اخبار عاجلة
الرئيسية / مقالات / بيت المال وبيت العلم وبيت الطاعة

بيت المال وبيت العلم وبيت الطاعة

“إن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلَّ ان تستحكم فيها دولة… والسبب في ذلك اختلاف الأراء والأهواء، وأن وراء كل رأي وعصبية منها، عصبة تمانع دونها”.

ابن خلدون

قبل 176 عاماً صدرت جريدة “الإيكونوميست” في لندن، على أنها أول صحيفة تتعامل مع الإقتصاد بمفاهيمه الجديدة آنذاك. تعاقب على المطبوعة، التي هي الآن أهم مجلة اسبوعية في العالم، عدد كبير من رؤساء التحرير. لكنها استبقت اسم رئيسٍ واحد من القرن التاسع عشر، هو وليم بيدجهود، تنشر الإفتتاحيات الإسبوعية تحت توقيعه، احتراماً منها لتلك القاعدة الذهبية التي أطلقها: “اللجوء إلى المصرف المركزي هو آخر الحلول”. وشرحه التبسيطي أن “آخر الدواء الكي”. تخطر في هذا المجال مصطلحات تاريخية أخرى من ثوابت الإقتصاد في الأمم: فقد سمّت العرب الأمن المالي للدولة “بيت المال” باعتباره بيت الناس وأمنهم. وفي المغرب تسمى آلة الحكم “المخزن” باعتبار أن أمانة الأرزاق هي أقدس الأمانات في عنق الملك. ولا يفوتنا تعبير “الموازنة” الشائع وهو أساس الحكم وحماية المداخيل وضبط النفقات، وإلا اختلّ توازن الهيكل الإقتصادي، واختلّ معه التوازن النقدي، وتعرّض البلد والناس لمخاطر شتّى، منها التضخّم القاتل والبطالة والإفلاسات وما يليها من أحزان.

معرفتي بالأرقام لا تتجاوز معرفة أي إنسان عادي. لكن موازنة الدولة، مثل موازنة الفرد، لا تتطلّب عبقريات آينشتاين بقدر ما تتطلّب بديهيات “أبو ملحم”، وما فوق ذلك فهو من ذكاء البنوك وعبقرية المصرفيين وألعاب السحر التي لا تكفّ عن رمي البلد في الأزمات الوجودية، منذ مأساة “انترا” وسحرته المتعاقبين.

هذه هي النهاية التي حذّر منها “أبو ملحم”، وجميع ذرّيته من عقلاء البلد، فيما كان اللبناني ولبنان يتكبدون عاماً بعد آخر ثمن الإفلاسات الفاجرة والسلوك المارق، وضعف الدولة المتهاوية أمام حالات السرقة العلنية، كما في “بنك المدينة” وسيّدته التي انتهت إلى البرازيل ونعيم الأمازون وجنّة التماسيح.

تدلّل النظام المصرفي علينا بأنه أهم ما نملك من مصادر الثروة. كانت الدولة أدرى منّا جميعاً بأن سقوط النقد يعني سقوط البلد. ولذلك اعتبرت المصرف المركزي أمانتها الأولى بعد الدستور، واختارت لحاكميته رجالاً غير خبراء في الإقتصاد لكنهم من أشدّ وأنبل حراس الهيكل. قديسون من طبقة الياس سركيس والشيخ ميشال الخوري وفيليب تقلا وهرقل القانون إدمون نعيم. كانت مهمة هؤلاء بل رسالتهم أن يحولوا دون أن يمدّ السياسيون أيديهم الخفيفة إلى بيت المال.

