الرئيسية / home slide / بعد الاستشراق: «كتاب خالد» لأمين الريحاني

بعد الاستشراق: «كتاب خالد» لأمين الريحاني

أمين الريحاني

جيفري ناش- ترجمة: صالح الرزوق
 القدس العربي
19032021

إذا بدأت تجربة علمنة الروح العربية في مراكز حضرية كبيرة من الشرق الأوسط (القاهرة وبيروت) في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، فقد نقلها السوريون المسيحيون المهاجرون إلى الأمريكتين، وبالأخص نيويورك. وفي الوقت نفسه وصلت أزمة الإسلام لذروتها مع توسع الأوروبيين واستعمار الشرق الأوسط. وكانت هجرات القرن العشرين ضرورة لاستكمال تجربة العرب مع العلمنة. وجاء «كتاب خالد» 1911 لأمين الريحاني (1876 – 1940) بعكس هذا السياق، فقد وصل إلى نيويورك شابا عام 1888. وبعد عقد من الحياة في أمريكا، عاد إلى مسقط رأسه لبنان، لكن لاحقا، وفي أوائل القرن العشرين، أصبح شخصية أدبية أمريكية وعربية مهمة، يكتب مقالاته بالإنكليزية، ويسمع صوته الأدباء العرب المغتربون. ويسمي النقد الحالي حركة الفنانين والكتاب العرب المهاجرين باسم «ثقافة المهجر، وينظر لهم كتيار لحركة حملت عبء الحداثة الغربية والاستشراق.
وفي نظر ستيفان شيحي يجب أن يكون اسم الريحاني، مع خليل جبران، ضمن الرومانسيين العرب الذين قادوا ردة فعل البورجوازية العربية الناشئة، وأيدوا ثورة الحداثة والنشاط الفردي، لكن المعارض لنشاط الغرب. وفي رأي شيحي إن «الذاتية الشرقية» هي «ضرورة حاسمة من أجل الرومانسية العربية، للتأكيد على حضور الذات في عصر الاستعمار». ويكشف وائل حسان ما يبدو للقارئ بعد الحداثي أنه حوار متعب بين النبوءة/ الروحانيات الشرقية، والمادية الوضعية الغربية، ويلوم الاستشراق على فشل مشروع كليهما في تركيب الشرق والغرب. وإذا كان من المحبذ تنظير كتابات ريحاني، ولاسيما تلك المقبلة من أمريكا في بواكير 1900، وفق البنية الشرقية، وبعد الكولونيالية، يجب اختيار قراءة «كتاب خالد، أولا، حسب مقاربة هارفي كوكس ذات المخطط الغائي، الذي يشبه الاعتراف، وأن تكون هذه القراءة مقياسا ننظر منه لعلاقة خالد التهكمية مع السرديات الأساسية master-narratives، والتي تخلص من معظمها.
في البداية يترعرع خالد في مدينته بعلبك. وبعد أن يرضي مثالياته الأولى «ويمتلك أفضل حصان في بعلبك، ويصبح قادرا على قيادته حتى مخيم العرب، يرتكب خطأ». ويبيع الحصان لسائح أوروبي، ثم يبدأ رحلته إلى أمريكا. ويبدو أن ريحاني يعمل على زيادة تعقيدات ترتيب المكان والزمان في مخطط كوكس. فهو يحول رحلة ابن القرية إلى المدينة. ويضعها بيد القدر الغاشم، لتصبح رحلة إلى الميتروبول الغربي. وكان اختيار خالد لمحطته الأخيرة بمحض الصدفة: فقد استجاب لنداء السفر، كما يمكن أن نستنتج، وكانت كل الاحتمالات مفتوحة. ويمكن لهذه الرغبة بالتشرد أن تقوده «إلى مكة أو الهند أو داهومي، وحتى هذه النقطة لم يكن العالم الجديد يعني له أي أهمية خاصة. وقد تم لقاء القرية الشرقية مع الميتروبول الغربي بطريقة عبثية. يقول بهذا المعنى: «أنت لست بحاجة لرفع نبرة صوتك لتنادي مدينة الدولار المقدس، انطلاقا من مكانك في مدينة بعل». وهذا التقليل من دور الغائية النفعية (إذا فهمنا أن مخطط كوكس ركّز على صعود روح الإنسان الغربي المسيحي) الذي تتضمنه الرحلة باتجاه المدينة التكنولوجية، هو أول مرحلة في «كتاب خالد» الشرقي. ثم نراه وهو يصارع الأفكار الغربية، التي تلفت انتباهه وتهمه، بأسلوب استعراضي.
