إبراهيم بيرم
النهار
21102017
المتضلّعون من مُضمر رئيس مجلس النواب نبيه بري، وخصوصا اولئك الذين قُيّض لهم ان يواكبوه عن كثب في رحلته الطويلة في عالم السياسة مذ كان أحد رعيل الآباء المؤسسين لحركة “امل”، يفصحون في مجالسهم الخاصة عن قناعة تكونت لديهم فحواها ان ديدن الرجل وهاجسه الدائم هو ان يترك بصمة مميزة في كل مسؤولية تسنّمها وفي كل مجال كُتِب له ان يكون سيده ليقال بعده :”من هنا مرَّ أبو مصطفى…”.
مع نظام الحكم المبني على اساس اتفاق الطائف، كانت هواجس بري ومخاوفه من نوع آخر. فالمحيطون بالرجل تحدثوا عن شعور لم يكتمه بان الرئاسة الثانية وإن تخففت من “الظل الثقيل الوطأة” للرئاسة الاولى وصلاحياتها الفضفاضة بموجب ميثاق الـ43، الا انه كان على رئيس المجلس الآتي في ذلك الحين من صف ما صار يعرف لاحقا بـ” زعماء الحرب” ومن معاناة المرحلة التي خاض فيها بري المواجهة مع نظام الرئيس امين الجميل وما تخللها، لاسيما بعدما آلت اليه رغما عنه زعامة الشارع المنفلت من عقاله في مرحلة ما صار يعرف بانتفاضة السادس من شباط 1984، كان عليه ان يواجه شبح خطر آخر في ظهر الغيب تجسده الصلاحيات الواسعة للرئاسة الثالثة الممنوحة لها عن سابق دراية وتخطيط بموجب اتفاق الطائف، وخصوصا السمة المطاطية لهذا العقد والتفسيرات المتباينة التي أُسبغت على بنوده ومندرجاته. واستطرادا وجد بري نفسه في نزال قسري مع “القوة الاستثنائية والقدرات الخارقة” التي زُوّد بها الرجل الآتي الى سدة هذه الرئاسة، اي الرئيس الراحل الشهيد رفيق الحريري، الذي آلت اليه مقادير الحكم والمال والاقتصاد برعاية من الرياض ودمشق معا.
لذا ورغم مرور الايام، ثمة من لايزال يذكر مرحلة صراع الارادات وتصادم الحسابات بين الرئاستين الثانية والثالثة والتي كانت سمة الاعوام الممتدة من 1992 حتى 1995 وشملت العديد من الملفات قبل ان يتدخل الرعاة الاقليميون ويفرضون معادلة شركة تأقلم معها الطرفان لاحقا وارتضيا قدرها.
كان بري مضطرا يومذاك الى الجنوح الى هذه المواجهة لان المرحلة كانت بعُرف الجميع تنطبق عليها حينذاك صفات المرحلة الانتقالية بين عهدين وجمهوريتين، والشطارة مطلوبة واليقظة ايضا بغية فرض قواعد لعبة الحكم وخطوطها الحمر وتوازناتها البالغة الدقة. كان على بري ان يخوض مواجهة عنوانها تأمين سبل ادخال “الشيعية السياسية” جديا الى عالم القرار، اي ازالة صفة “الحرمان والتهميش” من قاموسها نهائيا، ومن ثم توفير التثمير السياسي لرحلة نضال الشيعية السياسية التي بدأت مع الامام الصدر في مطلع عقد السبعينات.
في بداية مرحلة اعتلائه سدة الرئاسة الثانية التي قيل ان “خطيئة” سلفه السياسية مهدت لذلك، كان بري مضطرا الى ان يتكىء اكثر ما يكون على عكاز دمشق ونظامها حصريا، فالساحة الشيعية كانت يومذاك في حال ارتجاج واضطراب مع الصعود الجامح لـ”حزب الله” ولم تكن طهران قد استقرت على فكرة القبول بثنائية شيعية متعايشة على ارضية واحدة، وبمعنى اوضح كان لزاما على بري ان يجتاز امتحانا طويلا ليثبت زعامته ودوره المتقدم في ساحته وقبل ان يصير في خاتمة المطاف “رئيس الضرورة” الذي لا يستغني الجميع عن وجوده او لا يتصورون مجلسا تشريعيا لا يمسك هو مطرقته ويدير جلساته.
ويذكر العالمون بمسيرة الرئيس بري ان آخر محاولات “اقتلاعه” من الرئاسة الثانية جرت بُعيد صدور نتائج انتخابات عام 2005 حيث خلصت “حسبة” قوى 14 اذار التي كانت في ذلك الحين في ذروة صعود نجمها وامساكها بمقاليد الحكم وبدعم من جهات خارجية، الى البحث جديا عن بديل شيعي منه كحلقة ضرورية للقطع مع عهد الوصاية السورية. وعليه جرت عملية استعراض وغربلة لأسماء معينة واستمزجت شخصيات بعينها، الا ان الفريق اياه عاد وصرف النظر بعدما وجد صعوبة كبرى، فضلا عن اعتراض شرس من “حزب الله” عبّر عنه النائب محمد رعد. يومها كانت موجبات التحالف الرباعي ما زالت سارية ولم تفقد صلاحيتها، وكانت قوى 14 اذار تقلّب كل الاحتمالات. ولاحقا رد بري، الذي لا ينسى ابدا، على هذا التوجه الخفي لإعدامه سياسيا، فاتخذ قرارا بالمواجهة من خلال قفل ابواب المجلس امام الجلسات لأكثر من عامين ومشاركة حركة “امل” في تنظيم الاعتصام الطويل في وسط بيروت من دون ان يكون محايدا تماما في احداث 7 ايار الشهيرة عام 2008. وبعدها جرت مياه من تحت الجسور غيرت من قواعد اللعبة والتوازنات، فأضحى بري في نظر كارهيه ومحبيه على السواء بيضة القبان والشخص المرجعي ومالك ناصية اللعبة السياسية الذي لا يمكن حتى مجرد التفكير بالاستغناء عنه، وهي مسلّمة سارية الى اجل غير منظور او الى ان يقضى الله أمراً كان مفعولا.
غداة الاحتفاء باليوبيل الفضي لرئاسة بري للسلطة التشريعية، ثمة ولاريب رؤيتان: الاولى تراه في عداد من كرسوا المحاصصة والزبانية وهو صاحب شعار”عالسكين يا بطيخ” يرفعه دوما بصريح العبارة، فيما الرؤية الاخرى تجده علامة فارقة في مسيرة مجلس النواب غطت هضامته وخفة ظله واتقانه قواعد اللعبة الداخلية وابقاؤه مرجعية لشريحة واسعة من القوى والتيارات، على كل ما يمكن اعتباره اخطاء.