الرئيسية / مقالات / بؤس البدائل

بؤس البدائل

 


سمير عطاالله
21022018
النهار

بل ان يضع اينشتاين نظرية النسبية ويغير مسيرة العلم، توصل الإنسان العادي، بالتجربة والسنين، الى علم البداهة والحياة: المطر الكثير الطويل يؤدي إلى الفيضانات، كما حدث في لبنان المجهول الاسبوع الماضي، وامتناعه يؤدي الى الجفاف، وبالتالي الحل في الوسط، أو “بين البينين” كما يقال في القرى.

ومن الآن وإلى ان نفهم قانون النسبية في الانتخابات، يحسن بنا أن نتمسك بقانون الحياة في الحياة، لأنه، مثل المطر والجفاف، ليس له سوى تفسير واحد: لا بلد قوياً باقتصاد ضعيف. والمدين لا يذهب مرتاحاً الى النوم، ولا يقوم مرتاحاً الى العمل. وإذا اردت مساعي وسيط ما، لا يجوز ان تقلل مقامه بداعي زحمة السير. فهذه غير مقبولة كعذر في مدن مثل لاغوس وكراتشي وبيروت وما شابه.

ثمة حقيقة واحدة في حياة الشعوب والأمم، هي ما نعرفه، للاختصار، بالاقتصاد. هذا كلام يقوله المخاتير، وكرره في دبي الاسبوع الماضي فرنسيس فوكوياما، أحد علماء هذا العصر. قال فوكوياما (1): إن الصين ازاحت اليابان عن المرتبة الثانية، وبعد ثلاث سنوات سوف تصبح الاقتصاد الأول في العالم، وتتراجع أميركا الى المرتبة الثانية. وفي صورة تلقائية، أيضاً في قواعد الطبيعة، سوف تتحول الى الدولة الأولى سياسياً.

كيف وصلت الصين الى هنا؟ لا أدري ما هي الأسباب التي عدَّدها فوكوياما علمياً. لكن في البداهات إنها انتقلت من دولة عليلة الى علو المراتب، عندما فكت عن نفسها الحصار وفتحت أبوابها للعالم، وتقبلت مبادىء الحياة بدل اشعار “الكتاب الأحمر”. لن يتعافى اقتصادنا في هذا الحصار الجزئي الذي نطبقه على أنفسنا. لا عجائب في المسألة ولا معجزات. والطاقات الادارية لها حدودها البشرية. لا يمكن قيام اقتصاد مفتوح بسياسات مغلقة. لا عجائب.

التجربة الصينية، بجميع وجوهها، مرت مراحلها أمام العالم أجمع. لا اسرار ولا عصي سحرية. في أربعة عقود، كررت تجربة المانيا الغربية بعد الحرب، وتجربة اليابان، وتجربة كوريا الجنوبية. والقاسم المشترك واحد: الخروج من الحصار، خصوصاً الذاتي. كان الفارق بين المانيا الشرقية والمانيا الغربية شارع واحد، وعالم برمّته. الألماني نفسه ينتج هنا سيارة “ترابانت”، وهناك “المرسيدس”. والكوري نفسه يرسل رئيسته في الجنوب الى السجن، وفي الشمال يرسل زعيمه المبجّل إلى الألوهية والسجود.

تضع الدول سياستها الخارجية في خدمة شعبها ومصالحها. من أجل مزارعي القطن في أميركا رفض جون فوستر دالاس ان تمول أميركا السد العالي. وخسرت أميركا مصر. والعرب.

في ذروة الحرب الباردة كان جورج اف. كنان، حكيم حكماء السياسة الخارجية الاميركية، يقول: السوفيات شعب له كبرياؤه، ويجب ألا نشعره بالإهانة. ولعله كان يبني قناعته، وهو العاشق للأدب الروسي،على رواية “الاخوة كارامازوف”، حيث يرتكب الشقيق الأكبر الخطأ الذي لا ينسى في حق أحد الفلاحين، الإهانة.

عاشت أوروبا قروناً وهي بالقفازات والمبارزات. وفقدت روسيا أمير الشعر الكسندر بوشكين مبكراً في مبارزة سخيفة مع “جيغولو” فرنسي لا يعرف أحد اسمه.

القاعدة ان نتبادل الكرامات، لا الإهانات. ولم يقلها اينشتاين، ولا وردت في قانون النسبية، لكن في بداهة البداهات، ان الحياة مبادلة. كيف، مثلاً، استطيع أن أبني مبدأ المبادلة مع السعودية والكويت والامارات بعد نحو 60 عاماً من العلاقة؟ من يستطيع ان يقدر حجم هذه العلاقة التي هي، مادياً، من جانب واحد؟ أي الهجرة اللبنانية إلى هناك والاستثمار الخليجي هنا والمساعدات والودائع؟

يكرر الرئيس سعد الحريري التأكيد على سياسة النأي بالنفس، لكن يبدو أنها سياسته وحده. أو سياسة الجزء المتعلق به من الجمهورية. فالجولة التي قام بها وزير خارجية الولايات المتحدة على الرئاسات الثلاث راوحت مظاهرها وصورها وبياناتها، إلا من حيث الموقف من اسرائيل. والحمد لله.

