الحياة
28932918
يستقصي الوثائقي التلفزيوني الفرنسي «بوتين والمافيا» العلاقة بينهما: متى نشأت، ما طبيعتها ومن هو الطرف المؤثر أكثر فيها. تلك الأسئلة جاء إليها الوثائقي عبر بحثه في تاريخ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الصعيدين الشخصي والسياسي، ومن خلال مقابلات حصرية، قسم منها سري، أجراها مع شخصيات لها علاقة مباشرة بظاهرة «الفساد الهيكيلي»، العلامة الفارقة الأبرز في تاريخ «قيصر الكرملين» كما يسمى اليوم في روسيا، وينطوي ضمناً على تصريح بانتقال روسيا من دولة حزب واحد إلى دولة رجل واحد تحيطه «عصبة سان بطرسبورغ»، رجالها المقربون من دائرته الضيقة مهمتهم توفير الحماية القانونية له والمساعدة على نسج علاقات مع مافيات المدينة بسرية تامة، وتأمين تغييب اسمه من كل عمليات «النهب المنظمة» مقابل حصولهم على حصة كبيرة منها.
يروي فرانز سيدلماير، صاحب شركة تجارية عملت في المدينة خلال تسعينات القرن العشرين كيف ساعده بوتين على إقامة علاقات مع سياسييها وأصحاب القرار فيها مقابل «عمولة» ويقول: «واجهتني مشكلة جدية حين أعلن بعض الروس رغبتهم في الاستيلاء على شركتي والتهديد بسجني. ذهبت إلى بوتين وطلبت مساعدته. اعتذر لانشغاله ولعدم رغبته في التورط بأعمال تجارية تتعارض مع وظيفته الجديدة، لكنه نصحني بالتوجه إلى آخرين ذكر لي أسماءهم. بعد مقابلتهم حصل كل شيء بيسر. بقيت شركتي تعمل مقابل دفعي رشى كبيرة». و لاحقاً سيعرف سيدلماير أن من ساعده من «عصبة بوتين» وأن النسبة الأكبر من الرشوة ذهبت إليه. بهذه الطريقة أسس بوتين نظاماً أفسد به الدولة وعبره راح يؤسس مملكته الخاصة.
مقابلة أحد المشاركين في تحقيقات فضائح «الخامات مقابل الغذاء» تكشف جانباً من العقلية التي أدار بها النظام. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، واجهت البلاد أزمة اقتصادية وشحاً في المواد الغذائية، اقترح لحلها بوتين في مدينته صفقة تُقَدم بموجبها لدول أخرى مواد خام مثل الحديد والنفط مقابل تصديرهم لها مواد غذائية. لكن ما حصل هو أن الخامات وصلت أما الأغذية فلم تصل. التحقيقات اللاحقة تكشف أن المواد الخام بيعت وحصل مقابلها بوتين على مال بطريقة غير مباشرة. لم تُسجل ضد نائب المحافظ أي جريمة فساد لأن كل التحقيقات فيها توقفت فجأة، بعد تهديد المسؤولين عنها بإبعادهم من وظائفهم إذا تمادوا في المطالبة باستمرارها وتهديدهم بالقتل حتى.
يقترب الوثائقي من التوصل إلى الخيوط الرابطة بين بوتين والمافيا ورئيسها جنادي تيروف، ويساعد في كشفها واحد من رجال المافيات اليابانية الناشطة وقتها في روسيا، شارحاً كيف ساهم بوتين بحكم مسؤوليته من فتح كازينو للقمار لحساب رجل المافيا مقابل حصوله على المال، والأغرب وفق شهادته إعلان زعيم المافيا الصريح عمق صداقته مع «الزعيم» السياسي. مهارته في استثمار علاقاته مع المافيا لتعزيز دوره السياسي وتوسيع ثروته في الظل، شجعت الرئيس بوريس يلتسين على الاستعانة به وتقديم منصب مهم له (رئيس الاستخبارات الروسية أف أس بي) مقابل تأمين خروجه وعائلته نظيفاً من تهم الفساد الغارق بها. وبعد توليه لاحقاً منصب رئيس الوزراء، يصدر أمر بمنع محاسبة يلتيسن أو محاكمته على كل ما فعله خلال فترة حكمه.
تنتقل مع بوتين سياسية الفساد الهيكلي إلى موسكو وتتكرس. في بداية القرن الجديد، يعمل بوتين على سياستين، واحدة علنية تنبذ الفساد وتدعو إلى محاربته، والثانية سرية تشرك رجال السلطة في عمليات تجارية مشبوهة، وتساهم في تأسيس نظام فساد مافيوي. يكشف الوثائقي كيف استطاع بوتين إقامة علاقات تجارية غير رسمية عبر رجال المافيا وتبيضهم أمواله المستحصلة من وجوده كشريك في أكبر الصفقات التجارية، خصوصاً في حقل بيع النفط والغاز ومشاريع البناء، ودائماً تحت اسم مستعار. وتكشف فضيحة «بريد بنما» شدة ارتباط أسماء مقربين من دائرته بأمواله المهربة إلى الخارج. واحدة منها قيمتها بليونا دولار سجلها باسم موسيقار معروف تربطه به صداقة قوية. من أين لموسيقار البلايين؟ يتقدم بوتين بنفسه للإجابة على السؤال في موضع الدفاع عن ساحته، فيما يكشف الوثائقي أشكال نقل ثروته الهائلة إلى الخارج، وكيف انتهت كل محاولات فضحها بتهديد المتقدمين لها بالقتل.
يمضي الوثائقي في عرض الكثير منها، لكنه يظل مركزاً على عرض هيكلية الفساد ونظام حمايته المافيوي، بحيث يصبح التشبث بالسلطة جزءاً من حمايته وحماية المتورطين به.