1 نيسان 2017
النهار
تميَز لبنان بمنظومة للتعليم العالي ذات سمعة مرموقة في المنطقة العربية لعقود طويلة بدأت بالاندثار في الآونة الأخيرة بسبب المنافسة الشديدة من جامعات كانت قد بدأت نشأتها في العقدين الأخيرين في منطقة الخليج العربي، منها من كان محليّ الهوية أو “مستوردًا” كفروع لجامعات عالمية. وتزامن هذا مع ازدياد غير منطقي أو مدروس لمؤسسات التعليم العالي الخاص في لبنان التي وصل عددها إلى خمسين مؤسسة اختلفت أنظمتها ورسالاتها (غير ربحي وربحي) وخصائصها الإدارية والبيداغوجية، وبالطبع مستوياتها من حيث نوعية التعليم العالي وجودته. ولم يساهم هذا التوسع في المنظومة بتحسين مستوياتها، بل على العكس، بات لدينا في لبنان جامعات تجارية تسعى إلى الربح على حساب النوعية. نتيجة هذا، بدأت الحكومات اللبنانية السابقة ووزراء التعليم العالي الاهتمام بموضوع تنظيم قطاع التعليم العالي تزامنًا مع التوجه الإقليمي (الذي تُرجم في مؤتمرات رسمية عدة) لجعل ضمان الجودة محور الإصلاحات التربوية ومقصدها في الأقطار العربية.
جاء القانون رقم 285 “الأحكام العامة للتعليم العالي وتنظيم التعليم العالي الخاص” الذي صدر في العام 2014، لتبدأ معه مبدئياً عملية الإصلاح التربوي للتعليم العالي في لبنان، وليكون بديلاً من قانون عام 1961 منهياً بذلك فترة خمسين عاما خلت منها أية قوانين أو مراسيم عصرية ضابطة للتعليم العالي في لبنان. ومن دون شك، بادر القانون الجديد إلى وضع ركائز ومفاهيم أساسية لا غِنى عنها في أي منظومة وطنية للتعليم العالي في يومنا. وعلى رغم شوائب عدة فيه، إلا أنه يضع مفاهيم حديثة في منظومة التعليم العالي الحالية ويثبت معايير خاصة بنوعيته، يبدو بعضها بديهيًا أول وهلة، لكنه أساسي لضمان حد أدنى من النوعية، وهذا ما يفتقر إليه، للأسف، عدد غير قليل من الجامعات العاملة في لبنان.
من معايير الحد الأدنى التي يتناولها القانون، إقرار مبدأ اعادة التدقيق بأوضاع المؤسسات الخاصة للتعليم العالي بشكل دوري كل ست سنوات، وهذه النقطة الأهم التي أتى بها القانون في مجال تفعيل رقابة وزارة التعليم العالي. كما قام بتحديد شروط الترخيص المُلزِمة لإنشاء مؤسسة تعليمية، والتعريف بأنواع مؤسسات التعليم العالي من جامعات وكليات جامعية ومعاهد تقنية، وبأنواع الشهادات التي يُسمح لهذه المؤسسات بمنحها من إجازة وماجستير ودبلوم تقني، وصولًا إلى الدكتوراه…
هذا، ويضع القانون الأرضية اللازمة لعمل الهيئات الناظمة للتعليم الخاص من “مجلس التعليم العالي” و”اللجنة الفنية الأكاديمية واللجان المتخصصة بالبرامج” و”لجنة المعادلات”، ويُحدد آليات الترشح لها وعملها ومهماتها وصلاحيتها.
على رغم وجود ملاحظات نقدية في شأن كيفية تشكيل اللجان ومهماتها وعملها بشكل عام، تركز هذه المقالة على العنصر الأهم في القانون، الذي يُعتبر قفزة نوعية في المقاربة المتبعة لضمان جودة التعليم العالي في لبنان، والذي تجسّد في المادتين 36 “تقييم واعتماد المؤسسات الخاصة للتعليم العالي وبرامجها” و37 “هيئات ومؤسسات التقييم والاعتماد” من القانون المذكور، اللتين تجسدتا في مشروع القانون الجديد لإنشاء “الهيئة اللبنانية لضمان الجودة في التعليم العالي” الذي أُحيل مؤخرا الى اللجان المشتركة في المجلس النيابي للمناقشة ولم يقّر بعد.
