الرئيسية / مقالات / بلد رضائي

بلد رضائي

        سمير عطا الله
        النهار04072018

أسهل شيء في الحياة رفع الشعارات. الأكثر سهولة، انزالها. ومن الأشياء السهلة توقيع الاتفاقات الأكثر سهولة، نكرانها. بلد مفروشات: مقاعد وكراسي وهزاز. جدل حول حصص الاقتراع، يعقبه عراك حول حصص النتائج. وما قبل كل انتخابات، ليس ابداً كما بعدها. انسوا ما وعدنا. ومرحبا ما وقّعنا. كبروا عقلكم. حان وقت ان تتعلموا.

الخناقة على الكراسي من فوق الشرفات. كلامية، والحمد لله. يتقاتل السياسيون على المطارح في الاعراس والجنازات، فكيف بالحكومات؟ الوطن هو الكرسي، والدولة هي “التكايا”. الجدل حول الحصص والحقائب، كان معيباً حتى في بلد مثل بلدنا، حيث توزع العطايا على المصارف، وتُحجب القروض عن الناس.

في مصر كلّف وزير الإسكان في الحكومة السابقة تشكيل الحكومة الجديدة، لأنه نجح في ايجاد الحلول للكثيرين من مواطنيه الباحثين عن سقف وحق في الحياة. ولكن حجب القروض واغراق المصارف بدا أمراً عادياً وجزءاً من يوميات الجمهورية. بلد على كل الحافات مهما أخفينا المخاوف والاوجاع.

في بلاد البشر، يؤلف الحكومة رئيس الحكومة. ويختار الوزراء رئيس الوزراء. ترسم الحكومة سياسة ويقرها – أو لاً يقرها – البرلمان. لكل مسؤول دور، ولكل مسؤولية وصف. والدستور هو ما هو مكتوب، وليس ما هو منسوب.

يعلمنا الأرمن – لمن هو قابل للتعلم – أشياءً ودروساً كثيرة. لم يخطر لي انهم أيضاً سوف يعلموننا اللغة العربية. سمعت المخرج انطوان غاسبيان يقول في وصف لبنان: “نحن بلد رضائي”. تسأل اللبناني كيف الحال، فيجيب: “رضاك”. شارل حلو كان يردد “غبرة رضاك”! الرضا أعظم وأهم وأعمق وأكثر ديمومة من التوافق. فالتوافق يتضمن شيئاً من القسر: لا الاوطان ولا الدول ولا الأمم، تقوم على شراكة زنديقة بين الدلع والقهر. كلاهما أشد نخراً من الآخر في عظام الكيان، الذي لم يعد عموده الفقري يتحمل المزيد من الحمل، والمزيد من الركل.

نسبة ضئيلة جداً من الشباب اقترعت. الشباب أكثر وعياً وأكثر شجاعة وكرامة من الأجيال التي اعتادت خدر الكسل الذهني والخنوع الوطني. على شاشة “ام. تي. في.” زاوية يومية بعنوان “رغم كل شيء”، مواضيعها غالباً من عالم الشباب: لا علاقة لهم بعالمنا. جدّيون، وأهل علم، وأهل انتاج، وخصوصاً أهل خيرٍ وعطاء، لم تتبلد قلوبهم ولم تتكلس اكبادهم بهذا الصراع السياسي البذيء والملوث والموبوء.

تذهب جائزة الرئيس الياس الهراوي هذه السنة الى مؤسسة “فرح العطاء”.ولو كان حياً، لما اختار احداً آخر. لم التقه مرة إلاّ وتحدث بكل قلبه عن فقر الناس. كان يعود من عزاء، أو واجب، ويقول متأسياً: “يا بيي شو في فقر”! استعاد الياس الهراوي الدولة شبراً شبراً: من شتورة الى الرملة البيضاء، ومن ثم الى قصر بعبدا. ولبنان الذي عمل على استعادته كان واضحاً وجميلاً وطيباً، البطولة الوحيدة فيه رضا الله ورضا الضمير ورضا الناس، الذين خرج هو من بينهم، يكافح، ثم يعمل معهم من اجلهم.

