الحياة
04022018
تضج الموصل اليوم بالنشاطات الثقافية، بدءا من المقاهي الأدبية والمعارض وصولاً إلى المهرجانات، في مشهد يسعى من خلاله الفنانون وعشاق الثقافة إلى استعادة روح المدينة و «تحرير» الفكر بعد ثلاث سنوات من حكم تنظيم «داعش».
داخل مقهى «ملتقى الكتاب» الثقافي في حي الأندلس في شرق الموصل، يجلس صغار وكبار من رجال ونساء على مقاعد صغيرة، يتحدثون بشغف عن الأدب والموسيقى والسياسة والتاريخ. يرتشفون الشاي والقهوة والعصائر، فيما يتصاعد دخان النراجيل على أنغام موسيقى عازف عود يرافق شاعراً يلقي أبياته على منبر خشبي.
في المقابل، على الجدار الوحيد الذي لا تغطيه رفوف الكتب، معرض صور يجاور فيه شاعر القرن العاشر العراقي أبو الطيب المتنبي، الشاعر الفلسطيني محمود درويش (1941- 2008)، إلى جانب لوحات تجريدية.
قبل أشهر، كانت فكرة افتتاح مقهى أدبي ومختلط ويسمح بالتدخين في ثانية مدن العراق ستؤدي بصاحبها إلى القتل أو أقلّه إلى الجلد. لكن على رغم ذلك، حلم فهد صباح، أحد مؤسسي المشروع، بهذا المكان في تلك الحقبة. ويقول المهندس الميكانيكي البالغ 30 سنة والعاطل من العمل، حاله حال العديد من أصحاب الشهادات في العراق: «خطرت لنا فكرة تأسيس هذا الملتقى عندما كنا محاصرين داخل الموصل من تنظيم داعش، لزيادة وعي الناس وتنويرهم».
بمجرد أن طرد التنظيم من المدينة، بدأ صباح البحث عن مكان وتخيل تصميمه بنفسه. وخلال شهر واحد، تمكن من إيجاد محل صغير قرب جامعة الموصل، استثمر فيه كل مدخراته ومدخرات شريكه. ويؤكد الشاب الثلاثيني أن الأمر يستحق التضحية، مشيراً إلى أنه يأمل من خلال هذا المشروع «نشر الثقافة المعرفية ما بعد داعش وصولاً إلى واقع جديد يتجاوز تلك الفترة المظلمة وآثار حربها».
وكانت المطالعة على مرّ الزمان رفيقة العراقيين. وتتفاخر الموصل التي كانت يوما مركزا تاريخيا للتجارة والثقافة في الشرق الأوسط، بشارع النجيفي الذي يضم مكتبات غنية جداً. لكن مسلحي «داعش» دمروا وأحرقوا في شكل ممنهج كل الكتب والمكتبات. أما اليوم، فهناك «رصيف الكتاب» الذي اتفق عدد من الناشطين على تأسيسه قبل أسابيع أمام جامعة المدينة ليصير بسرعة من أبرز الملامح الثقافية الجديدة في الموصل.
اعتاد علي ثائر (23 سنة) المجيء كل يوم جمعة للاطلاع على الجديد من الكتب أمام الجدران والأبنية المهدمة للجامعة بسبب المعارك والقصف. ويقول الشاب: «الناس في حاجة ماسة إلى الوعي والثقافة بعد الظروف القاسية التي مروا بها». ويلفت إلى أن «الرصيف ظاهرة ثقافية جديدة في الموصل أثارت اهتمامنا وتشجيعنا، وهي مهمة جداً لإعادة بناء العقول بعد الفترة الماضية أكثر من بناء البيوت والشوارع» التي دمرها التنظيم المتطرف خلال ثلاث سنوات من سيطرته على ما يقارب ثلث مساحة العراق. ويعتقد الباحث يونس محمد (33 سنة) أن «الموصل ستنهض مجدداً» بهمة شبابها ومثقفيها. ويشدد رئيس اتحاد أدباء نينوى عبد المنعم أمير على ضرورة «إبراز الوجه الإنساني والثقافي والعلمي للمدينة، بعدما شاهد العالم أجمع صور خرابها ودمارها».
ولكن حتى اليوم، فإن كل ما يجري يتم بوسائل محدودة، في مدينة أنهكتها الحرب وتأكلها البطالة، ويزيد عجزها البطء في إعادة الإعمار.
وبسبب انقطاعها عن الحكومة المركزية خلال سنوات سيطرة «داعش»، حرمت الموصل من تخصيص موازنات لمؤسساتها وموظفيها. ويرى الكاتب حامد الزبيدي أن «على الدوائر الحكومية والمدنية المعنية بأمر الثقافة القيام بواجبها».
وتمثل هذه المهمة الكثير بالنسبة إلى العراق الذي أعلن في كانون الأول (ديسمبر) الماضي «تحرير» البلاد و»انتهاء الحرب» ضد «داعش». وتؤكد المهندسة هند أحمد (31 سنة): «للمرة الأولى أرى مشاريع ثقافية كهذه في الموصل بعد داعش، مشاريع تعمل على تحرير العقل والفكر بعد تحرير الأرض، وتسمح بالحضور والمشاركة للجنسين».