ناقش برنامج إذاعي عراقي موضوع تثقيف اطفال داعش الذين عاشوا مع التنظيم خلال فترة سيطرته على بعض المدن والمحافظات العراقية لكي يتم زجهم في المجتمع مرة اخرى بدون افكار داعش التي زرعها في عقولهم. وهي فكرة يرحب بها على مستويين. الأول لأنقاذ الأطفال، وهم ضحايا حقيقيون، من مصير مظلم، من خلال تأهيلهم والثاني هو إنقاذ المجتمع من بروز طبقة جديدة من الإرهابيين. خلُص البرنامج الى ان مسؤولية أداء هذه المهمة الإنسانية ـ النفسية ـ التعليمية تقع على وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، بدون التطرق الى « إنجازات» الوزارة السابقة والحالية، ومدى قدرتها على تقديم أية خدمة كانت للمواطن. هنا نصل الى نقطة من الأفضل تسميتها باسمها الصحيح وهي استغفال المواطن إعلاميا، وهي نقطة تقتضي مهارة في التقديم تنتفي فيها « المسؤولية» الى حد لا يعود فيه مجال حتى لمفارقة المضحك المبكي. فمن خلال تكريس الساعة تلو الساعة لمقابلات « المسؤولين» المهرة في لعبة رمي المسؤولية على آخرين وبوجود مقدم برامج يناقش « الآن» دون العودة الى « الأمس»، صار المجال واسعا لكي تمارس معظم أجهزة الإعلام دورا كبيرا في التجهيل السياسي الممنهج وتزوير المعلومات ونشر الأكاذيب بشكل مغلف بالحقيقة، مستغلة انشغال المواطن بالهرولة خلف اساسيات الحياة من ماء وكهرباء وسكن.
يتبدى دور الإعلام التضليلي، بأشكال متعددة، منها، وهو الأذكى، عبر عدم تقديم الصورة كاملة، أحيانا، وفي التركيز على جانب واحد من القضايا وتضخيمه الى حد الغاء وجود بقية الجوانب، أحيانا أخرى. ومع هيمنة جو الخوف من تقديم الحقائق بعيدا عن الاتهامات المتبادلة بين فاسدين سياسيا ـ دينيا ـ أخلاقيا، يصبح حل المواطن الوحيد ان يرفع يديه باتجاه السماء باكيا مناديا « حسبي الله ونعم الوكيل».
نرى في تغطية خبر الحريق الذي اندلع في دار تأهيل الأحداث المشردات بمنطقة الاعظمية في بغداد، مثالا. مسؤولية من موت الفتيات حرقا وإصابة أخريات؟ كيف تمر جريمة بشعة كهذه بدون مساءلة؟ وهل هو الحدث الأول في سلسلة « إنجاز» وزارات مشغولة بنفي المسؤولية؟ ما الذي سيمنع تكرار جرائم مماثلة مستقبلا؟ وما هو دور الإعلام في تغطيتها؟
أدت أجهزة الإعلام دورها المعروف، عراقيا، بامتياز. وهو نشر التصريحات الرسمية، بدون مساءلة أو استقصاء، لعدة وزارات، الواحدة تلو الأخرى، من وزارة العدل الى الداخلية الى وزارة العمل والشؤون الداخلية، بالإضافة الى عدة مسؤولين، وكل جهة تدَعي قيامها بتحقيق عاجل، وكل العراقيين يعرفون ان « التحقيق العاجل» يعني، في الواقع، عدم التحقيق او، غالبا، التحرك السريع لطمس الحقيقة.
