الرئيسية / home slide / «باص أخضر يغادر حلب» للسوري جان دوست: ذاكرة حيّة سينساها التاريخ

«باص أخضر يغادر حلب» للسوري جان دوست: ذاكرة حيّة سينساها التاريخ

فايز غازي
القدس العربي
04032021

اذا كان اللون الأخضر يعكس معاني البدايات الجديدة ويبشّر بأيامٍ ربيعية دافئة بعد انقضاء ليالٍ شتوية باردة، فإن خضرة باص حلب لجان دوست تعكس معاني التهجير القسري الذي تعرّض ويتعرض له الشعب السوري في رحلة الموت العبثية التي قطع تذاكرها منذ سنوات ولا زالت مستمرة بدون اي آفاقٍ واضحة او نقطة وصول!
بلا عودة

«الحروب احتمالات، افضلها اسوأ من اخيه»

تتمحور الرواية حول شخصية اساسية واحدة، «عبود العجيلي» أو «ابو ليلى» الكهل الحلبي، ابن عشيرة العجيل الذي ينحدر من قرية باسوطة التابعة لمنطقة عفرين في الشمال الغربي من سوريا، نعايش معه ذكرياته والفجائع التي ألمّت به وبعائلته، برحلة استرجاعية بدأت على مقعد باص متوقف في حلب الشرقية لنقل سكان المنطقة بعد الحصار الذي ذاقوا لوعته واثر اتفاق تسليم المدينة لقوات النظام، وانتهت على مقعد باص سائر في البرزخ، رحلة تتأرجح ما بين الفقد والتهجير، يرسم الموت ملامحها وتظللها شظايا القنابل. «ابو ليلى» في هذه الرواية يشبه شخصيات سفيتلانا الكسيفيتش، تلك الشخصيات الصامتة البسيطة العادية التي تعيش الحدث وتتحمل اوزاره وانعكاساته السلبية دون ان تلتفت اليها وسائل الإعلام او السرديات الأدبية ليقوم التاريخ بنسيانها وشطبها من متنه لاحقاً!
يبدأ دوست روايته من الباص المتوقف على حاجز التفتيش، حيث يدقق الجندي بالهويات فيصل عند رجلٍ ينظر في الفراغ لا يستجيب له ليكتشف بعدها انه قد توفّي في مقعده. من هنا تبدأ الرواية في رحلة استرجاع ما بين صعود الرجل الى الباص ووصوله الى الحاجز كزمن حقيقي وما بين ذكرياته عن ماضيه القريب والبعيد وغوصه في خيالاته وقصصه في الزمن السردي، هذه المواءمة ما بين الزمنين تحكمت بحجم العمل وحدّت من الاستطراد السردي فأتت الرواية قصيرة لكن بكثافة عالية، وامتازت باللغة السلسة وبالحوارات العامية باللهجة السورية المحببة التي كسرت رتابة الفصحى وشكّلت صلة وصل اكثر حميمية واكثر اقناعاً ما بين الشخصيات والقارئ.