استخدمت مصطلح “الهيكل” لأنه كان أول بيت مال في التاريخ. ويقول الدكتور وسيم حرب إن فكرة الهيكل بدأت عندما أصبحت المحاصيل تفيض على الناس. فأقاموا الأمكنة لحفظها، وخصوصاً محصول القمح، ووضعوا عليها حراساً اتخذوا لأنفسهم هيبةً قدسيةً. وهكذا تطورت فكرة الهيكل أو المعبد، وساء استخدامها إلى أن دخل المسيح على تجاره ورماهم خارجاً مطلقاً قوله الشهير “بيتي بيت الصلاة يدعى وقد جعلتموه مغارة للصوص”.

عندما يتحول الهيكل إلى مغارة تنهار أعمدته ويتكفّل السياسيون تحويلها إلى مغارة “علي بابا”. وخارج هذه الكهوف وقف الناس أمام البنوك يبكون ودائعهم، وأمام المدارس يبكون أقساطهم، وأمام المستشفيات يبكون أسوأ مذلة في البشر. لقد اعتبر ولاة الأمر المالي إنه يكفي أن ترضي بعض السياسيين والأخرين ممن أدرجت أسماؤهم على لائحة النفع الخاص لكي تحميهم من صوت الناس. وأمرنا بعض هؤلاء ألا نقترب من مناقشة سعادة الحاكم وامبراطوريته المؤلفة من مجموعة امارات صغيرة خلافاً لما هي عليه البنوك المركزية في أنحاء الأرض. وكان اللبناني راضياً حتى الآن بأن يأخذ السياسيون ما شاؤوا شرط أن يتركوا له جنى حياته ورزق أبنائه. وكان يعرف وكانوا يعرفون أنه يعرف أنهم فالتون على الثروات الوطنية مثل الثيران الهائجة والذئاب الجائعة. لكنه ارتضى السكوت خوفاً من أن يسقط كل شيءٍ دفعةً واحدة. كان يعرف أنهم يكذّبون ويخدّرون ويتظاهر بأنه اقتنع. كان يعرف أنهم ينفون الحقائق الواضحة لكنهم وضعوه أمام جدار الخوف. هكذا كان يستكين ويهدأ ويتقبّل هذا الإستغباء الغبي متظاهراً بأنه يصدّق. غير أنه جاء وقتٌ لم يعد كل ذلك ممكناً. دخل وحوش المال إلى مخادع الأطفال وجعلوا الشعب برمته يمضي أسوأ الأعياد. ولم تعد الليرة تنتظر أوامر أحدٍ لكي تتساقط. مرّت الأعياد من دون عيد وخجلت الناس في هذا القتوم من أن تتبادل التمنيات العادية. فقد بدا أن أي أمنية كثيرة على هذا الحجم من اليأس وهذا المدى من البؤس. وخجل اللبنانيون بأنفسهم مما شاهدوه في الأسابيع الأخيرة من مظاهر الفقر والألم والأسى في أنحاء البلاد. كانوا في السابق يعتقدون أن هذه الآلام في بلاد أخرى، وأن طرابلس مدينة بعيدة لا يعرفها إلا المارون بها، وكذلك صيدا. وكذلك المنتحرون. وكذلك المحترقون. لكن البكاء خرج هذه المرة من ثقوب الانين والجوع. وهزمت الثورة مرة أخرى. فبالنسبة إلى السياسيين كانت هي أيضاً مثل طرابلس أو صيدا أو بعلبك تجري في بلاد أخرى. وإذ تراجع الثوار إلى بيوتهم مبحوحي الحناجر الطيبة، وقف السياسيون على الشرفات يخاطبونهم: لقد هزمناكم! وهؤلاء لا يعرفون ولا يمكن أن يعرفوا أن بعض الانتصارات أكثر بشاعة من الهزائم بكثير وأن ثمّة هزائم مشرفة وصادقة ونبيلة لا تهزمها الوقاحات.

