السبت 2023/07/15
Almodon.com
هل دوّن جبور الدويهيّ، في روايتيه الأولى والأخيرة، شيئاً من سيرته الذاتيّة؟
“كان ينبغي للعالم أنْ يدرك(…) بين سذاجة الأمل وعربدة اليأس، بين تألّق البدايات وحشرجة النهايات، بين صرخات الولادة وهدأة الموت، أنّ المعركة خاسرة من الأساس(…) وأنّ الموت لا بدّ سيكون أشدّ هزءًا به (وبنا طبعًا)، كما هي حاله الآن، بل وكلّما خطا خطوةً إلى الأمام إلى الوراء”.
عقل العويط، النهار، 13/7/23.
أحد عشر إصداراً لجبور الدويهيّ (1949-2021) في مسيرته الأدبيّة التي بدأها رسميّاً في العام 1990 مع صدور كتابه الأوّل “الموت بين الأهل نعاس” (مجموعة أقاصيص)، بينها تسع رواياتحقّقت نجاحاً لافتاً وحصد بعضها جوائز أدبيّة محليّة وأجنبيّة ووصلت ثلاث منها إلى اللائحة القصيرة لجائزة بوكر العربيّة. وقد صدرت روايته الأخيرة “سمّ في الهواء” قبل أشهر قليلة من وفاته في 23 تموز 2021. وكان من اللافت أنّ الدويهيّ قد اعتمد في روايتَيْه الأولى “اعتدال الخريف” والأخيرة “سمٌّ في الهواء” أسلوب الراوي المتكلّم (ضمير الأنا) بعكس ما اعتمده في سائر رواياته حيث جاء السّرد على لسان الروائيّ-الراوي الغائب. فهل جاء خياره هذا في هاتين الروايتين من باب الصدفة، أم أنّه تعمّد ذلك، معلناً دخوله عالم الكتابة والرواية في الأولى، ثمّ انسحابه القسريّ وهو على مشارف المصير المحتوم الذي كان منساقاً إليه؟ هل من علاقة بين البطلَيْن- الحالتَيْن، وهل لخياره هذا دلالة ما؟
ملامح كثيرة في “سمّ في الهواء” تحمل على الاعتقاد أن بطلها الراوي هو نفسه بطل “اعتدال الخريف”. أوّل هذه المؤشِّرات هو المكان، ففي الروايتين ما يشير إلى البلدة نفسها التي تجري فيها الأحداث، إن من خلال وصف الأماكن، أم من حيث ذكر المشاكل الدمويّة الداخليّة التي عاشتها وكانت لها انعكاساتها على حياة أهلها وحياة البطل في الروايتين. وإن تكن أحداث الرواية الأولى قد بقيت، في الزمن الروائيّ، محصورة إلى حدّ بعيد في البلدة وحياة أهلها وتفاعله معها ومعهم، مع بعض الإشارات إلى سفره للدراسة، فإنّ أحداث “سمّ في الهواء” سرعان ما انتقلت إلى أماكن أخرى، وخصوصاً إلى العاصمة بيروت وجوارها من دون أن تغادر كلّياً المكان الأوّل. لكن، كما سنرى، يحقّ لنا الاعتقاد أنّ البطل الراوي هو نفسه وقد استأنف حياته، بشخصيته الغريبة التي بدأها بخروجه الأوّل عن أطواره في “اعتدال الخريف”.
هذه الشخصيّة الغريبة نجد ملامحها المتشابهة في الروايتَيْن. فالراوي في كلتا الروايتين شخصيّة متميّزة بتصرّفاتها المخالفة للأعراف والسلوكيات الطبيعيّة المتعارف عليها والسائدة في مجتمعها.
في “اعتدال الخريف” يسعى البطل إلى تغييرٍ ما إن في شكله وإن في تصرّفاته، تغيير يخرجه من الحياة النمطيّة الرتيبة التي نستشفّها من وصفه الناس وحياتهم المتكرّرة في بلدته. ومع أنّه يخشى مآلات هذا التغيير إلا أنه يثابر عليه. يكتب إلى لارا: “أنوي تغيير أشياء كثيرة في حياتي، وأنّي اخشى في الوقت نفسه المساس بأي جزء من نظاميّ تحت طائلة الانهيار الكامل”. الإنهيار الكامل سنشهده في الرواية الأخيرة. وفي “سمّ في الهواء”، التي تبدو أوسع وأفسح في أحداثها، يعمل الراوي أيضاً على تعديلات في شكله، وعلى الأخصّ عندما قرر الاحتفاظ بالعصا واستعمالها ولو شكليّاً حتّى بعد شفاء رجله من الكسور التي أصيبت بها وانتفاء الحاجة إليها.
