الرئيسية / مقالات / بالصور: مشاهدات المربّع الذهبي في فرن الحايك من زيتونة سمير قصير إلى ساحة جبران تويني في التباريس

بالصور: مشاهدات المربّع الذهبي في فرن الحايك من زيتونة سمير قصير إلى ساحة جبران تويني في التباريس

في المنطقة الممتدة من زيتونة سمير قصير، على مقربة من مدرسة زهرة الإحسان، إلى طريق الشام غرباً، وصعوداً من ساحة جبران تويني الأوّل في التباريس، إما في اتجاه طلعة شحادة و”مقتنياتها” المعمارية المذهلة، وإما إلى شارع لبنان الحبيب ومتفرّعاته من البيوت العقد، والمتكأ اللذيذ حيث مقرّ الآباء اليسوعيين، إلى هوفلان الذي يليه توازياً، وغندور السعد، ورشيد الدحداح، وجرجي زيدان، والقلبين الأقدسين، وكلية مار يوسف، مروراً بمونو ومتفرّعاته، وقوفاً عند زاوية النبلاء، حيث كان ثمّة “الندوة اللبنانية”، وبيت ميشال أسمر في ترابو سابقاً، وديع نعيم حالياً، وصولاً إلى عبد الوهاب الإنكليزي والمتفرّعات، والدوماني، ويارد، وفرنيني – وهذه كلّها، مع غيرها، قد تتخذ لنفسها تسمية المربّع الذهبي لمنطقة فرن الحايك تعميماً – أجدني في رحاب الأمكنة الباقية ربما من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن الماضي، وهي صدىً لهبوب الأرواح والأفئدة التي تأبى أن تفارقني، وأشاء أن أنضمّ إليها كمَن ينضمّ على حياةٍ لم يسبق له أن عاشها في أحد الأيام.

مذ انتقلتُ إلى هنا، حيث بتُّ أقيم في موضعٍ ما من حنايا هذه الأمكنة، وأنا لا أكفّ عن التجوال في هذا “المربّع الذهبي”، حيث الرصيف الحميم، والشميم الجماليّ الوجدانيّ اللطيف الليّن المزاج، من أجل أن أسترجع ما لا يُحتمَل استرجاعه، أو أكتشف ما لا يُحتمَل اكتشافه، إلاّ بالمشي المتأنّي الذي لا يبتغي شيئاً ولا يرغب في شيء.

يغمرني إحساسٌ بأني جئتُ إلى هنا لأستعيد تاريخ الجغرافيا المندثرة، وجغرافيا التاريخ، مكتشفاً إيقاعاتها الهندسية، وأسرار المشهد المعماري العتيق. حيث هنا يجدر بي أن أخاطب مشاعر الفناءات والمَداخل والأدراج الحجر والقناطر والشرفات والنوافذ والشبابيك والحديد المصقول، بما يتلاءم وشغفها المزدوج؛ مرةً إذ تتشوّق لرؤية الخارج والتواصل مع خفّته اللامتناهية، ومرةً إذ تستشعر مسؤوليتها حيال المزاج الداخلي للأمكنة، فتكتفي بالإيماء الزاهد والإشارة الملتئمة بشروطها الخفرة.

لا أملّ هذه المخاطبات. وأسائل نفسي: هل هي، يا ترى، مخاطباتٌ معنويةٌ ومجانيةٌ فحسب، أم هي في الآن نفسه مخاطباتٌ بصوت الكلام، أنتبه أحياناً أنّي أُطلِقها من حنجرتي على طريقة الهمهمة والتأوّه أو المناداة؟!

يسعدني أن أرى في هذه المخاطبات، ما يشبه، في الواقع المادي، لمسةَ نسيمٍ على وجهٍ موجوع، أو رطوبةً طيّبة من جرّاء اختلاط الأجسام بالأجسام. إنها، يا لفاعليتها الدينامية، وعلى سبيل التحوّط، فعلٌ راهنيُّ السطوة والحضور، وليستْ فعلاً تذكرياً، ولا ارتدادياً نحو ماضٍ لم يشأ أصحابه أن يحافظوا على مكوّناته، من حيث معايير التنظيم المدني. فهي تمنح شخصاً، كالشخص الذي يسطّر هذا النص، القدرة على مواصلة التشبّث بالأمل المديني النادر الضئيل، وعلى ازدراء غوايات الرعب العمراني المتوحّش، الهاجم، مدجَّجاً بشراسة رأس المال، وبانعدام الثقافة والذوق والمعيار، لاحتلال جسد الذاكرة وفضائها، والمعنى والدلالة.

