
الياس خوري
May 01, 2018
القدس العربي

يتكئ جورج خضر على كلماته التي لا تشيخ، مستعيناً بها على شيخوخة الجسد، كأن هذا الرائي، لم يكن إلا أديباً على صورة كاهن أرثوذكسي تنسّك للغة العرب، محرراً الكلمات من سلطة
الزمن، مبحراً صوب الروح التي هي الكلمة كما علمّنا يوحنا.
منذ شبابي المبكر وقعت والكثيرون من أبناء جيلي تحت سحر كلمات الرجل ذو العينين الخضراوين المشعتين، الذي يتعامل مع الكلمات كما يتعامل الصائغ مع الذهب. يجلو الكلمات ويترك نثار الذهب متناثراً من حوله، ويمشي محاطاً بهالة من نور.
عرفته يافعاً في حركة الشبيبة الارثوذكسية، والتقيت به شاباً في الجامعة اللبنانية حيث كان أستاذاً للحضارة الإسلامية في كلية التربية، وجمعتنا صداقة العمر حيث ضمت أماسينا محمود درويش وخالدة سعيد وأدونيس وسمير الصايغ وآخرين، وكان سمير قصير خاتمة العقد فيها. في تلك الأماسي كان الأدب مائدتنا في مقابسات نستمع فيها إلى هذا الأديب في زي الكاهن، وهذا الكاهن الذي اتخذ لنفسه صفات الأديب.
معه تعلمت حب لغة القرآن وسُحرت بالبيان، وفي صحبته اكتشفت جماليات لغة الروح التي لا تصفو إلا في الأدب، وعلى دربه التقيت بناسك دير الحرف الياس مرقص الذي كان يتلألأ شفافية، وعلى خطاه تراءت دروب «فلسطين المستعادة».
يستطيع آخرون أن يضيئوا جوانب من شخصية هذا الرجل المتعدد المواهب، اللاهوتي والراعي والداعية العلماني الذي كان من أوائل من دعوا إلى فصل الدين عن الدولة، الرافض للنظام الطائفي، صديق رابعة العدوية وإبن عربي… صفات كثيرة تجمعت في رجل واحد لتجعل منه أيقونة حية للمحبة والتواضع ورفض الخضوع للسلطة حتى تلك التي امتلكها.
لكن صديقي جورج خضر هو الأديب الذي لم يكتب سوى مقالات تم جمعها في كتب، وتشكل نموذجاً للأدب الرفيع، ونشر كتاباً واحداً، هو كناية عن سيرة ذاتية ناقصة تحمل عنوان «لو حكيت مسرى الطفولة».
سر جورج خضر هو أنه جسّد الأدب في شخصه، لم يسبق أن رأيت نصاً أدبياً يمشي ويتكلم ويحاور، إنه نص نفسه، الذي منه تنمو المقالات والنصوص كالأغصان التي تتدلّى من شجرة مكتظة
بالحياة.
في هذا النص الحي اكتشفت سر العلاقة بين الأدب والدين، وهو سر لا يحسن تأويله إلا من كان راسخاً في العلمانية، وقادراً في الوقت نفسه على اكتشاف الجماليات التي تشع من نصوص كانت في حاجة إلى إبن طرابلس الشام، الآتي إلى انطاكية حاملاً معه من الفيحاء رائحة عطر النارنج، كي يزيل عنها غبار الأيام.
كبير نقّاد العرب القدماء قدامة بن جعفر، صاحب كتاب «نقد الشعر»، أعلن أن «الشعر غير الدين»، كي يرسم الفارق بين المقدس وبين الأدب الذي يتمرد على كل المقدسات.
وكان قدامة على حق، لأن نقاد العصر العباسي حرروا الأدب من احتمالات الوصاية الدينية، كي يزهر النص الأدبي بتلاوين الحياة.
غير أن عبارة قدامة تخفي سر النصوص الأدبية المدهشة التي تحفل بها النصوص الدينية، كما تخفي البعد الروحي في الأدب.
جورج خضر كان أول من سمح لنا بأن نكتشف هذه الحقيقة عبر ممارسته الأدب في بعده الروحي، والتعامل مع النص الديني في كنوزه الأدبية.
هذا التقاطع بين الأدب والنصوص الدينية والصراع بينهما هو أحد الأسئلة الكبرى التي لا تزال إلى يومنا مدار جدل ونقاش، لكن هناك قاسما مشتركا يجمعهما ويفرقهما في آن معاً. وإذا كان التكسب ومدح الملوك والالتصاق بالسلطة قد أساء إلى البعد الروحي في الأدب، فإن التصاق المؤسسة الدينية بسلطتها وبالسلطات المختلفة قد أساء إلى البعد الأدبي في النصوص الدينية.
فالنص، مهما علا كعبه، يسقط في اللحظة التي يخدم فيها السلطة، سلطة الأدب هي اختلاجات الروح وبحث الإنسان عن المعنى الإنساني وسط ركام التاريخ، وهذا حال النص الديني المنسوج من روح الكلمات، لأنه هو الآخر يسقط ويفقد بعديه الأدبي والروحي حين يخدم السلطة، ويتحول إلى سلطة أو إلى عصا في أيدي السلاطين والمستبدين.
جورج خضر عرف كيف يكتشف الروح في الأدب، فكان تعامله مع الناصريّ، تعاملاً تراجيدياً، يذهب معه إلى الموت وينتظر القيامة.
منذ أربعة وتسعين عاماً، وإبن هذه الثقافة وأحد آبائها، يقف، فاتحاً ذراعيه، معمّداً أبناءها بالكلمة التي كانت جرحاً، كما تقول العرب، لكنها صارت معه بلسماً، يمسح الجروح بزيت المحبة.
بالأمس أعلن جورج خضر تقاعده، وانسحب من موقعه كراعٍ لجبل لبنان وخاطب خليفته بكلمات الرؤيا قبل أن يعود إلى تصوفه الذي بدأ به حياته كراهب لم يسمح له بالترهّب، فترهّب على طريقته، مطراناً يتعفف عن السلطة والمجد الباطل، وكاتباً وأديباً كتب بالنار الملتهبة في أحشائه.
بالأمس، رأيتني أمشي إلى جانب جورج خضر، في طرقات «الجبل الصغير»، مثلما كنت أفعل يافعاً، ورأيته يمسح بكلماته غبار الأيام عن جبيني، ويداوي جروح الروح وآلام المهجرين واللاجئين والغرباء بقبس من شعر امرئ القيس، حيث لا ينتسب الغريب إلا إلى الغريب، على خطى الغريب الأول:
«أجارتنا إنّا غريبانِ ها هنا
وكل غريبٍ للغريبِ نسيبُ».