الذاكرة وتفاصيلها

«يلعن ابو هالحرب وساعتها. ما رح تخلص يعني؟ ما بيروح فيها غير المعتر متلي. تبهدلنا يا اخي ع الآخر. تبهدلنا، والعالم نسيونا. شو ضلّ منّي ما اخدتو الحرب ها. شو ضلّ غير هاي الروح يعني؟ والله العظيم لو يسقط عليّ صاروخ وربّك ياخد امانتو بيكون احسن. الله وكيلك، يا اخي، ما ارتاح غير اللي راح».
لم تقتصر المواءمة على الزمن، بل انسحبت على السرد ايضاً، في لعبة مرايا ما بين المشهد الإنطباعي من جهة وتداعيات الذاكرة من جهة اخرى، فكان السارد «ابو ليلى» يصف المشهد الذي يراه ويأخذنا بعدها في رحلة مع ذاكرته حسب ما يثيره المشهد من اشجان بداخله، فمشهد الطفلة التي تعبر الأنقاض وتجرجر كيساً خلفها ذكّره بحفيدته ميسون فبدأ بسرد قصتها وهي تلعب في الشارع قبل ان تشطرها احدى شظايا البراميل المتفجرة التي اسقطتها طائرات النظام، وقطعتها لنصفين. التشابه بين عينيها وعيني جدتها جعله يسرد قصة زواجه من «نازلي» ابنة التاجر الكردي عبد الحنّان آغا زاداه والتي عشق عينيها وصوتها الدافئ وتقاسيم جسدها الفتّانة. أمّا لهيب النار التي اوقدها المقاتلون فقد اعاده لشموع عيد ميلاد ميسون قبل موتها، ودواليك… بهذه الطريقة نتعرف على عائلة ابو ليلى، زوجته الكردية نازلي، ابنته ليلى التي اصابها الجنون بعد ان قامت داعش بإختطاف زوجها الطبيب فرهاد وذبحه، قصة حبهما وزواجهما وانجابهما لأولادهم الثلاثة. ابنه عبد الناصر الجندي الذي قتل بالخطأ في حرب المخيمات في لبنان. ابنه الثاني عاصم الذي هرب من الحرب نحو اوروبا ومات خلال رحلة التهريب غرقاً. ابنه الآخر عمر، المرشد السياحي في فترة السلم والجندي في مرحلة لاحقة والذي انشق عن الجيش السوري والتحق بالجيش الحر ثم بالنصرة في قصة تبدّل ولاءات وبيارق بين ليلة وضحاها قبل ان ينتقل اخيراً الى قوات الدفاع المدني، بالإضافة الى شخصيات اخرى أدّت دورها البسيط في الرواية بشكل دقيق مثل سائق التاكسي وأخوات عبود.
من الملاحظ ان جميع هذه الشخصيات هي شخصيات رديفة تنبع وتصب في ذاكرة الشخصية الرئيسية الوحيدة، وكان استعراضها لتبيان بعض اوجه الوجع والآلام التي عانت منها العائلات السورية والصعوبات التي واجهتها في خضم هذه الحرب المستمرة.

الراوي وشخوصه

«استهوته الثورة في بداياتها، لكنه أنفها حين أطلقت البنادق لحاها الكثّة». الرواية يسردها «ابو ليلى» كراوٍ أول، لكن صوت الكاتب واضح على لسانه حيناً وصارخ على لسان الراوي العليم: فجان دوست اتخذ الخيار الصعب بعدم الوقوف على ضفة والتصويب على اخرى، محاولاً بإستطراداته ترك مسافة واحدة بينه وبين الأطراف المتصارعة ليرسم المشهد السياسي بواقعية وحيادية، مبتعداً عن الخطابات الرنّانة او المؤدلجة، فلم يبقِ أحداً الا وأصابه، بدءاً من النظام الى الوباء الأسود داعش والنصرة الى الجيش الحر والميليشيات المستقدمة من الخارج، مروراً بروسيا والصين وامريكا وصولاً الى مجلس الأمن! هذا الأمر ليس بالسهل اليسير بل ينمّ عن رؤية واضحة للمشهد السوري الغارق بالدماء. وبذلك يكون الكاتب عرّى الجميع وأظهرهم على حقيقتهم: شعب اعزل بريء، طالب بالحرية والكرامة فوجد نفسه يُقتل على يد مجرمين يتقاتلون على السلطة والمال، جميعهم!

المأساة السورية

«أضحى المواطنون فرائس سهلة، تسعى الى التهامها جموع الصيادين الذين تكاثروا كالفطر على الأرض السورية التي جعلتها الدماء رطبة جاذبة لكل أنواع الضباع وملائمة لنمو الفطريات».
هذه المشهدية او القراءة الأدبية السياسية تطوّر الكتابة من رواية الى شهادة على الأحداث التي جرت في هذا الحيّز المعقد والمتعدد الأوجه، والتي قد يغيّرها كتّاب التاريخ لاحقاً تبعاً للمنتصر! وأظن ان ذكر كتاب ممدوح نوفل في الرواية اتى من باب هذه المقاربة.
المشهد الأخير من الرواية، جاء كخاتمة اغريقية لمآساة أبو ليلى ومجالاً لطرح الأسئلة واغلاق الحكايات مع عودة الموتى الى الحياة أو مع تحوّل الجميع إلى موتى وبقاء أرواحهم عالقة في هذا العالم، تحنّ إلى بيوتها في حلب، على إيقاعات المقامات الكردية الحزينة.
«حلو كتير لمّا يكون الواحد ميت. ع الأقل ما بيعود بيحس بأي شي».
رواية مؤلمة، بحبكة متينة وتقنية جيدة سلبيتها الوحيدة طغيان صوت الكاتب على صوت شخصياته في بعض الحالات، لكن الموجوع يُعذر، خصوصاً ان القارئ كلما رأى باصاً اخضراً في المستقبل سيتذكر ذلك الباص الذي يغادر حلب.

كاتب لبناني