يهمّني التأكيد، ككاتب، وككائن، أنّي لا أملّ هذه المخاطبات. ربّما لأنّي جائعٌ بالفطرة إلى مخاطبة أحدٍ ما، أو شيءٍ ما، بقوة الوجدان الشعري والافتراضي. ولأنّي في الضرورة تائقٌ إلى المزيد من الجوع الذي يُضني، لكنه لا يفضي إلى يأس.

أخاطب هذه الأمكنة، وليس بي رغبةٌ في وصولٍ إلى مبتغى، ولا بي أيضاً سعيٌ إلى شبع، ولا بي تقصّدٌ لانكفاء. تستولي عليَّ حالٌ، كحال مَن لا يصف مشهداً بالعين، بل بخيال الروح. كلّما “وقعتُ”، رأيتُني مكتفياً بالصمت، أو بلغة العين. ليس ذلك بالبصر فحسب، بل بالكنه الذي لا تعتريه معرفةٌ مادية إلزامية. فها أنا أقف الأن أمام هذه الواجهة المعمارية بالذات. أنسى أنّي هنا في المكان. في اللحظة. يصيّرني الوقوف حالةً، هواءً، فيتصرّف بي، مثلما يتصرّف بالخفيف اللطيف من الأوراق أو الأوراح. هنا، حيث الفناء، حيث المدخل، ويليه الدرج، ويليه الباب، باب العمارة، وما يلتحق به من الأبواب النوافذ، وهذه جميعها تفترض أنها مسؤولةٌ عن الحياة الداخلية، فلا يسعها إلاّ أن تنضمّ على موسيقاها، من أجل أن ترعى بهاء الشجر المكتفي بأزهار أوصافه القليلة.

مثل هذا، يُشعِرني بامتلاءٍ لا سبب له سوى ما أنا مستسلمٌ له بدون شروط. والامتلاء ملازمٌ للتوقف، عندما ليس هناك سببٌ للتوقف. وهو ملازمٌ لإغماض العين عندما ليس من سببٍ يستدعي استكمال الرؤية.

وأنا مبصرٌ، لكنّي لا أدري ماذا أبصر. أأبصر، يا ترى، البحر الممتدّ افتراضاً، أمامي، وبلا هوادة، أم أبصر الجبل الذي ينحني على روحي برفقٍ يوازي الرفق الذي تحتاجه حياتي الخفيضة الجناح!؟

ليست الجغرافيا المُشار إليها هنا، هي الموضوع، بل ما يفوح من هذه الجغرافيا، وما يشعّ من علامات التاريخ التي تترك بصماتها ها هنا، ممتزجةً بحفيف هياماتها الشجيّة. هذا كلّه، لا يؤخذ بالمكان فحسب، ولا بحاسة الشمّ، ولا خصوصاً بالجزئيّ من المشاعر والتخييلات، وإنما بما يتناهى إلى المرء من تردّدات الأهل والنسيج السكّاني والأعمار والسكّان والأزمان والحكايات واللحظات المنكفئة على حبرها الداخليّ.

أمشي في “الدائرة الذهبية” هذه، وهي خلاصة التسمية التي أُعطيت لهذه الشوارع والأزقة. كلّ يومٍ، أمشي، ها هنا، فجراً وليلاً، وفي النهار. وأمشي في رأسي، لكني أمشي خصوصاً في أروقة جهلي، وفي متاهاتها المثيرة للابتسام والالتباس، كمَن ليس في مقدوره أن ينخرط في الوصف، كما يفعل بحذاقةٍ رهيبة الرحّالةُ أو المشّاؤون. مَن مثلي، لن يكون دقيقاً بما يكفي، لكي يتولّى مهمةً كهذه، هي مما يتباهى به الأساتذة النبهاء الملمّون بهندسة التاريخ، ومقتضيات الجغرافيا. فما أنا سوى غيمة تتّخذ شكل الغفلة العابرة على فوضى، وعلى غير انتباه. وهي غيمةٌ تعبر فحسب، من أجل أن تستذكر شقيقاتها اللواتي سبقنها في العبور، التحاقاً بمطر تَساقَط في أحد الأيام على شبّاكٍ – نافذةٍ، وعلى شبهِ انشقاق. أو هي غيمةٌ تعبر، من أجل أن تستعيد، وأقصد الغيمة تلك، لمسةً قد أثارت، ربّما، شهوة قنطرة، أو استفزّت نعاس شرفة، في هذه – هاتيك العائلات والعمارات والبيوت المتفرّقة على أوجاعٍ مستفيضة.

يغمرني ليلٌ أرى فيه كلّ شيء. أي أنّي زاعمٌ رؤيةَ ما لا حاجة إلى رؤيته بالعين، ولا استشعاره بالحواسّ الأخرى. هي حالةٌ تصيب مرضى الأمكنة المندثرة، وأصحابها، التي والذين لم يبقَ منها ومنهم إلاّ ما يشهق متحشرجاً، لئلاً تنسدل الرئة على الرئة إشعاراً بالموت الأخير.