في الروايتين، يتّبع البطل الراوي سلوكاً مستجدّاً خارجاً عن سياق الحياة الطبيعية، وإن كان في “اعتدال الخريف” خروجاً معنويّاً وإراديّاً عن المألوف والأعراف، فإن في “سمّ في الهواء” فصلاً عن “سفر الخروج” يروي فيه خروج العائلة من البلدة وبداية التغييرات الجذريّة في حياته. وهذه التغييرات، هنا وهناك، يبدو أنها وليدة شخصيّة مضطربة، إما بسبب كثرة العلم، وإما لسبب وراثيّ، لوثة ما ورثها الأول مثلاً عن خاله روفايل، وورثها الثاني عن آل الصباغ المشهورين بأطوارهم الغريبة أو باختلالاتهم النفسيّة، وهو ما كانت أمه تخشى عليه منه، كما كانت الأم في الرواية الأولى تراقب بقلق وخشية تصرفات ابنها المريبة والتغييرات التي يجريها على نفسه.
كان الخروج الأوّل من رتابة الحياة والأشكال في البلدة، أما الثاني فقد كان خروجاً عن الطائفة والنظام والمفاهيم السائدة التي أراد الثوريون محاربتها وهو منهم. الأوّل انتهى به مهزوماً أو ساخراً، وهو يغادر المقهى بزيّه وشكله الغريب ليجتاز “ساحة الميدان كَمَنْ يجتاز حقلاً مكشوفاً على الأعداء”، بينما انتهى الثاني بعزلة صارمة عن الناس في انتظار النهاية المحتّمة، الهزيمة بالموت.
ومن ملامح الشخصيتين المتشابهتين هنا وهناك، هو اختصاص كل منهما، الأدب والانسانيات، وهوس كل منهما بالمطالعة والكتب، ثمّ عملهما على التخلّص من هذه الكتب، ربما رغبة منهما في التخلّص ممّا اكتسباه منها من أفكار لا طائل تحتها. وكذلك القول عن حرفة الكتابة والتأليف التي حاول البطلان احترافها، ثم تخلّيهما عنها. ومنها نوع من الغرور عندهما (الوقوف أمام المرآة في الروايتين)، ولعب دور زير النساء، والثقة في النفس والشجاعة والإقدام، والتحدّي، تحدّي الذات أولاً. في “اعتدال الخريف” مثلاً نلحظ قول البطل: “فأنا قرّرت المواجهة عيناً بعين”، والفكرة نفسها يحيل إليها بطل “سمّ في الهواء” عندما يخبر كيف كان هذا التحدّي لعبة الأولاد، يضع الواحد منهم عينه في عين الآخر ومن ترفّ عينه أولاً يخسر.
أمّا أهمّ ما هو مشترك بين البطلين فهو العزم والتصميم والتخطيط لما هو فاعلٌ كلّ منهما. ففي الروايتين يتواتر وبكثرة فعل التخطيط ومشتقاته، فيما البطل يمضي قدماً في التغييرات التي يتوخّاها ونحو الغاياته والنهايات التي يختارها بنفسه، وربما تكون نهايات مرعبة يسودها الذعر: “وحيث تنحلّ عزيمتي فأصير عطوباً هشّاً لا أقوى على قرار” (اعتدال الخريف، ص 59)، وفيما هو يتذكّر عمّته في الصورة التي جمعتهما (ورافقتنا طوال الرواية): “والذعر غير المفهوم في عينيها باقٍ إلى الأبد. فالمصوّر الجوّال (…) ثبّت خلاصة حياتي في نظرات عمّتي” (سمّ في الهواء، ص 206).
فهل دوّن جبور الدويهيّ، في روايتيه الأولى والأخيرة، شيئاً من سيرته الذاتيّة؟ على الأرجح نعم. وهل فعل ذلك عن وعي؟ سواء أكان الجواب نعم أو لا، يمكننا القول إنّ الكاتب في لاوعيه، بحسب فيليب لوجون (Philippe Lejeune)، إنما يكتب شيئاً من سيرته الذاتية في كل عمليّة تخييل يقوم بها. لقد عرف جبور الدويهيّ كيف يواري نفسه بذكاء في روايته الأخيرة “سمّ في الهواء” حيث نراه يحيلنا عن وعي أو غير وعي إلى روايته الأولى أقلّه من حيث شخصيّة الراوِيَيْن البطلَيْن والقواسم المشتركة بينهما.
في “اعتدال الخريف” أراد الدويهيّ تغيير نفسه علّه يكسر نمط الحياة الرتيبة ويغيّر العالم قبل انهياره الوشيك كما يلمّح. وفي “سمّ في الهواء” حكى عن إرادته، وأمثاله، في تغيير العالم، لكن يبدو أنّ الاستعصاء والفشل والإحباط هو حظّ الطوبايين الحالمين، خصوصاً عندما تقترب النهايات المحتومة التي وافاها الدويهيّ محلّقاً مع رفّ الحمام.