وكان للشاعر شكيب، كاتب سيرة خالد ورفيق رحلته، مشروع عن رفيقه، وقد تضمن كل مكونات آسيا: الوثنية والمسيحية والإسلام. ويبدو أن خالد لم يحالف أحدا من هؤلاء، فقد حطم أيقونة العذراء المقدسة، وهاجم الشاعر المتنبي، وقلل من شأن الثقافة العربية الكلاسيكية. وحينما تعترض العائلة على حبه لابن عمته نجمة، تسنح له الفرصة (والحجة) لحرق أول مكوناته التقليدية. وهنا ينظر شكيب لصديقه من زاوية «صفاته المهيمنة، وهي الصبي ذو الرأس المتصلب والقلب القاسي والعنيد، والمتمسك برأيه وغير المتسعد للتراجع».
وحسب مصطلحات كوكس يودع خالد القرية، لكن ليس الثقافة المدنية المتزمتة والنصية، ولا القناعة الغيبية والافتراضية، التي يرى كوكس أنها «مرحلة بين القبيلة ومدينة التكنولوجيا، بين شكلين من الوجود الاجتماعي التراكمي، لإنسان من مرحلة سابقة على التاريخ، وهي مرحلة الرسم على جدران الكهوف، وإنسان متعلم من العصر الإلكتروني». ومغادرة خالد للقرية الشرقية يضيف بعدا آخر لنظرية كوكس… كان خالد أول الأمر، مثل أي مهاجر آخر يبلغ محطته الأخيرة، ويشعر بلحظة نوستالجيا لموطنه. ومع وصوله إلى نيويورك يبدو أن أحلامه تقوده ليقرر «أنه يجب أن لا يتبع غروب الشمس». بمعنى أن لا يذهب نحو الغرب. «لكن عليه أن ينظر بوجهه نحو الصحراء». ومع ذلك هو يستجيب للتحديات البطولية التي يتخذها المهاجر «والناجمة من داخله، التي تطالبه باتباع نمط حياة جديدة».
وسريعا ما يتأقلم خالد وشكيب مع المدينة (ويندمجان من خلال آلية التثاقف)، ويعملان بصفة بائع متجول، وهي مهنة أساسية متاحة للمهاجرين العرب الشباب في تلك الفترة. ويصبح لديهما حساب مصرفي، وفرصة مرافقة النساء في باتيري بارك. وفي هذه المرحلة كانا يقيمان في قبو، وهو جزء واقعي من تفاصيل حياة وسرد أي مهاجر، لكن في الوقت نفسه دليل على مادية الميتروبول الحضري. ومثل أي شخص يهمه أن يستمر بالحياة في أمريكا، يسقط الشابان في القبو المحفور في داخل كل منهما: وهو طبيعتهما المادية، لكن تفكير خالد يلجأ للصعود، ويصبح متفهما لاكتساب الفرص من حوله (ومتأقلما مع نقصانها). وطريقته بتعليم نفسه، كما لاحظ أحد النقاد، هي من خصائص المهاجر اللامبالي والنفعي، فهو يستهلك ويحرق عصارة الأفكار العظيمة التي توفرها الحضارة الغربية. وآلية تعلم خالد هي مثل ثقافة الريحاني: ثنائية النمط. فقد اختلف خالد وشكيب حينما تخلى الأول عن القواعد العربية، وأهمل النحويين العرب وتعليماتهم. وتحبيذه للإنكليزية كان سلوكا غائيا: فقد لاحظ أنها أغنى وأنشط من اللغة العربية بسبب تعدد القواعد والأفعال والأزمنة والصيغ. وفي الوقت نفسه هو سلوك نفعي: فاللجوء لتوظيفها في كتاباته سوف يسجل له سبقا تاريخيا، ويصبح رائد حركة التأليف باللغة الإنكليزية.

ترجمة: صالح الرزوق/ كاتب وأكاديمي سوري

جيفري ناش
باحث في جامعة لندن – كلية الدراسات الشرقية والافريقية