ضاعت وراء ظرفه ولماحاته صورة اللبناني الطيب المحب للناس، لكنها لم تستطع أن تخفي الرئيس المتواضع الذي لا مكان في نفسه لضحالة الغرور وشبق السلطة وغطرسة حداثتها.

التسوية الوطنية كانت في شخصية الياس الهراوي، وفي منشأه، نائباً عن الناس، ثم برلمانياً ينتمي الى النواب المستقلين الذين حفظوا أصول الدولة وشكلها ، فيما كانت الحرب تنكّل بها وبالناس.

في كتابه “من الدويلات الى الدولة” (مع كميل منسى)، يروي الرئيس الراحل حكاية أسرة من أسر لبنان، انتقلت من بسكنتا الى زحلة، حيث فقد والده مبكراً، وتولّت العائلة أم شجاعة حنونة. وفي الموطن الجديد، يصبح شقيقه طبيب المدينة، ثم نائبها بأكثرية آلاف الاصوات على شاعرها سعيد عقل. وعندما انتُخب هو رئيساً، كان اول وسام منحه لسعيد عقل. هكذا خاض معاركه، وخصوصاً معركة زحلة.

مع الياس الهراوي توقفت الحرب، وأزيلت المتاريس وفتحت المعابر، وعادت العاصمة الى المدينة. لكن ولايته انتهت قبل ان يتمكن من اعادة الوطن الى الدولة. وسوف تستمر الحروب الباردة بين اللبنانيين، وخصوصاً بين المسيحيين، بلا نهاية. وها هي لغة التقسيم تطل من جديد بكل تعابيرها، ولغتها، وغباوة الانتحار.

يدرك الاحياء ذلك، ويدركه الموتى أكثر. أي أولئك المعروفون بـ”القتلة” أو “الشهداء”، الجهة التي ننظر منها، أو الجهة التي تدوس ترابهم، من غير أن ننسى باقة الزهر، لزوم اكتمال المشهد. يدركه الموتى ذلك، والايتام والارامل والحزانى، ويدركها تجار الموت، وبياعوالكرامات ايضاً.

حروب من اجل بقايا الاشلاء والاهتراء. لا صوتً واحداً من أجل لبنان، بل زعيق عليه. آلهة في كل مكان. والكافر لا يبحث عن الله، لأنه كافر. لكنه كيفما تطلع، رأى ظل الله على الأرض، يوقع ويمحو. يَعِد وينقض. يأخذ ويأخذ. وماذا يهم عندما يتساوى اللاشيء بكل شيء، ولا تعود شكوى البشر سوى طنين مزعج ومقلق لساعات النوم.

يقول صديق متفائل: اصبر. اصبر. سوف تُقرع اجراس الحقيقة مرة واحدة، فوق كل البلاد. كلام جميل يصلح لأغنية في بلاد أخرى. أما في هذه البلاد، فإن أبطال “مسيحيي الشرق” يقاطعون مسيحيي الغرب. بل الأسرة الدولية.

من الصعب على أجراس الحقيقة ان تُقرع. وإذا حدث، فلن يسمعها احد. ثمة صخب شديد وأصوات أعلى من رقة النواقيس: كي توزع الحقائب في ما هو قانون الرغائب.

علَّ أحد هذه الأجراس تذكّر سعد الحريري أنه رئيس حكومة مستقيل، ومكلف. ليس بالتوافق، إنما بالرضا. ليس بالتسوية، إنما بالحق. ويدرك أنه يمثل شباب لبنان الذين يريدون البقاء في أرضهم من غير ان يموتوا، أو يحيوا من أجل أحد. من غير ان يصبحوا ذكرى على جدران الرماد.

كفى اجازات دولة الرئيس. وكفى رحلات. وكفى تسويات. البلد في حاجة إلى من يرده عن الحافة الرهيبة. ليس الى 30 أو 130 وزيراً، بل الى بضعة اسماء توحي بالثقة والصدق، وتُقنع العالم بأننا نستحق ما أُعطينا. الباقي مفهوم. قضاء وقدر، وداروا سفاءكم.

اضف رد