ليس محمود درويش شاعراً ككل الشعراء، يقول ارثه كما سيرته إنه لم يسعَ الى جائزة نوبل للسلام التي كان اسمه سيزيدها رونقاً وشرفاً. ربما لأن القائمين على منح الجائزة تجنبوا تجربة برنارد شو حين اعاد اليهم منتهم مرفوقة بعبارات “انكم تلقون لي بطوق النجاة بعد ان بلغت الشاطئ”. بين محمود درويش وبيرنارد شو قواسم مشتركة كثيرة. رفض محمود المناصب والالقاب، لم يستوزر يوماً وعندما طرحت عليه وزارة الثقافة من ابيه في الثورة، اعتذر بلباقة واحساس الشاعر وبفصاحة وادراك المثقف.
بخط يده صاغ اعلان دولة فلسطين، ولأنه خطه بحبر روحه فقد ولج درويش فلسطين من اوسع أبوابها واحتضنته هي في قلبها لتجعله واحداً من مناراتها. محمود درويش، وحد الشعب الفلسطيني، لم ينخرط في صراع حزبي أو سياسي، قال رأيه بوضوح في الشأن الساسي لكنه صان نفسه وشعره وثقافته، حافظ على استقلاليته ومكانته دون أن يبتعد أو يعتزل النضال. في لحظات القنوط كان يبحث عن العيب في نفسه، لم يعاتب الآخرين أو يلق عليهم وزر حالة التردي الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون. عندما تمادى الفلسطينيون في الانتحار الذاتي أصاب قلب محمود كما الكثير من الفلسطينيين الوهن والتعب ألماً على ما يجري. فلاسفة الباطل كانوا أعجز من أن يقدموا العلاج لروح وقلب محمود فآثر ان يقامر بحياته؛ العيش بقلب سليم أو رحيل يجنبه الشيخوخة وأرذل العمر.
مثل نزار قباني ويوسف شاهين وأحمد زكي لم يجد طبيباً أو علاجاً الا حيث يحتاج العلاج الى تأشيرة دخول تخضع لتدقيق وتشدد موظفين اجتثت اطماع السياسيين الرحمة والانسانية من قلوبهم. فهؤلا كما أسيادهم صانعو القرار لا يرون في الانسان الا خيرات ارضه ورصيده المالي في بنوك بلدانهم. عاد نزار الى دمشق رغم الجفاء والتجاهل كما يعود الطائر الى عشه، عاد شاهين الى القاهرة عودة اسد من رحلة صيد، وعاد محمود درويش الى رام الله عودة ياسر عرفات الى حضنها.
هناك من على تلة رام الله سيتشاطر محمود درويش وشقيقه الاكبر ابو عمار الراقد في المقاطعة انتظار العودة الى القدس لتكون مستقرهما الاخير. لا مجال للعتاب ولا مكان لباذري الفرقة بين الرجلين، فهما توأم، والدتهما الثورة وأبوهما فلسطين. بيروت بجامعتها العربية كانت حضنهما الدافئ، هنا كان الرجلان في ريعان شبابهما، الاول كان بكوفيته وعنفوانه السياسي وجرأته العسكرية يتنقل بين تحصينات المدينة المحاصرة زمن الحصار البربري. على المنصة نفسها المطلة على المقاعد نفسها المتربعة في قلب القاعة الحاملة لاسم وارث جمال عبد الناصر كان درويش يسقي حدائق العقول والارواح المتعطشة للشعر والثقافة والفن قصائد تمطر حباً وتنبت ياسمين.
لست الشخص المؤهل لأكتب في رثاء درويش، لكن هول الصدمة على من أثقلت روحه مدينة الضباب القاتمة التي لا مكان فيها الا لاثنين؛ العمل والمال، المتقلبة بمناخها والمتطرفة بحزمها والصرامة بتوقيتها وقوانينها. مقاهيها لا يرتادها الرواد بحثاً عن صديق أو خبر يهم البلاد والعباد، بل يأتون بحثاً عن ملاذ مؤقت يرتاحون فيه من ديكتاتورية رب العمل، والابتسامات الماكرة لموظفي خدمات الزبائن في محلات ترويج البضائع الاستهلاكية المتربصين بمحافظهم.
أكتب لمحمود كما كتبت لسمير وجبران لأنني جزء منهم وهم جزء مني نتكاثر لنصبح جيشين من عشاق الوطن والحرية، الاول حنت بيروت عليه فاحتضنته في مقاهيها الضيقة ومسارحها الرافضة للبذخ وخماراتها المختبأة من ملحدي العصر وساستها المتشبثين بتلابيب طائفيتهم ورجال طوائفهم. اتخذ من المنافي ملاذاً آمناً للجسد، جيش ينحره الانتظار ويحيه أمل يتسلل من نافذة ذاكرة تتربع بيروت على مساحتها.
“يا أهل لبنان، اسمحوا لنا أن نحبكم” قالها محمود قبل سنوات خلت، يومها رأيت وجوه الأصدقاء وزملاء المهنة الذين كلما اشتاق المرء لأحدهم ذهب باحثاً عنهم دون حاجة الى موعد او اتصال هاتفي مسبق. انها البساطة التي غنت لها الشحرورة صباح يوم لم يكن الخلوي وشركاؤه قد بعثوا بعد. يوم كانت الصدفة طبيعية جداً في محطة فيروز وانطوان كرباج، يوم كانت خَسة جوزيف صقر وزياد الرحباني لم تلوثها بعد المختبرات الكيمائية ولم تحتكرها البورصات العالمية. يومها كان مارسيل خليفة يغني لبحارة صيدا وصور التي لم يسأل احد من سكانها عن سر أو معنى كلمة ” ليوا” التي كان يشحذ بها شيخ البحر همم بحارته وهم يشدون حبال شباكهم الى الشاطئ.
ليست بيروت مدينة ككل العواصم، على مر التاريخ، كانت شامخة عصية على الجهلة والمتطفلين والطامعين. أرصفة مقاهيها نحرت المعتدين على طاولاتها وكراسيها المتواضعة. لم تبحث بيروت لنفسها عن مكان في الموسوعات العلمية أو كتب الارشادات السياحية، فهي بحد ذاتها ميدان للحضارة ومعالمها دليل سياحة لاينضب. لا تصنع بيروت السيارات أو الطائرات، ولا تنتج الوقود الحيوي وغير الحيوي أو التقنيات الحديثة، ليس هواؤها ملوّثاً بفضلات الصناعة أو الاستهلاك المفرط لوسائل الحياة.