الرئيسية / home slide / الوسيط الأخير

الوسيط الأخير

سمير عطالله
30-09-2020 | 00:45 المصدر: النهار

أمير الكويت الراحل صباح الأحمد الجابر الصباح.

 عاش صباح الأحمد سبعين عاماً من تاريخ العرب وسياساتهم، وخصوصاً من ديبلوماسيتهم. أمضى في وزارة الخارجية الكويتية اكثر مما أمضى اندره غروميكو في وزارة الخارجية السوفياتية. وكما اصبح غروميكو رئيساً للاتحاد السوفياتي أصبح صباح الأحمد أميراً للكويت خلفاً لشقيقه الشيخ جابر. أسس جابر الأحمد السياسة النفطية والمالية للبلاد، وأسس الشيخ صباح ديبلوماسيتها وسياستها الخارجية. ولم تقم هذه السياسة فقط على الحياد في عالم عربي مضطرب ومتقاتل، بل قامت ايضاً على الوساطة بين المتقاتلين، خصوصاً في النزاعات الحاملة اسم أو ذريعة فلسطين. فلم يغب عن الدولة الكويتية انه يعيش على ارضها، المماثلة لمساحة لبنان، 400 ألف فلسطيني ساهموا في نهضتها وفي بنائها، الى ان حدث الخلل الكبير عندما أيدت منظمة التحرير العراق في الغزو والاحتلال الذي دمّر سكينة الكويت، وزعزع الآمال بوحدة عربية ربما الى الأبد. بعد الاحتلال تبين لصباح الاحمد مدى النجاح الذي حققه استثمار الدولة في العلاقات الدولية، مع انه أصيب بخيبة أمل في العلاقات العربية. فقد وقف الملك حسين بالاردن الى جانب صدام حسين، وكذلك يمن علي عبدالله صالح، وحتى بلد مثل السودان. بعد تحرير الكويت التقيت الشيخ صباح الذي ربطتني به مودة تعود الى العام 1964. وكان صلباً ومكتئباً. وللمرة الأولى رأيته من دون تلك الابتسامة التي كانت تبدو كأنها ولدت معه، ترافقه في الأمم المتحدة ومؤتمرات القمة والزيارات الخاصة. بتلك الابتسامة واجه كل الازمات. وذات مرة في الستينات، قامت ازمة من جملة الازمات مع العراق، اتخذ خلالها ميشال ابو جودة في “النهار” موقفاً مؤيداً للعراق تحت عنوان “مع العراق ولو خسر”. وبعد ايام التقيت الشيخ صباح في مكتبه وحاولت ان اتجاهل الموضوع تماماً. وعندما قمت مودّعاً قال ضاحكاً: “لا تنسَ ان تسلّم عَ “النهار”. وطمّنهم ان مشيخة الكويت بخير”. سجلت الكويت نفسها في الجامعة العربية والأمم المتحدة تحت اسم “دولة الكويت” بسبب هاجس العراق الذي يطالب بضمها منذ ايام نوري السعيد والنظام الملكي، ثم عاد عبد الكريم قاسم وطالب بها مع قيام النظام الجمهوري. وعاشت الكويت منذ ما قبل الاستقلال عام 1961 كآبة الجار الأكبر الذي يرفض الاعتراف بشرعيتها التاريخية واستقلالها الجغرافي. هذا هو الشعور الذي لازم سوريا ولبنان والاردن والفلسطينيين. وفي ايلول مرت  ذكرى 50 عاماً على حرب عمّان التي حاول فيها الفلسطينيون اسقاط الملك حسين وإقامة الدولة الفلسطينية. لكن النظام الاردني صمد فيما انتقلت الثورة الفلسطينية الى لبنان، تجرد الدولة من شرعيتها وتتزعم حملة عربية ودولية تشكك بشرعية لبنان وعروبته. ومن بيروت يعلن ابو عمار “عزل الكتائب” وتجريدها من الحقوق المدنية. وقد وقف كثيرون من كبار الفلسطينيين ضد الخطوة قائلين له انها لا تليق اخلاقياً، لا بالفلسطينيين ولا بأهل البلاد. كان ذلك زمناً شديد الاضطراب. بعد الاجتياح الاسرائيلي جاءت القيادة الفلسطينية الى الكويت. وكانت الكويت لا تزال على يسار العرب. هي اول دولة عربية تعترف بالصين الشعبية. وهي تفتح مكتباً لوكالة “تاس” السوفياتية. وهي تختار النظام البرلماني. وهي التي تقف في صفوف دول عدم الانحياز. وعندما أوفد صدام حسين وزيره طارق عزيز الى موسكو يطلب من ميخائيل غورباتشيوف تأييده في احتلال الكويت، لم يكن في امكانه ابداً ان يصفها بأنها دولة “رجعية”. فهي لم تتردد في استخدام الناقلات السوفياتية اثناء الحروب التي اشعلت مياه باب المندب. وقف صباح الاحمد وراء معظم هذه الخيارات. وساهمت السياسة الخارجية الى حد بعيد في تأمين استقرار داخلي. ولم يكن دوره في الداخل أقل شأناً. ومنذ غياب عبدالله السالم، امير الاستقلال، وهو يلعب دوراً اساسياً في انتقال الخلافة بسلاسة وهدوء، ومعه تجنبت الاسرة الحاكمة ظواهر الصراع التي تضرب البلدان في مثل هذه الحالات. وظلت “دولة الكويت” واحدة من اقرب البلدان العربية الى صيغة الدولة وسلوكها. وبغيابه يغيب اشهر وسيط عربي في نصف القرن الأخير.