تتشابه القصص. شفيق عيد، مختار بلدة خربة بسري الشوفية ربح “اللوتو” بين ليلة وضحاها. وكذلك حصل مع أحمد دندش، الطرابلسي الدرويش. لم تمضِ أيامٌ قليلة على النبأ. الأحبة كثروا. طالِبو المساعدات المالية المزيفون، تقاطروا وفوداً. ورغم ان المال بدّلهما في عيون الناس، الا ان شفيق بقي شفيق، وأحمد بقي أحمد. الأول يحبّ الزراعة ولا يحبّذ السفر. والثاني يكره برد الشتاء، لا يخرج من المنزل ويأكل العدس والأرز. التفاني في سبيل العائلة، جمع الرجلان أيضاً. تأمين المسكن وقطع الأرض أولوية. السيارات أيضاً حضرت. والأهم، المساعدات. كلٌّ منهما ساهم على طريقته في معونة من هو بحاجة. وماذا عن المستقبل؟
ويبقى السؤال الأهم: ماذا فعل عيد بالأموال التي ربحها؟ الإجابة تأتي على شكل شهادات صادقة من الذين يعرفونه. هو لا يحبّ الحديث عمّا قام به. لكن أعماله كانت راسخة. فقد تبنّى عيد مشروع بناء كنيسة البلدة الصغيرة منذ سنوات قبل فوزه بالجائزة. ورغم استهزاء البعض بقدرة المختار على الوفاء بوعده، حمل لواء المشروع الى الساسة وأصحاب القرار والأيادي البيضاء واستطاع بفضل اصراره ان ينجز الجزء الأول من الكنيسة. حصل ذلك قبل فوزه بالجائزة. وبعد “اللوتو”، أنجز عيد الجزء الثاني من مشروع بناء الكنيسة على عاتقه الخاص.
ويقول العارفون به، بأنه “ساهم بمبلغ قدره 60 ألف دولار جزء من تكاليف علاج أحد عمّال البناء الذي تعرّض لحادث فقد خلاله أطرافه”. عندما تسأل عيد عن هذه التفاصيل، لا يحبّذ الدخول فيها، لكنّه يثمّن على النية في العطاء. هو الذي خدم الكنيسة باندفاعه ومسعاه المعنوي، قبل ان يتوّج اندفاعه بدفع التكاليف المادية. وعن النفقات الشخصية، اشترى عيد على ما يروي “4 سيارات جديدة لي ولعائلتي، رغم ان سياراتنا كانت جديدة. كما اشترينا قطعة أرض في بيروت على أمل استثمارها مستقبلاً”.
وكما تجربة شفيق عيد، الحكايات تتشابه. أحمد دندش ابن طرابلس الدرويش، الذي خبّأ له القدر ثروةً في سنواته الأخيرة، هو الآخر يرى ان المال سيف ذو حدّين. “المصاري بتعمل وجعة راس لأكثر من مئة سبب”، يجيب دندش عن سؤال “هل تجلب المال السعادة للانسان”؟ الغالبية لم تكن ترمي عليه السلام قبل الجائزة. هو الفقير المسكين المنسي خلف أرصفة المدينة. لكن الأموال بدّلت الأحوال. “العيون تفتّحت علي، والذي لم يكن يعرفني في السابق يأتي الي ليلقي علي التحية. لكنني متخذ كامل الحيطة والحذر”. ويعقّب: “عملت ما يتوجب علي وخلص”.
لا ينفي صاحب الثروة ان حياته تغيّرت بعد ان كسبها. “أمنت شققاً سكنية لأولادي الأربعة. لكنني لم استثمر في الأموال. سأزوج ابني وأجلس”، على قوله. لم يقم بأي نشاط أو رحلة. يبرّر: “طبعي هكذا، وسأبقى كما أنا”. يجلس تحت المنزل المستأجر الذي لا يزال يقطنه، ويعود اليه مساءً. لا يزال يأكل الأرز والمجدرة، ولا يحب أكل المطاعم. لا يذهب الى اي مكان في الشتاء لأنه يبرد كثيراً. خطوة واحدة تكاد تكون تغيرت في حياة أحمد الظاهرية. سيارة المرسيدس “موديل 2010″ التي اشتراها ويشرح لماذا أقدم على هذه الخطوة: ” ما لازم اطلع بسيارة هيك بعد كلّ هالعمر”. وعن المشاريع المستقبلية، لا تصورات: “لم أعد أملك السيولة، بل الأموال المتبقية مجمّدة. سأبقيها في المصرف على الأرجح، والشرع يحدّد حصة الأولاد من الميراث”.
هدف واحد لا يزال يسعى اليه أحمد: زواج ابنه الذي يقطن معه حتى الساعة. وبعدها سيبحث أحمد عن بنت الحلال الدرويشة، التي سيكمل معها باقي العمر. هو الذي خسر زوجته قبل ان يصبح مليونيراً، ويعلم أنّ المال لن يعوّضه غيابها، فقال: “أتخلّى عن الجائزة لو أستطيع أن اعيدها الى الحياة. هي أم أولادي. ولو أنها لا تزال على قيد الحياة اليوم، لجعلتها أميرة. كانت تعمل لاعالة العائلة، وتطهو ورق العنب وتبيعها للناس من اجل أن نعيش”.
أحمد، الفرحة لا تكتمل؟ “الدنيا اخذت أهم شيء كان لدي”.
وعندما نحاول ان نبعد عن دندش الذكرى المرة، نسأله عن مواصفات العروس المرتقبة: “لا أريدها ان تتزوجني طمعاً بأموالي. لا أريد أولاداً منها. أحتاج امرأة تؤنسني بعد بقائي وحيداً”. لا يزال البحث عن ابنة الحلال مستمراً: “أفتش عنها ولكنني لم أجدها حتى الساعة. أريدها ثلاثينية (شابة)”. نسأل: “وهل تريدها جميلة؟” يجيب:” ماذا تقول أنت؟”. “أنا أقول نعم”، أجبت. (يضحك أحمد).
لا شك في أنها غيّرت الكثير في حياتهما. عيد ودندش، وحدهما يعيان معنى التجربة. ويبقى السؤال عن مدى الارتباط بين المال والسعادة. هل صحيح انه “يجلب السعادة”؟ أم إنه “يساعد الانسان في ان يعيش حزنه برفاهية”؟