وكما يغمرني الليل المُلتَفَتُ إليه، يغمرني فجرٌ، هو بين العتمة الدامسة وانشقاقات الضوء، حتى لأُصاب بوجع الحنين الغامض إلى السديم الأوّل، وهو عندي سديمٌ مطلقٌ، لأنه لا يؤخذ بنباهة التذكّر، ولا بحذاقة التفاصيل.

ولأني مغمورٌ في الحالتين، يمكنني وصف الذات الشخصية، بأنها ذاتٌ عاطفيةٌ وشعريةٌ منقرضة، أو شبه منقرضة، على غرار العمارات الروحية القليلة التي تتطلّع بالفراق الأليم إلى أهلها وسكّانها ونسيجها المجتمعي، وأيضاً إلى هندساتها، كما يتطلّع عمرٌ إلى ماضيه المندثر.

هل تدرك العمارات – الأمكنة – الكائنات هذه، بما هي أهلٌ، وفناءاتٌ، ومَداخل، وأدراجٌ، وقناطر، وشبايك، وزجاجٌ معشّق، وسقوفٌ عالية، وحجرٌ كريم، أنّي مغرمٌ بها، ولا أملك سوى أن أذهب إليها، لأحاورها، ولأقبّلها بجوارحي، سرّاً وعلانيةً، ولأتأمّل عجزي المهيب حيالها، ولتتأمّل، هي، سطوتها الفائقة عليَّ؟!

أطبيعيٌّ هذا التأثير، ولماذا؟! أعترف أنه ليس عندي، هنا، في المدينة العاصمة، ما يفعل فعله بي، مثل هذه الأمكنة، التي توازيها في المنزلة “رأس بيروت”، المنطقة برمّتها. حتى لأصير غيوماً من أجلها، وأشعاراً، وفيروز، وعصافير، ورذاذاً، وقمراً على استحياء، وشمساً على وشك الأفول والشروق، معاً، وفي الآن نفسه.

لا أطلب منها، من الأمكنة، أن تبادلني غراماً بغرام، وعشقاً بعشق، وألماً بألم، ويأساً بيأس، وكبرياء بكبرياء. لكنها، ولا بدّ، عارفةٌ ما بي، وبنا، أولئك الذين أتشبّه بصيرورتهم عباقرةً وشعراء ومتصوّفة وعشّاقاً ومهندسي ثقافات وأفكار، لأنهم يسكنون أرواحها، وتسكن، هي، أجسامهم، وعقولهم، وأذواقهم، الملأى بثقافات الشجو والرنين، وإيقاعات الألق والأناقة.

وأعترف. فأنا أهِمُّ، مراراً وتكراراً، بأن أهتف لها مسبِّحاً: هللويا! وأكاد من تلقاء قلبي، ألعن كلَّ مَن سوّلت له يداه المتسختان – وهما التعبير الوقح عن دنوّ العقل والقلب والوجدان من القاع اللئيم – تجريف المئات من العائلات – العمارات – الأمكنة – الكائنات، التي كانت قوام المدينة، وجسد تكويناتها المعمارية والهندسية، وأسلوب حياتها، وهيكل ثقافتها المجتمعية والأخلاقية والقيمية.

لا أزال حتى لحظة كتابة هذا النص، أُلامس هذه المَواضع بخفرٍ وتهيّب. كعشيقٍ يقع بالضربة القاضية، منذهلاً بالكائنات الجمالية الفائقة المعنى والدلالة، التي تتشبّث بما تبقّى من أمزجة الشوارع والأزقة المذكورة أعلاه، والتي يتمدّد رحيقها في الأنحاء والجهات، حتى لأشعر بالعجز الشعري والإنساني حيالها.

كلّ يوم، ليل نهار، أعبر هذه الأمكنة، من زيتونة سمير قصير، على مقربة من مدرسة زهرة الإحسان، إلى ساحة جبران تويني في التباريس، فطريق الشام، فمن ثمّ طلعة شحادة الميمونة، فعبد الوهّاب الإنكليزي والمتفرعات وصولاً إلى شارع لبنان الحبيب والمتفرعات، وخصوصاً زاوية النبلاء، وأجدني أشهد هاتفاً ومسبّحاً، ومستمطراً في الآن نفسه، اللعنة الرجيمة على أصحاب الأيدي والضمائر المتسخة بالرأسمال المتوحش وأخلاقياته الدنيئة وذوقه الثقافي المريع!

akl.awit@annahar.com.lb

اضف رد