
الياس خوري
القدس العربي
12032019
سمح لي ملتقى تونس للرواية العربية، الذي نظمه بيت الرواية (7 و8 و9 آذار/مارس 2019)، تحت عنوان: «قضايا البشرة السوداء»، بأن أعيش أياما مليئة بقبس المعرفة ومتعة الاكتشاف وتوهّج الصداقة. ففي الدورة الثانية لهذا الملتقى، نجح المنظّمون وعلى رأسهم الروائي كمال الرياحي، في رسم أفق جديد يخرج عن الأنماط السائدة للمؤتمرات الثقافية العربية. لقد تسنى لي أن ألمس كيف تستطيع الثقافة أن تكون وعاء معرفيا، وأن تساهم في صوغ أفق جديد لمعنى الكتابة. فالرواية هي شكل لاكتشاف المجهول، وطريق لكسر المسكوت عنه، وبنية قادرة على استنطاق الصمت.
الجديد المدهش والجميل في هذا الملتقى هو أنه فتح صفحة كانت مطوية وتكاد لا تُرى. صحيح أن هناك أصواتا روائية عربية اقتربت من موضوع العبودية والبشرة السوداء بأشكال مختلفة من البشير خريّف والطيب الصالح إلى نجوى بن شتوان وحمور زيادة ومنصور الصويّم وسميحة خريس وشكري المبخوت وطارق زيادة وحجي جابر… لكن أهمية الملتقى أنه ألقى الضوء على ظاهرة كبرى تحولت إلى إحدى المدونات الرئيسية في الأدب العربي المعاصر.
في هذا اللقاء الذي ضــــم كاتبات وكتابا من تونس ومصر والسودان والمغرب والجزائر ولبنان والعراق وسوريا والأردن واريــــتريا واليمـــــن، رأينا «بـــرق الليل»، وهو صورة مأخوذة من رواية التونســـي البشــــير خريّف التي تحمل العنوان نفسه، وقد تصدّر المكان. كأن هذا الفتى الأسود يخرج من أعماقنا ويحتل المشهد كله. الهامش صار متنا، يخاطبنا بلغته، مفككا اللغة السائدة، ومعلنا أن المسكوت عنه صار لغة جديدة، والكتابة صارت مقتربا لمقاومة السائد.
العبودية في مجتمعاتنا العربية ليست للأسف جزءا من الماضي الذي تتجاهله الثقافة السائدة فقط، بل لا تزال جزءا من حاضرنا، حيث تتخذ أشكالا معاصرة من العمالة الأجنبية المستعبدة في الخليج، إلى أقفاص العبيد التي كُشفت في ليبيا، إلى واقع عاملات المنازل الآسيويات والإفريقيات، إلى مآسي الإيزيديات في الزمن الداعشي، وصولا إلى الحقيقة التي تقول إن الإنسان العربي يُستعبد بشكل فاضح في ظل الاستبداد الذي يزداد توحشا مع تنامي مقاومته.
اللقاء الذي جمع أصواتا متنوعة ومقتربات سردية مختلفة، يلخّص في رأيي المنعطف الجديد الذي تدخله الثقافة العربية على إيقاع صرخة الحرية، التي تهز واقعنا وتزلزل ثوابته.
ففي مواجهة الصمت والخوف، وفي ظل هيمنة الثورة المضادة في العالم العربي، يجب التوقف عند ثلاثة معطيات:
المعطى الأول هو أن الثورة ليست فعلا سياسيا فقط، إنها تغيير في المبنى الثقافي أولا. لا يمكن للتغيير أن يتحول إلى حقيقة سياسية واجتماعية إلا إذا كان في العمق تغيير ثقافي. من هنا فإن الرواية في بلاد الشام والعراق لم تتشكل جديدة إلا على إيقاع الانفجارات الاجتماعية. وهذا ما أتاح للكتاب أن يكسروا الحواجز الأيديولوجية، كي يعاينوا حاضر مجتمعاتهم، ويكتبوا ما لم يُكتب. إن الاقتراب من المواضيع المغطاة بحجاب أيديولوجي وكسر هذا الحجاب، يعبران عن بداية ثقافية جديدة، تفتح آفاق الأسئلة.
المعطى الثاني هو أن قضايا المقموعين والمهمشين تشكل المرآة الحقيقية للمجتمع. إن الاقتراب من المسألة العنصرية وحقوق الأقليات واللهجات المغيّبة خلف الرطانة البلاغية هي مدخلنا الحقيقي لتأسيس فكرة الثورة والتغيير. قضايا العنصرية والمسألة النسوية والحريات الفردية، تشكل الوجوه الأخرى لمسألة العدالة الاجتماعية، ولم يعد من الممكن اليوم الفصل بين هذه المسائل بحجة المعركة القومية.
المعطى الثالث يرتبط بالتجريب الأدبي والبحث عن أشكال أدبية وفنية جديدة. التجريب لا ينفصل عن التجربة وإلا سقط في الشكلية والتقليدية. فاللغة الجديدة التي نبحث عنها في الأدب والمسرح والسينما والفن التشكيلي مرتبطة بدخول قطاعات اجتماعية مهمشة إلى حلبة التعبير. هذا يعني أننا لا نكتب عن المهمشين، بل نكتب لأننا مهمشون، فتصير الكتابة أفقا للتغيير، وهذا يفترض أن نكون مستعدين لتحويل الحلبة إلى مكان جديد، ينبض بأسئلة الحاضر.
في لقاء تونس شعرت أننا أمام العتبة، نعبرها، من دون أن نعي ربما أهمية هذا العبور. وهنا تذكرت زيارتي السابقة لتونس، وكان ذلك منذ ثلاثة عشر عاما، حين ترأست لجنة تحكيم مهرجان قرطاج السينمائي.
يومها كانت تونس تختنق في ظل ديكتاتورية بن علي. شعرت بعدما ألقيت خطابي في الحفل الختامي للمهرجان أن البديهيات التي قلتها صارت أشبه بالمحرمات، وأن كابوس رعب الاستبداد الذي كان يخيّم على العالم العربي يقوم بخنق أصواتنا.
الفرق شاسع بين تلك الأيام وهذه الأيام. لا يعني هذا أننا وصلنا إلى الحرية، فتونس التي لا تزال تعيش مخاض الديمقراطية وصعوباتها وتواجه الأخطار التي تهددها، وأهمها خطر غياب العدالة الاجتماعية، تشعرك بأن ثمار هذا المخاض العسر والدموي الذي تعيشه بلاد العرب تشير إلى أفق ممكن. فالأفق الثقافي الذي صنعناه خلال ملتقى الرواية العربية ليس سوى كوة صغيرة، ما كانت ممكنة لو أننا ابتلعنا صرخة الحرية التي انطلقت، ولا تزال تشعل الشوارع اليوم في السودان والجزائر.
رغم الأسى وما بعد اليأس، أو ربما بسببهما، فإن على المستبدين أن يعلموا أن صرخة الحرية التي انطلقت لا تستعاد.
أمامنا الكثير من الألم، لكننا نعرف اليوم أن المعركة الثقافية ضد الاستبداد والأصولية هي تجسيد لصرخة الحرية التي تصنع مساراتها المؤلمة، وتطالبنا أن نكتب كلماتها.
تحية إلى جميع الأصدقاء الذين أعرفهم والذين التقيتهم للمرة الأولى في تونس، فصداقة الكلمة هي الوجه الآخر لصداقة القلب.