انها مناسبة لرجل علماني أن ينوّه بموقف الكنيسة من الثورة، وإذا غاب عنه في الماضي تقدير ما يتوجّب التقدير من مواقف البطريرك الراعي، فلا بدّ من إعلان ذلك اليوم. ولا بدّ من التذكير بباقي المواقف الوطنية التي دأب عليها سيّدنا عوده منذ توليّه أسقفية بيروت، التي كان أهم شيء في تاريخها الكنسي تلك العلاقة النضرة أبداً مع الشق الغربي من العاصمة ممثلاً بزعامات آل سلام وغيرهم من أهل الطيبة والمسؤولية الأخلاقية والدراية بأصول المشاركة وأدب المراعاة.

بلغ الأمر بالسياسيين والمسؤولين أن أداروا ظهورهم لقوت الناس اليومي. حولوا المدخّرات من أمانات إلى رهنيات وكمبيالات مستحقة. ولطالما حذّر الأوادم من الإنزلاق، لكنهم قوبلوا بالتجاهل والازدراء المألوف. ويوم قال الوزير علي حسن خليل إنه لا بد من إعادة هيكلة الديون، قامت الدنيا عليه، حتى تراجع، ضناً بالوضع المالي. وانصرف البلد، بمارقيه ومهرجيه “يبلّ كل منهم يده” في موازنة هي من شأن الخبراء والعقلاء والأمناء. وبدا المشهد مثل مقهى “أبو عفيف” في مسألة هي الأكثر علاقة بحياة الناس وسلامة الدولة. وتدافع الذّين يعلمون والذّين لا يعلمون يلحقّون حالهم بإعداد موازنتين دفعة واحدة مثل أفلام ساحة البرج. وتسابقت اللجان على الخطب والصور التذكارية ومواويل عيني يا موليا.

السوريالية في السياسة عادة. أما السوريالية في بيت المال، فهي الطريق السريع إلى هذا الذي غرقنا فيه جميعاً. مسؤول يحذّر ومسؤول يطمئن ومسؤول يحوّل أمواله إلى الخارج والجوقة تردد: لقد خلعنا سريتنا فتفضلوا ابحثوا في جميع المخابىء. غير أن المسألة لا تضحك ولا تسلي. والناس في البنوك حوّلتها السياسات العقيمة من مودعة إلى متسوّلة. والأعياد أحزان. والموازنات تدبيج مثل مرجليات الزجل، وليس مثل حسابات الأرقام والإستمرار والبقاء والذّمة والضمير.

بدل البحث عن أموال الناس انصرف السياسيون إلى البحث عن اختصاصيين مجهولين لا يعرف الناس عنهم شيئاً. وجرى التكليف والتأليف على الطريقة المألوفة أبداً. حكومة اختصاصيين في أكثر اللحظات السياسية والوطنية حرجاً، وتكنوقراطيين كأنما مشكلتنا علة في السيارة لا في الطريق. مجرّد دولاب في حاجة إلى نفخة جديدة وترقيع آخر. اختصاصيون في حين أن الخلل الكبير في السيادة والرؤية وعلاقاتنا مع العالم التي لم تمرّ في تاريخها بأسوأ مما هي اليوم من تعطّل وجمود. بماذا يفيدنا الإختصاصيون”؟ بإعادة هندسة المصارف؟” واستكمال مطالب وشهوات ونزق هذا الكارتيل المالي الذي امتصّ دماء الناس وأذلّ جباههم في كل مكان؟

إن القضية الكبرى في هذا الغرق الكبير هي أن العبث الولادي أخذ يطاول جميع الصروح. وها هي الجامعة اللبنانية تبحث عن عصام خليفة لكي ترسله إلى قاووش القتلة والمجرمين بدل أن تقف في تكريمه رمزاً للمرحلة الذهبية في التعليم والثقافة. غريبة هذه الحالة من العبث الجائر: في مكان نبحث عن أساتذة الجامعة طلباً لخبرتهم وعلمهم وخلقهم التربوي، وفي مكان أخر نسجّل على لبنان أنه البلد الذي يحيل كبار الأكاديميين على محكمة كبار المجرمين.

اضف رد