سمير عطاالله
النهار
21062017
قبل ظهور ايمانويل ماكرون كمرشح ذي فوز، وضعت عنوان المقال هنا “افول الجمهورية الخامسة” مرفقاً بعلامة استفهام. ليس فقط من اجل قاعدة منع الجزم في الصحافة، بل لأنها ايضاً ليست قراءة في البخت كما يتم التعامل معها هذه الأيام.
أصبحت فرنسا علماً بلون واحد دون الأربعين من العمر، فيما خرج البائسون على نحو مثير للشفقة من الإطار الوطني التقليدي، الاشتراكيون ومعهم اخفاقات فرنسوا هولاند، الجبهة الوطنية ومعها فاشية آل لوبن، والشيوعية، ومعها حفريات ستالين.
لا يشبه اكتساح ماكرون للجمهورية، على النحو الذي جرى، إلا اكتساح رونالد ريغان للوجوه والمعالم السياسية في الولايات المتحدة. مل الناخبون الطواقم التقليدية مللاً لا يوصف. ورموهم جميعاً على القارعة من أجل أن يجعلوا ممثلاً ثانوياً، صاحب الدور والقرار الأول في البلاد.
بدا كل شيء في فرنسا في الآونة الأخيرة وقد عفاه الزمن في بلد التجدد والتحديث. ليس تجدد روبسبيير واختراع مقصلة المسيو غيوتين، بسبب الازدحام والتلوث في ساحة الكونكورد، بل منبع التجدد الذي لا ينضب: فكر المسيو ديكارت الذي صار ميزة فرنسا مرجع الفكر العالمي.
ماكرون أول حركة ديكارتية منذ زمن. هذه المرة، الفرنسي هو الذي يفكر بنفسه، ولنفسه، وليس يفكر عنه الحزب والزعيم وصاغة الشعارات التي تبلى كما بلي ما سبقها. تأمل قليلاً وسوف تتوقع أن يصبح فوز ماكرون مثالاً عالمياً، أو على الأقل، غربياً، ما دام الشرق، بكل فروعه، ملقّحاً ضد السير الى الأمام.
ربما على المرء أن يتحفظ في المراهنة. أثار وصول باراك أوباما الى البيت الأبيض اعجاب العالم وآماله. لكن دراسة مذهلة نشرت في “النيويورك بوست” الاسبوع الماضي، تقول إنه منذ الخمسينات إلى اليوم، لم يسجل الأميركيون السود تراجعاً بالنسبة التي سجلت في عهد اوباما. إلا أن الحدث هنا ليس فوز ماكرون بقدر ما هو نفض الفرنسيين للمعاطف البالية: الاشتراكية التي لم تعرف كيف تعبر إلى العصر، كما فعل العمال في بريطانيا. والشيوعية التي ترفض أن تصدق أن جثمان لينين اصبح مجرد مجذب سياحي في الكرملين، واليمين العنفي الذي لا يزال يعيش في خطابات هتلر.
كانت وفاة المستشار هلموت كول يوم الجمعة، مثل اكتساحات ماكرون يوم الأحد، تذكيراً مشتركاً بزوال الفكر العنفي كوسيلة للتغيير. الأول، أعاد توحيد المانيا فوق رماد جدار برلين الذي سقطت معه الستائر الشيوعية، الحديدية والشفافة. صرف كول نحو تريليون مارك، كي لا يشعر الألماني الشرقي الفقير بأنه من مرتبة متدنية. عبر الشرقيون إلى الغرب وكأنهم يعبرون من زمن إلى زمن، وليس من مدينة إلى مدينة. كان قد حدث أمر أكثر فجيعة في الحرب العالمية الثانية. فبعد انتحار هتلر في “بَنكَرِهِ”، دخل الجنود السوفيات المنتصرون لتصدمهم مفاجأة مؤسفة: وجدوا البيوت المدمرة مليئة بالاثاث الجميل والمطابخ الحديثة، وفي كاراجاتها سيارات كثيرة. الأمر مختلف عن جنة ستالين الذي كان يعد بأنه عندما تنتهي ابادة نحو 30 مليوناً من اعداء الثورة، سوف يبلغ من بقي حياً من الرفاق، سلّم الفردوس.
بينما كانت المانيا الشرقية تعيش في ظل “الشتاسي” وسيارة “ترابانت” المضحكة مثل سيارات السيرك، كانت المانيا الغربية تجمع تريليون مارك وتعد سيارات “المرسيدس” لاستقبال الاشقاء المحرومين. هلموت كول كان بسمارك الثاني. وربما الأول. لم تكن موسكو هي التي ترفض هذه المرة اعادة توحيد المانيا الشرسة، بل واشنطن وصديقه فرنسوا ميتيران و 10 داونينغ ستريت. ووقف هذا المحب لايطاليا بسبب انواع السباغيتي، صامداً في وجه الجميع.
فتش دائماً عن الفرد: طيباً أو شريراً. عبقرياً أوعادياً، رؤيوياً أو مغلقاً. الاحتفاء بماكرون والعزاء بالهر كول، هي حكاية الأمم مع الافراد. نيرون أم يوليوس قيصر. غورباتشيوف أم ستالين. بيريا أم يوري اندروبوف. رجال للتاريخ ورجال لتواريخ الطاعون. لم يقتل اي طاعون ضرب البلدان ما قتل بعض الرجال. لا أعرف من يولد ممن. الذين مهّدوا للثورة الروسية كانوا قديسين مثل تولستوي، أو عباقرة مثل دوستويفسكي، والذين تزعموها كانوا ستالين ولينين وبيريا. ملأ بول بوت كمبوديا بجماجم أهله ورفاقه، وعرضها في بنوم بنه بعدما فرّغ العاصمة من الاجساد والارواح. وكان يرى أن تلك هي الثورة. وفي النهاية، اصبحت كمبوديا أكبر بلد لمقطّعي الاطراف في التاريخ. وبدت أوامر هنري كيسينجر باحراقها لا شيء أمام مفهوم بول بوت للثورة الشيوعية. وكانت قد سبقته مجموعة كبيرة من المرضى، مثل انور خوجه، الذي خرجت بلاده بعد سقوط الستار عن بكرة ابيها تحاول التنفس خارج السجن. هل السر في البلدان، أم الشعوب؟ لا. البانيا الذي منها انور خوجا، كان منها مهندس “تاج محل”، وكانت منها الأم تيريزا، التي سيخفض الفاتيكان مرتبتها من أم إلى قديسة.
غيرت فرنسا أعماق ملامحها، بموجب قانون انتخابي لم يعد له أحد، ولم يدرسه أحد، ولم يماحكه أحد. لم تقترع بموجب قانون الانتخاب، بل بموجب القانون. حيث لا يقتل الشبان على الطرق لأنهم “عصّبوا” القاتل. حيث لا يقتل الطبيب المجمِّل أماً صبية بعدما كان قد عرض عبقرية الاوراك والأثداء والأقفية في درس طبي على موقعه الجمالي. كيف تدرس قانوناً للانتخابات وقانون “العجلة” يحاكم المشتكين؟ لماذا سيذهب الناخب إلى الاقتراع إذا كان نائبه لا يجرؤ على اللجوء إلى القانون الذي يؤمّن حمايته من أهل القانون؟.
هل تتذكر، كم كنا نشكو، من أن فرنسا هي التي علمتنا الفوضى والمحسوبية ومخالفة القوانين؟ نحن وقحون أيضاً. انتخبت فرنسا يوم الأحد الماضي، فرنسا الجديدة. لا الرابعة ولا الخامسة ولا ما بعدها. فرنسا ما دون الأربعين.