إن مأساة دار الحنان ودار الأحداث بالأعظمية تمثل نسبة قليلة من مآس وجرائم يعاني منها كل من تتكفل إحدى الوزارات بـ « رعايته» خاصة الأطفال والاحداث والمسنين
وواصلت أجهزة الإعلام تغطيتها «الجاهزة» حتى بعد تسرب معلومات تدين القائمين على إدارة الدار وعديد المسؤولين من قوات الأمن الى الساسة. وبلغت المهزلة الإعلامية ـ الحكومية أوج ذروتها حين نقلت أجهزة الإعلام، بلا مساءلة أيضا، تصريحا لوزارة العمل ذكر فيه ان ما حدث في دار تأهيل المشردات هو انتحار جماعي للفتيات. سبقه، قبل يوم تصريح لوزارة العدل حول قيام مجموعة من « المودعات المحكومات» بأعمال شغب نتيجة مشاجرة بينهن ادت الى وفاة ستة منهن. تلاها تصريح للوكيل الأقدم بوزارة العمل عن وجود ست جثث لفتيات نزيلات تتراوح اعمارهن بين 14 ـ 17 سنة في إحدى زوايا الغرفة محترقات بالكامل. مؤكدا اعتقال مديرة الدار وعدد من الحارسات والحراس لغرض التحقيق واجراء اللازم، وأنه لم يتبين وجود جريمة جنائية او خطأ بشري. وعادت وزارة العمل، يوم السبت، للتأكيد بأن الحريق كان مدبراً. وإن « 8 نزيلات» لقين مصرعهن وأصيبت 24 بجروح. وبنشاط محموم، يُحسد عليه، عاد وكيل الوزارة، الى منصة التصريحات، مساء السبت لينفي « الاشاعات» (يعني مواقع التواصل الاجتماعي) القائلة ان من اسباب اعمال الشغب والحريق تعود لسوء المعاملة وعدم توفير الخدمات الكافية للنزيلات، مؤكدا «توفير الخدمات والطعام بشكل كافٍ وفقا للمقاييس العالمية، فضلا عن حسن المعاملة «. مركزا على ان الدار محصن « من قبل الحرس والشرطة من الخارج مع عدم وجود تماس من قبلهم مع أي من المستفيدات في الداخل». وللنفي الأخير أهمية خاصة لأنه جاء ردا، على ما نشرته احدى الصحف وتم تناقله عبر الفيسبوك عن وجود شبكة منظمة للدعارة، يديرها ضباط فاسدون، بالتعاون مع موظفين حكوميين وإن الحريق “اندلع بعد شجار بين عدد من النزيلات، وموظفين في الدار، متورطين في إدارة شبكة دعارة تقدم خدمات جنسية لساسة وتجار، لقاء مبالغ مالية».
فأين الحقيقة؟ وكيف يمكن التوصل اليها وقد دفن جزء منها مع الضحايا والجزء الآخر محجوز مع بقية الأحداث، وبعضهم أطفال، وممنوع منعا باتا الحديث معهم؟ كل هذه الجرائم تتم بحق الاحداث والأطفال والعراق هو أحد الموقعين على اتفاقيات حمايتهما ومع وجود قانون عراقي يفصل تفصيلا دقيقا كيفية التعامل مع وحماية وتأهيل الأطفال والأحداث المشردين والجانحين. والأدهى من ذلك، هذه ليست الجريمة الأولى التي تمر بلا تحقيق او اعلان نتيجة تحقيق او مساءلة. فمن منا لا يتذكر جريمة «دار الحنان» للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، التابع لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، حين عثرت يوم العاشر من حزيران عام 2007، دورية للجيش العراقي برفقة مستشارين من الجيش الأمريكي، في الدار، شمال غرب بغداد، على 24 يتيما من ذوي الاحتياجات الخاصة، مقيدين الى اسرتهم، بعضهم منذ أكثر من شهر، غير قادرين على الوقوف والحركة بسبب حالة الهزال الناجمة عن المجاعة، كما تعرض بعضهم لاعتداء جنسي.
في حينها، طالبت النائبة جنان العبيدي (رئيس لجنة الصحة في مجلس النواب) بإجراء تحقيق عاجل لمحاسبة المسؤولين. فتم نسيان الجريمة. اليوم، أعربت عضو مفوضية حقوق الانسان فاتن عبد الواحد الحلفي، « عن قلقها حول الاحداث» وان كانت المفوضية بانتظار نتيجة تحقيق وزارة الداخلية. مما يعني، نسيان الجريمة.
إن مأساة دار الحنان ودار الأحداث بالأعظمية تمثل نسبة قليلة من مآس وجرائم يعاني منها كل من تتكفل إحدى الوزارات بـ « رعايته» خاصة الأطفال والاحداث والمسنين، سواء كانت وزارة العمل أو الداخلية أو العدل. مما يجعلنا نعرف مسبقا طبيعة التثقيف والتأهيل الذي سيحظى به « أطفال داعش»، كما بإمكاننا توقع المستقبل الذي سيجلبه الأطفال الينا جراء نوعية « التثقيف» الذي تنفذه الدوائر الرسمية!
كاتبة من العراق