الرئيسية / أضواء على / بيروت عاصمة سيريالية

بيروت عاصمة سيريالية

 


غادة السمان
Jun 02, 2018
القدس العربي

دوماً أعود إلى الوطن لتعبئة بطارياتي الروحية والأبجدية. وعلى الرغم من أنني عشت معظم عمري في الغرب المرفّه بين جنيف ولندن وروما وباريس التي أقيم فيها منذ أكثر من ثلاثة عقود جارة لبرج إيفل وأكرر: لم ازرعه في قلبي بدلاً من ياسمينة البيت الأول في دمشق القديمة خلف الجامع الأموي، ولا بدلاً من منارة بيروت على شاطئ البحر (كورنيش المنارة)..
في أيامي الأولى في إجازتي في بيروت ذهبت لزيارة صديقة لي في حي بيروتي عريق، وكنا نشرب القهوة حين سمعنا ضجيج الدراجات النارية في موكب استفزازي ولحسن الحظ لم يطلق أحد النار على عشرات الشبان بقمصان حزبية في موكب «الغزاة» ولو فعل لعشت اشتباكاً مسلحاً من ذيول الانتخابات النيابية.. ولتساقط القتلى من الطرفين.
وتم تدارك الفتنة حين سارع أحد زعماء انتمائهم الحزبي إلى شجب ذلك.. ولكن استعراض القوة أيقظ جرحاً سبق القيام به على نحو أكثر إيذاء وقال زعيم الكتلة المضادة أنه من المعيب تكرار استباحة بيروت..
ومن طرفي أقول وأنا لا أفهــــم شيئاً في الســـياسة بل في الجغرافيا أن الطـــريق إلى القــدس ومقـــاومة العدو لا تمر من بيروت.. ولا يفيد (القضية) جرح (البيارتة) أي أهل بيروت.
تمت محاصرة تلك الحادثة والسيطرة على نتائجها كما عشرات سواها تعرت خلال فترة الانتخابات النيابية ولكن الجمر لا يزال متقداً تحت الرماد.. وبيروت المدينة السيريالية أقامت بعد تلك التظاهرة الاستفزازية بالدراجات النارية حفلاً غنائياً في قلب (البلد) دام ساعات وتعاقب فيه المطربون والدعوة مجانية وتمايل مئات الناس طرباً وحبوراً. كأن شيئاً لم يكن قبل ذلك، فحب الحياة لدى اللبناني أقوى من شهواته العنفية والحربية والعدوانية..

لبنان وطن اللامعقول

هذا بلد صغير إسمه لبنان تجاوره الزلازل والبراكين وتتعايش فيه (على مضض أحياناً) عشرات (الفرق) الدينية والطائفية والحزبية وتختلط فيه الصرخات بالميكروفونات والأصابع المهددة، هذا اللبنان نجده منذ الآن يُعِدُّ لمهرجانات الصيف وثمة مخاوف من عقبات أمام مجرد تشكيل مجلس وزراء!!
وها هو أحد المهرجانات يعلن عن قـــدوم المغنـــية كارلا بروني (زوجـــة الســـيد ساركوزي الرئيس السابق للجمهورية الفرنسية) إلى جانب عودة زياد الرحباني ومهرجان في جبل لبــــناني آخر يعلـــن عن حضور الشهيرة شاكيرا للغناء فيه ومهرجان بعلبك والد المهرجانات يعلن عن برنامجه الذي ينتقده البعض لكنهم سيذهبون بالتأكيد إليه على الرغم من المخاوف من زيارة بعلبك حتى في مجرد زيارة سياحية وكان فندقها الوحيد خاوياً حين ذهب اليه صحافي فرنسي كتب عن لبنان في «مجلة الفيغارو» وأحبه… ورافقه مصور ذكّرتنا صوره بجماليات هذا الوطن اللامعقول الذي يرقص فوق الجمر بحبور رافضاً ان ينتزع أحد منه بهجة العيش.
لبنان الوطن الصغير المحاط بالحرائق والزلازل من الأنواع كلها ما زال يمنحنا كعرب ظواهر إيجابية..

تحت قبة البرلمان

ها هي المرأة اللبنانية مثلاً تقوم بنقلة نوعية في الانتخابات التي أُجريت مؤخراً. فهي لم تخضها بصفتها إبنة أو زوجة أو أخت زعيم سياسي ما فحسب، بل بصفتها الشخصية أولاً كمواطنة لبنانية لها برنامج انتخابي. ثمانون إمرأة حلمن بإجراء تبديل تحت قبة البرلمان بين حزبية ومستقلة وناشطة وأحياناً على لوائح تضم الرجال ويخضن ما كان معركته وحده.
ظاهرة أخرى إيجابية وهي اهتمام المجلات والصحافة (النسائية) عامة بهن وبخوضهن «معركة الرجال» فالمجلة النسائية لم تعد وقفاً على أحدث صيحات الأزياء والتجميل والطبخ بل صارت أيضاً تهتم (برأس المرأة) خارج إطار حلاق الشعر!..
وترسخت تلك الظاهرة في منابر ترأس تحريرها نساء شابات ناجحات في حقل الصحافة..

غسان صار أسطورة

في الطائرة التي حملتني إلى بيروت جلس في المقعد إلى جانبي شاب عرفت من لهجته أنه فلسطيني على الرغم من أنه ولد في لبنان يوم اغتال العدو الشهيد غسان كنفاني! لقد انتقلت إليه اللهجة من والديه وجدته الذين اضطروا لمغادرة وطنهم إلى لبنان.. ولبنان صار يضيق باللاجئين إليه من فلسطينيين وسوريين وعددهم يكاد يفوق عدد سكانه، لكنه يحتضنهم فهو وطن اللامعقول..
وقال لي الشاب أنه قرأ كتب غسان كنفاني وسألني: هل سمعت به؟ قلت: طبعاً.. وعرفته أيضاً..
سألني كطفل: هل صافحته؟ هل لمست يد ذلك البطل؟
وكدت أروي له حكاية طويلة وأبوح له بكل ما كان.. فالطائرة تفك عقدة الألسنة والمرء على ارتفاع ثلاثين ألف قدم عن الأرض ـ على الأقل ـ … لكنني كروائية ظللت صامتة لأنني كنت أخطط فجأة لكتابة رواية عن سيدة تروي للشاب الصغير جارها في الطائرة حكاية مشوّقة كما حدث في فيلم «التيتانيك» حيث تروي إمرأة نجت من غرق تلك الباخرة قصة حب عاشتها فوق الباخرة الشهيرة وانتهت بموت الفنان الذي أحبها غرقاً أمام عينيها.
ولكن غسان كنفاني لم يغرق في البحر المتجلد ويتم نسيانه بل تحوّل من رجل إلى رمز وإلى أسطورة والأساطير تظل حيّة وملهمة للناس.. وصار مجرد قولي أنني صافحته يثير إعجاب شاب فلسطيني ولد يوم استشهد غسان!

اضف رد