
في أوساط مجتمع العرب الناطقين باللهجة الحسانية في موريتانيا، حيث تكشف العادات والتقاليد عن طبائع ذكورية ومحافظة، من غير المستحسن بوح المرأة بمشاعرها علناً وتغزّلها بحبيبها وقرضها الشعر لهذا الغرض. ولذلك، ظهر جنس أدبي تدلي المرأة من خلاله بمكنونات قلبها، وهو “التبراع”.
هذا الجنس الأدبي الشعبي الحساني الذي اختصت فيه المرأة، قامت عبره بنثر خوالج قلبها وغازلت به مَن تحبّ بأسلوب جميل وخفيف وعميق. وغالباً لا تكون أسماء النساء القائلات معروفة بل تتخفى صاحبة الإبداع ويبقى النص حياً متداولاً. ولا يزال للتبراع مكانته كجنس تعبيري مميز.
التبراع نتاج الحاجة
في كتابه “مجتمع البيضان/ النسق الثقافي ونمط العيش”، تحدث الباحث إبراهيم الحيسن عن التبراع، وقال إنه “في عمق الأدب الحساني، يبرز ما يسمى التبراع وهو كلام شعري منظوم تبدعه النساء الحسانيات تغزلاً في الرجال، وذلك في أجواء تطبعها السرية والكتمان والحرص الشديد على عدم التداول والانتشار نتيجة للحشمة والوقار والرقابة التي تمارسها الطقوس والطابوهات البدوية في الصحراء”.
وأضاف أن “انتشار تداول التبراع في الصحراء، راجع بالأساس لرقابة المجتمع وسلطة الطابوهات المحظورات الكثيرة التي جعلت منه كياناً وعالماً داخلياً يملأ انشغال النساء الصحراويات بالحب والتعبير عن العواطف والأحاسيس تجاه الرجال أثناء جلسات المسامرة والمؤانسة، أو تحت ضوء القمر المتلألئ، أو بين كثبان الصحراء”.
وتعرّف الباحثة كاترين تين الشيخ التبراع بكونه قصيدة مكوّنة من شطرين وذات روي واحد، ويتفرد التبراع ببساطة ألفاظه وجمال سبكه وبراعة صياغته ودقة اختياره.
تختصر مقاطع التبراع القصيرة قصص الوجد والحب والتعلق المكبوتة في شغاف قلوب النسوة. وكان اختيار النساء في موريتانيا له موقفاً فرضته الحاجة.
سبق أن عملت الكاتبة والمترجمة الموريتانية عائشة أحمدو على ترجمة مختارات من التبراع إلى اللغة الفرنسية للتعريف بها، وكانت بداية ذلك حين كتبت روايتها “لون الرياح” بالفرنسية، وهي رواية تشتغل على مجتمع البيظان العصري، وعلى تاريخه وثقافته وأدبه وتراثه المتنوع.
وتقول أحمدو لرصيف22: “لم تختر المرأة التبراع لنفسها بل اختاره المجتمع لها فهو الوسيلة الوحيدة التي لديها للتعبير عن مشاعرها، فالضغوط والأخلاق التي تأسست على الحياء والسر جعلت منه أفضل وسيلة للبوح بالعواطف”.
وتضيف أن “التبراع شعر خاص بنساء موريتانيا، شكلاً ومضموناً، وهو خاص في شكله لأنه مكوّن من تافلويتين لهما نفس الوزن ولهما عدد متحركات مختلف، وهو خاص أيضاً في مضمونه لأنه يحمل من المعاني والمشاعر والأحاسيس ما لا تحمله قصيدة من ألف بيت”.
وتشير إلى أن النماذج التي أعجبتها كثيرة ومنها “حد أحلم باقرينو/ ليت الأحلام يقينو”، ومعنى ذلك “حلمت بقريني/ ويا ليت الأحلام تتحقق”.
و”التافلويت” يقابلها في الشعر الفصيح “الشطر”، والكاف الحساني يقابله البيت، ويتكون من أربع أشطر، أي أربع تِفَلْوَاتَنْ.
والطلعة، أي القصيدة، لا تنقص عن ست تفلواتن. أما التبريعة فهي لا تتجاوز تافلويتين.
ويُذكر أن التبراع كان لا يقال في حضور الإيكاون، أي الفنانين التقليديين، لكي لا ينتشر خبره. وكان يقال ويُتغنى به بين الفتيات فقط أو في حضور جماعات من النساء.
نماذج من بوح النساء
خلدت في التاريخ الموريتاني قصص حب وتعلق حكتها النساء عبر التبراع، ولا تزال قرائح النساء تبدعه إلى اليوم. ويُعتبر التبراع أيضاً من أكثر أنواع المحتوى الشعري شيوعاً على حسابات الموريتانيين على شبكات التواصل الاجتماعي.
وفي ما يلي نماذج من التبراع:
أحمد يبان/ باش نحك باش زيان (كلما حك أحمد أسنانه بالمسواك كلما ازدادت جمالاً)
البارح م جان/ والليلة فيه مولان (أتاني البارحة، والليلة أمرها على الله)
الناس تبات ركود/ وآن نخمم بالمجحود (تنام الناس وأظل أنا أفكر بحبي الخفي)
قاضي يفصلن/ مولانا لا شاف الجنة (القاضي الذي حرمنا من بعض جازاه الله بالحرمان من الجنة)
القلب أحموم/ والجسم أخبر فيه أنتوم (قلبي كالجمر وأنتم أعلم بأمر جسدي)
ومجيه لبارح/ فرح بيه اسبع اجوارح (حضوره البارحة أفرح الجوارح السبع)
من صابي كديح/ يشرب فيه تحت طليحة (يا لتني قدحاً يشرب منه تحت ظل شجرة أكاسيا)
ما كنت نقدر/ عن مشيت لحباب تكدر (لم أكن أقدّر أن ذهاب الأحباء محزن جداً)
ي الدمع سيلي/ إن مولان وكيلي (يا دمعي سِل، إن الله وكيلي)
عنده تبسيم/ باني فيه إبليس خويم (عنده ابتسامة، كأن الشيطان نصب فيها خيمة)
وهنا مغالاة من طرف عاشقة في وصف جاذبية ابتسامة حبيبها. ويُذكر أن إبليس عند مجتمع البيظان رمز للجاذبية واللطافة.
إبداع المرأة في الأدب الحساني
في مقال لها حول التبراع، قامت الباحثة العالية ماء العينين، الأستاذة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة المحمدية بالمغرب، ومؤلفة كتاب “التبراع: الشعر النسائي الحساني/ المفهوم، السياق الثقافي”، بتقديم بعض النماذج الإبداعية النسائية مع شروح لها، مثل:
حُبَّكْ ذا الطَّاري/ ثابَتْ رواه البخاري (حبك الذي دق بابي ثابت في صحيح البخاري)