في مجتمع ذي ثقافة سلمية عميقة رغم مزاج نخبه الثوري في تلك الأشهر من العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. هذا يجعلني أقف عند نقطتين رئيسيتين:1- اختلاف الثقافة السياسية بين المجتمع المصري ومجتمعات بلاد الشام أو ليبيا واليمن. الأولى ثقافة سلمية عميقة الجذور في التعاطي مع الدولة “الفرعونية” والأخرى، العراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن حيث ليس فقط فكرة الدولة وتقاليدها غير راسخة ولكن أيضا، وبالترابط، بنية المجتمع طائفية وقبلية وعشائرية، ناهيك طبعا عن كونها بلداناً “جديدة” نشأت على خرائط مُقْتَطعة. 2- لكن بالمقابل ظهر أن الرئيس حافظ الأسد حضّر لتوريث نجله الرئيس بشار بدقة وإحكام ينمان عن فهم عميق وتأسيسي لبنية النظام الذي أقامه والدولة التي سيطر عليها، بينما فات الأمر على الرئيس المصري حسني مبارك. كيف لا يفهم رئيس دولة مهمة كحسني مبارك بنية النظام السياسي الذي يرأسه ويحكمه “وحيداً”!! كأنّ نقصاً ما في “ثقافته السياسية” بمعنى نباهته السياسية يحصل على هذا المستوى الرفيع؟ وكيف يحصل ذلك من شخص “يدير اللعبة” كل هذه السنوات الطويلة أم أن ذلك كان نقصاً في “ثقافة” المراقبين أمثالنا بحيث لم ندرك معنى تقاليد دولة مؤسسات ولو كانت عسكرية؟ بينما في سوريا نجح التوريث فتماسَكَ النظامُ بينما تفكّكت سوريا حوله ولو لفترة؟ “انْفكَّ” البلد وتماسك النظام. ولكن ما لم ندركه “نحن” تبيّن أن رأس النظام المصري والدولة المتربع عليهما 30 عاماً لم يدركه! هل هو “سيندروم هيوبريس” في الطب النفسي الذي يتحوّل فيه صاحب السلطة إلى نوع من “مجنون” مفصول عن الواقع وغير قادر على تقييم الوقائع؟ قد ينطبق ذلك بشكل سهل على شخصية كمعمر القذافي أو صدام حسين ولكن ماذا عن حالة حسني مبارك ومحيطه العائلي الضيِّق؟ لاشك أن عزلةً ما عن الواقع، ولو مذهّبةً، مقرونةً أحياناً (وليس دائما) بنقص ذكاء ومعرفة يمكن أن تصيب دوائر حكم عليا في بلدٍ ما. هذا ما حصل في مصر. في الحقيقة انتبهتُ لاحقا إلى الشكل التحريضي السخيف الذي انضمّ فيه جمال مبارك أبان الفترة الأخيرة من رئاسة والده في تشجيع التوتر الشعبي المصري الجزائري بين المشجّعين خلال مباراة لكرة القدم. بدا كما لو أن جمال مبارك على أحد المدرجات، وإلى جانبه شقيقه، يتوسّلان شعبيةً من الاحتقان المصري في التوتر المصري الجزائري. كان موقفا سخيفا فعلا حين ينخرط فيه ممثلا نخبة حاكمة. ولكن الأهم أنه جزء من سوء تقدير عميق للديناميات الاجتماعية والسياسية المحيطة ب”القصر” بل حتى داخله سيظهر في أحداث ميدان التحرير بعد فترة قصيرة عمليا (…..) كلّما فكّرتُ بالثقافة السياسية باعتبارها “كُلاً” متراكماً وفعّالاً كلّما ظهرتْ على شاشة تفكيري محرماتُها. وبدا لي أن الشرق الأوسط لا يمكنه إنتاج ثقافة سياسية بلا محرّمات ليس فقط دينية بل متعددة المستويات لاسيما، في ما يعنينا هنا، المحرمات السياسية. هل من ثقافة سياسية بلا محرّمات؟ بل هل من ثقافة بلا محرّمات؟ طبعا لا. ولكن النطاق الذي يتيح مناقشة المحرّم أوسع أو أضيق بين ثقافة وأخرى. وهي فروقات جوهرية وليس كمية. هذه أسئلة وأجوبة بديهية…أقف وقفة خاصة هنا عند البيئة الحارسة للمحرّمات الدينية وهي رجال الدين. من المثير للاهتمام أن تركيبة الدول “الجديدة” في المنطقة مع توسيعها لجهاز الدولة وسّعت أيضا الأجهزة التي يعمل من خلالها رجال الدين وهذا ضاعف قدرتهم على الضبط الرقابي للثقافة العامة في البلد المعني ومن خلالها الثقافة السياسية. إلا أن المفارقة ليست هنا فقط بل في كون هذه الأجهزة عموما بهيئاتها المختلفة هي أكثر البيئات ضحالةً ثقافية معرفية وإبداعية وبحيث تمتلئ بأنصاف المتعلمين. طبعا لا يمكن عدم ذكر استثناءات عديدة لكن التعميم هنا جائز. خصوصا كلما تشعّبت الامتدادات في القرى والأحياء الشعبية. وهذا بحد ذاته يطرح مسألة الرقابة على التفكير العام ومبادراته المجهَضة حين تصل للنخبة المنتَجة باستمرار. على أن بعض الدراسات السوسيولوجية التي رصدت انتشار وفعالية الفكر الإسلامي الأصولي لاحظت انسيابا ما سهلا في حركة حاملي هذا الفكر بين القنوات الخلفية للمؤسسات الدينية التي ليست دائما مصنّفة أصولية أو سلفية أو متطرفة. كيف سيتمكّن كتاب مثل “الجهاد في يومياته”(Le Jihad au Quotidien) لبرنارد روجييه وهوكتاب لم أجد نص مراجعتي له لأضمّها إلى هذا الكتاب، كيف سيتمكّن من خلال رصد لبعض المخيمات الفلسطينية ومحيطها في لبنان، أن يثبت أنه لا عائق يمكن أن يقف في القنوات الداخلية لعلاقات المؤسسات الدينية التابعة لدول ذات ممارسات “غير مسيسة” من أن تخترقها علاقات التطرف الأصولي القصوى والإرهابية، من الاحتماء به إلى استخدامه النائم والساخن. كل ذلك يرصده روجييه أو بالأحرى يكتشفه في المسار الاستقصائي الذي انتهجه وكيف تنشط العلاقات من حيث يصبح الفارق بين “المعتدل” والمتطرف أو بين الكادر الديني في مؤسسة رسمية وبين الداعية الأصولي فارقاً وهميا. بقيتُ كمتابع وككاتب وكقارئ خارج الفهم العضوي للعلاقات الأصولية الإسلامية السنية والشيعية. أعترف بذلك لأن هذه الأصوليات خصوصا بعد انفجار الثورة الإيرانية باتت فكر وسيكولوجية جيل مختلف عن جيلي. تنحو دراسات “الصناعة الثقافية” ( the Culture industry-Theodore W. Adorno) إلى التركيزعادةً على الفارق بين الحياة الفعلية والحياة الموازية التي يمنحها استهلاك النتاج التلفزيوني والسينمائي والوقت الذي يمضيه “المستهلك” أي المشاهد بين “الحياتَين” كمصدر الدينامية التجارية، لذلك ربما بالإمكان السؤال، استطراداً بالمعنى الاستهلاكي، وإن يكن غير التجاري العادي، هل هناك “وقت جيّد” في “استهلاك” الثقافة السياسية؟ من أين تأتي الثقافة السياسية كجهاز “استهلاكي” بقدرتها على التأثير حين ترتبط، كما يحصل في تجارب منطقتنا بصورة خاصة، بدورة إنتاج الفاجعة والرد على الفاجعة عبر هذه السلسلة المتنقِّلة بين أفكار المؤامرة والاستعمار والاقتلاع السكاني والإلغاء السياسي وصولاً إلى فكرة الثقافة السياسية عن نفسها كمنظومة مواجِهة للإلغاء الثقافي. وكل هذه مصطلحات تحتاج بالحد الأدنى إلى وضعها بين مزدوجات لإبقاء التحفظ العقلاني في استخدامها رغم حضورها الواقعي. وكيف يمكن تناول دلالات وديناميات الثقافة السياسية في منطقة كمنطقتنا دون الوقوف عند الاغتيال السياسي الذي يطبع مراحل طويلة من تاريخنا المعاصر بل من “ثقافتنا” السياسية؟ (…..)
j.elzein@hotmail.com