كعادتها في تقديم الخدمات غير المقصودة، أكملت اسرائيل عناصر العداء في البحر، بعد الأرض والجو. وهي تذكِّر أهل الجنوب بذلك كل صباح عندما تتجول طائراتها في سمائنا كأنها تقوم بعرض مذل. والعدوان البحري أكثر اذلالاً لأنه ليس في وجهنا فقط، بل في وجه جميع القوانين الدولية. ولا يكفي ان الدولة وقَّعت اتفاق مُجحف في حقّها وحق شعبها، فكما تسللت اسرائيل الى المياه العذبة من تحت الأرض، وإلى الأرض المقدسة من فوق الأرض، تريد ان تضع يدها الآن على اعماق البحر. وبصرف النظر عن جدوى الأمم المتحدة وضعفها التاريخي، فإن خرائط الحدود البحرية خاضعة لمعايير ومقاييس متفق عليها.

خصوصاً ان المنطقة عائمة اليوم فوق بحار من النزاعات المشتعلة والكامدة، من “البحر الليبي” كما كان يسميه كازانتزاكيس، إلى بحر العرب! ومن هناك، جاءت المفاجأة الأخيرة: وزير الدولة العماني للشؤون الخارجية، يوسف العلوي، اول مسؤول عربي يزور القدس والأقصى وكنيسة القيامة.

لا بد ان نتذكر أمرين: الأول، ان السيد العلوي، اقدم وزير خارجية عربي، لا يزال “وزير دولة”، بمعنى ان الوزارة نفسها للسلطان قابوس. وهذا تقليد حافظ عليه من قبل حتى وفاته، الملك فيصل بن عبد العزيز. أي ان الوزير حامل لسياسة الحاكم نفسه. والأمر الثاني، أن عُمان اعتادت الانفراد في المواقف خارج النطاق العربي. فبعد كمب ديفيد كانت الدولة العربية الوحيدة التي لم تقطع العلاقة مع مصر.

نذكر ذلك كي نتساءل إن كانت مبادرة أمين أسرار السلطان فردية أم جزءاً من مبادرة أوسع، أم تمهيداً لخطة أكبر؟ معروف ان عُمان تمارس داخل مجلس التعاون سياسات مستقلة، وأحياناً متناقضة. ليس فقط حيال الموقف من اسرائيل، بل أيضاً حيال ايران. وأيضاً حيال قطر. وبدا قبل فترة وكأن عُمان والدوحة سوف تخرجان من المجلس، غير ان مساعي الشيخ صباح الأحمد أبقت المسائل حيث هي، على الأقل، أي الازمة باقية لكن الحل ممكن.

ماذا يحدث حقاً في حوض البحر المتوسط وبحر الشرق الأوسط؟ إذا اردت جواباً مختصراً، فهو ازدياد غربة العرب والعروبة. بكل بساطة تعقد في تركيا قمة ثلاثية للبحث في وضع سوريا، تحضرها من هذا الأوسط، تركيا وايران ويغيب عنها سوريا وعموم العرب. وفي المقابل تشتعل مواجهة بين تركيا والاميركيين بسبب الاكراد في “عفرين”، وعرب الشرق الاوسط غائبون. وأول دولة تبادر الى تحريك القضية المنسية هي آخر دولة عربية على خط ما عرف بالشرق الأوسط في التسمية الاميركية، خلفاً لـ”الشرق الأدنى”، التي اعتمدها الفرنسيون والبريطانيون.

الآن يجب أن نبحث لانفسنا عن تسمية، أو تسميات، ملائمة للوقائع والمتغيرات التي قسمت فلسطين بين العلاقة الاسطنبولية في غزة والسلطة الوطنية في رام الله، وحولت قلب العروبة النابض في سوريا الى قلب الصراع اللاعربي، تركيا – ايران – اسرائيل – أميركا، وفوقها يد الروسيا ترعاكم، وتحدد لكم الاتجاهات والمساحات ودرجات الحرارة والبرودة.

رعت روسيا السوفياتية القومية العربية على رغم عدائها للقوميات. وفي ذروة حماستها استخدمت الفيتو ضد انضمام الكويت الى الأمم المتحدة اكراماً للعراق. وليس من يذكر العروبة اليوم إلا تحسراً على ما قد مضى. أو في هوامش التاريخ المعاصر. هبة لم نعرف كيف نطورها ونحافظ عليها. وإلى جنابكم… بؤس البدائل.

(1) منتدى القمة الحكومية – دبي.

اضف رد