على رغم أهمية المبدأ بحد ذاته، أي إقرار إنشاء منظومة وطنية لضمان الجودة، لم تصدر بعد، بطبيعة الحال، الآليات الإجرائية والتنظيمية وتطبيقها لمشروع قانون “الهيئة” المذكور أعلاه، ومن دون وضع هذه الآليات لن تُفعّل عملية ضمان الجودة على المستوى الوطني ولن نُبصر لها نجاحًا. لذا نرى من الأهمية القصوى أن نطرح عددًا من المسائل التي يجب دراستها في المرحلة “التنظيمية” المقبلة لعمل الهيئة المقترحة حين يقّر القانون، ملخصة بالآتي:
– المسألة الأولى: استقلالية الهيئة الوطنية المقترحة ودورها، وهذه مسألة حساسة، ذلك أن جوهر العلاقة بين الهيئة ومؤسسات التعليم العالي يجب أن يكون الثقة المبنية على مبدأين: أولًا تقع المسؤولية الأولى لضمان جودة التعليم على المؤسسة نفسها؛ وثانيًا أن دور الهيئة تنظيمي داعم لهذه العملية وليس رقابيًا. كما على المنظومة الوطنية المقترحة أن تراعي بيئة التعليم في لبنان المكوّنة بأغلبيتها الساحقة من مؤسسات خاصة، لا تستفيد بأي شكل من الأشكال من التمويل العام، عكس ما هي الحال في أغلب دول أوروبا مثلاً، ومن الطبيعي أن يحّد هذا من دور السلطة الوزارية أو الحكومية التي لا تملك أساسًا أي أدوات لتنفيذ قراراتها (كما عهدنا في مرات عدة). ونرى أن الأنموذج الأقرب إلى لبنان هو الأنموذج الأميركي حيث أغلبية المؤسسات خاصة، وحيث هيئات الاعتماد مستقلة تمامًا عن السلطة، وتقوم المنظومة على تشجيع دور المجتمع ورأيه العام باعتباره رقيبًا على القطاع التعليمي كونه المستفيد الأول من هذا القطاع.
– المسألة الثانية: التقويم الذاتي والخارجي كأنموذج لضمان الجودة، لا مجال للبحث في أن الأنموذج الأمثل لضمان الجودة والتطوير المستمر يعتمد على دراسة ذاتية نقدية تقوم بها المؤسسة المعنية ومن ثم مراجعة خارجية من نظراء ينتج منها قرار في شأن مستوى المؤسسة، إضافة إلى خطة للتطوير المستقبلي. لكن السؤال كيف سيطبّق هذا الأنموذج؟ ما هي التفصيلات والآليات التي تحكم عمله من معايير وعناصر للدراسة الذاتية؟ من سيقوم بالمراجعة الخارجية وكيف سيتم اختيارهم في بلد صغير مثل لبنان من دون تضارب بالمصالح؟ كيف سيتم تدريبهم وعلى أي أسس ومعايير سيراجعون الدراسة الذاتية؟
إن بحث هذه الأسئلة ومعالجتها، ولو بدت بديهية، يشكل الفرق بين نجاح المنظومة وفشلها، التي يجب أن تُطوّر آخذة في الحسبان خصوصيات المجتمع اللبناني والبيئة التعليمية فيه.
– المسألة الثالثة: الدور التنافسي لقطاع التعليم العالي. ذكرنا سابقًا أهمية تشجيع دور المجتمع والرأي العام باعتباره فاعلًا أساسيًا في رقابة نظام التعليم العالي، وكما في قطاعات أخرى حيث يشكل التنافس بين المؤسسات حافزًا للتحسين المستمر لديهم، وكذلك يمكن للقطاع أن يستفيد من هذه التجربة في حال اعتمدت الهيئة ومنظومة ضمان الجودة على وضع الإطار والمحفّزات لذلك، ومنها توعية الرأي العام في شأن مؤسسات التعليم العالي ونظمها ودورهم كرقيب و”مستهلك” لمخرجات هذه المؤسسات، العمل على وضع معايير واضحة وشفافة تضمن الحد الأدنى من المستويات المقبولة في العملية التعليمية، وأخيرًا والأهم نشر وبشكل علني، نتائج المراجعة الخارجية على المستوى العام وليمكن بذلك دور المجتمع اللبناني كمحاسب لمؤسسات التعليم العالي.