الوشاح

سمير عطاالله
14022018
النهار

(النهار)

كتبت الاديبة غادة السمان (1) أن الحاكم الحقيقي في لبنان هو الخوف. بلد لا يعرف متى سينفجر، ولا أين. خناقة أو مشكلة أو عود ثقاب، ويتحول بحر الجمال الى موج الغربة، كما وصفه امين معلوف في “صخرة طانيوس”. في الرواية التي نال عليها “غونكور”، أي الخطوة الأولى من عمادته أديب فرنسا، قال: “هذا هو جبلي! خليط من الارتباط بالتراب العائلي والتطلع الى المنفى. ملاذ ومهرب معاً، أرض من الحليب والعسل والدماء، ليس السماء ولا الجحيم، بل هو بالاحرى المطهر”.

كانت غادة السمان، التي استوطنت بيروت وكتبت لها منذ 1963، تعلق على ليلة الهاوية التي عاشت المدينة على حافتها بعد انتشار ذلك التغيير الذي أعاد فرز البلد فوراً الى طوائف ونعرات. كل واحد فينا يعرف كم ان خليط “صخرة طانيوس” سريع العطب. عندما كنا نسكن لندن كان الى جانب منزلنا حانة شعبية جداً لا يتركها روادها إلا وهم متعتعون من البيرة، يصخبون ويتمازحون ويتشاتمون.

كان ابني وابنتي طفلين آنذاك. وكنت أخشى ان ينحرف العراك مرة صوب المنزل، ولذا لم أذهب ليلة الى النوم قبل التأكد من ان أبواب الحانة اغلقت والليل مرّ على سلامة. وفي بيروت، مثل أي أب آخر، لا أذهب الى النوم قبل التأكد من أن الأصوات، أصوات مفرقعات بليدة سمجة وليست بداية السموم. الفارق بين الخوف من انفلات أهل الحانة وانفلات أهل البلد، كالفارق بين ان يكون الحاكم هو الخوف، أو القانون.

اعتبر عالِم فرنسا وعاشق لبنان، ارنست رينان، ان وحدة الدولة يقيمها التقاء مجموعة من الشعوب، وليس اللغة أو الدين أو اللون. لكن متى تلتقي تلك الدولة، وحول ماذا ومَن؟ لا يمكنها ان تلتقي على طريقة أهل الحانات: أنخاب في أول الليل، وعراك في آخره.

دول الطوائف لا تقوم ولا تدوم. ولا دول القبائل. ولا دول التجمعات. ولا دول الحزب الواحد مثل الاتحاد السوفياتي وسائر مداراته. والصين استثناء لأن الحزب لم يعد راعياً، بل اصبح مجرد مدير في الجناح الخلفي لا تراه ولا تشعر بوطأته. قيامة الصين حدثت فقط عندما اعطي الصيني الحرية.

التجمعات، أو الشعوب، أو الأسر التي حكى عنها رينان، نزيل عمشيت في القرن التاسع عشر، يجمع بينها دستور او قانون أو اعراف تطبق، وليس تكتب فقط. وتكون هذه التقاليد هي الممارسة الدائمة، وهي آداب الحياة المشتركة وهي روحها. لبنان ميشال شيحا بدا صعباً لأن مكوناته الرفعة، وليس الاستعلاء. وقد ملأه بجماليات الوجود فرفضه الذين يعيشون من صغارات البقاء. كان لبنان “كاملوت”، مملكة ساحرة تتبارز فيها الناس بالغناء، وتذهب معاً الى الحقول والحصاد، فأي شهوة استبدادية يمكن ان تقبل بهذا النموذج؟

الانتخابات، بعكس مظهرها، اصبحت سبيلاً آخر من سبل الاستبداد والتربح وتكريس الفساد. فهي لا تترك مكاناً للصالحين، أو أهل النخبة، أو الذين لا يملكون من المال ما يمكنهم شراء التبني. لم يحدث مرة في لبنان الماضي ان مارس المال مثل هذه الفجاجة في الظهور والفرض والتحدي، فيما الناس – أيضاً للمرة الأولى في التاريخ – في أسوأ وضع حياتي وأوسع آبار اليأس. كل شيء يزداد وحشية في العلاقة البشرية حتى الجريمة، ففي أحلك أيام الحرب وزمن القناصين، لم نشهد مثل هذه البشاعة والقسوة وانعدام الرحمة، وخصوصاً ضمن العائلات.

ولا حتى في أحلك مراحل الحرب شهدنا هذا المدى من الاستهتار بحياة الناس وكراماتها وحقوقها. ولم نرَ هنا، أو في أي بلد آخر، مشهد الزبالة على طول البلاد وعمقها، وكل ما يفعله وزير البيئة هو مقاضاة أصحاب الشكاوى. في بلد غير هذا البلد وجمهورية غير هذه الجمهورية، تتطلع الناس الى نائب مثل سامي الجميل، على انه ضوء في غابة معتمة. يعيد هذا الشاب “الكتائب” الى الزمن الذي كانت فيه حزب الطبقتين الوسطى والعاملة. هذه الفئة من الناس لم يعد لها وجود. وممثلوها ونقابيوها يصرخون في البرية بينما تلهث الاحزاب خلف الاثرياء، بصرف النظر عن طبيعة الاموال أو مصادر الثروات أو نوعية الاداء البرلماني.

“القانون” الجديد قانون “بلوكات”، مثل النفط والغاز. والنسبية ليست لتعزيز حرية الاقتراع، بل لتوطيد شرعية التقاسم والتواطؤ على حقوق الناس. وليس متروكاً لهم سوى جبال القمامة وأودية الديون. كلاهما يتراكم حتى لا يعود جبل شارل قرم “الملهم” سوى ذاكرة من قبل التاريخ، ومثله “الساحل الفينيقي” الذي جاء رينان يكتب قصته كشاطىء تبحر منه وترسو إليه العبقريات.

في الحياة المعاصرة أصبح هذا الشاطئ شاطئ الطيور المهاجرة. “طيور أيلول” كما سمتها اميلي نصرالله في ملحمتها الاغترابية الكبرى. شعرنا جميعاً بالاعتزاز عندما ارسل اليها الرئيس ميشال عون بعد ظهر الثلثاء “وشاح الأرز”. لم يكرم بذلك فقط أدب المدرسة اللبنانية القائمة على الكبرياء والحنين، بل كرَّم ادب الهجرة الخارج من الوطن. فنحن نحار هل ان أديبتنا هذه هي أديبة الهجرة أم اديبة الوطن.

ولقد عرفت “طيور أيلول” بنفسي يوم زرت أشقاء اميلي في “جزيرة الامير ادوارد” على اطراف كندا الاطلسية، وبدت الجزيرة يومها مثل قطعة أرض سقطت من الجنة بكل ما فيها. وبدا وكأن لبيب وملحم والياس يعيشون في سكينة أهل الفردوس، ما بين اشغالهم وسواقي صيد السمك المالئة الجزيرة. ومع هذا لا تزال اميلي تعتبر ان الغربة قسوة. ولا تزال طبعاً تتحدث “بالقاف” وكأنها لم تنزل الى بيروت أو الى الجامعة الاميركية. لا شيء أغرى صاحبة “طيور أيلول” بترك عالم “الكفير”.

بكت وأبكتنا عندما تحدث إليها الرئيس عون. والشيء الوحيد الذي اشارت إليه في المكالمة كان “اخوتي واختي”، وكأنهم هاجروا بالأمس، وكأنما العمر لم يضعها على كرسي متحرك، هي التي اضافت الى الصحافة والأدب ذات يوم، الحيوية والنضارة والعينين الخضراوين، والقاف.

الآن وقد منح رئيس الجمهورية اميلي نصر الله هذا الوشاح النبيل تكريماً لآدابها ومسيرتها الفكرية ومدرستها الاخلاقية، أحب ان أضيف إلى استحقاقاتها ما لا يعرفه أحد: لطالما اقتسمت اميلي دخلها مع ادباء معوزين. ولطالما وقفت معهم عندما تخلت عنهم مؤسساتهم ووجدوا أنفسهم في عراء العمر والحياة.

بدأت اميلي نصرالله الكتابة يوم سادت في الادب، وخصوصاً في الرواية، مدارس كثيرة، وبالذات ما سمي المدرسة الوجودية، إذ كان العصر عصر سارتر وسيمون دو بوفوار ورفاق الضفة اليسرى. لكنها قاومت مغريات الساعة ورفضت خلع “الحجاب” القروي الذي نزلت به من حقول الكفير. وبقيت ضمن جدران المدرسة اللبنانية وصخورها المعلقة في الذاكرة.

معلقاً يولد اللبناني. هل تتذكر الرسوم الصينية التي كانت تعلق على جدران المطابخ؟ معظمها كانت بلا أرض. أياً كان عدد الناس في اللوحة فلا أرض تحت اقدامهم كأنهم مخلوقات تعيش في الهواء. هكذا هم دوماً أشخاص “المدرسة اللبنانية”، أبطال توفيق يوسف عواد، ويوسف حبشي الاشقر، وجورج شامي، وانيس فريحة وسائر الاعلام. أبطال مولودون من مقلع ومحكومون بمحاربة الصخور، عبروا البحر أم ظلوا هنا في بلد المحن والتجارب والعيش في ثنايا ممارسة الغطرسة الفارغة.

مهما تجنبنا تقسيم الأدب الى نساء ورجال، اناث وذكور، لا مفر من التوقف عند الريادات النسائية في الأدب اللبناني وجيل الطلائع الأولى: ليلى بعلبكي، وادفيك جريديني شيبوب، ومي زيادة، وعايدة مطرجي ادريس، واندريه شديد، التي اكثر من عبَّرت عن اللبناني “المعلق” ولبنان العالق في مأزقه الوجودي: “لبنان، ماذا اسميك وماذا لا أسميك”. أي وجه من وجوهك أحب اليك؟

أجاب عن السؤال المفكر الفرنسي فريديريك بونز في “فالور اكتويل”: لبنان تناقض عمره ألف عام يبحث عن حل لنفسه كل يوم! بلد يجب ان يهزج إذا اتفق أركان الحكم الثلاثة فيه بمعزل عن الركن الرابع! هلموا وتمتعوا ما دامت الهدنة قائمة.

(1) “القدس العربي”.

اضف رد