ادريس الجاي
Mar 22, 2018

مراكش ـ من ادريس الجاي: في إحدى الدور القديمة في «الحمراء» كما يحلو لسكان مراكش أن يسموا مدينتهم، التقيت الفنان التهامي بلحوات في إطارمشروع مسرحي ـ غنائي بين ألمانيا، المغرب وإسبانيا، ملحن وعازف آلة القانون والعود وعدد من الآلات الوترية بامتياز،
اسم ارتبط في ذاكرة الجمهور المغربي المتذوق للموسيقى العريقة والمهتم بالأدوار والموشحات الأندلسية والطبوع العربية القديمة، بشخصية فنية ذات جولات بحث موسيقي أصيل.
مثّل المغرب في عدد من المحافل الموسيقية العالمية داخل المغرب وخارجه. كوّن التهامي بلحوات عالمه الإبداعي الحاضر بقوة داخل منظومة موسيقى الإنشاد والموشحات، كما كون أسلوبا يمزج بين ما هو أندلسي وما هو عامي، عماده ثراء شعري عربي فصيح وعامي مغربي مشفوع بوعي ثقافي أدبي وموسيقي، قلّ ما نلاقيه في الوسط الفني الموسيقي. لقد عمل الفنان التهامي بلحوات على الإبحار في التراث العربي الأندلسي بشقيه الشعري والموسيقي، ثم مزاوجته بقطع من فن الملحون (شعر غنائي شعبي أندلسي الجذور) عملية غير مسبوقة في تاريخ الحركة الموسيقية المغربية.
تجربة إبداعية
عن هذه التجربة الإبداعية يقول بلحوات: «إن فن الملحون بثرائه الشعري وبحوره التي تفوق مئتين وستين بحرا، يسمح بمزاوجة هذا النسيج الفني الملحوني بالشعر العربي في كل تجلياته. فغالبا ما يقوم الدرج الموسيقي الأندلسي على البحر الكامل، لذا تأتي هذه المحاولة هنا من أجل إيلاف هذا البحر الكامل مع الموازين الموسيقية في فن الملحون، أي دون الخروج عن قواعده ــ الحجاز الكبير ــ كما يعرف في لغة الملحون».
التراثي والحداثي
ونحن في رياض مدينة مراكش كان من حين لآخر يأتينا صدى عزفه ممتزجا بصوت المغنية المغربية القديرة والمتميزة في الأدوار والموشحات إحسان الرميقي، وهما يتحولان بين عدد من القطع الموسيقية، منها ما قدماه معا، أو هما بصدد تقديمه في ملتقيات ومهرجانات للموسيقى الروحية والصوفية عربيا ودوليا. فكان مزيج من التلاقح بين ما يعود إلى الزمن الموغل في القدم والزمن، الذي لا يزال طريا. عن مجالات فضاء تحرك هذا الإبداع في علاقته بالتراث يقول الملحن التهامي بلحوات: «الاجتهاد في هذا الإبداع والاجتهاد هو ما لا أكل من تكراره، فالاجتهاد في الفن لا يؤسس على الجهل بالتراث. فالتراث يجب أن يسمع وأن يمارس كثيرا، فالابتعاد عن التراث إلى ألوان أخرى، أو التغاضي عنه في البداية الموسيقية والإبداعية بشكل شمولي، سيكون كجسم يبدو سليما ظاهريا غير أنه معتل باطنيا، ويفتقر إلى المناعة الجسدية. فكل بناء موسيقي وإبداعي أساسه هو الاعتناء بالتراث، الاعتناء الكامل بحثا ودراسة وممارسة. فلن يكون في مقدور مبدع في مجالات أخرى عزف عن الاهتمام بالتراث في مراحل بدايته، العودة إليه لاحقا، وإن فعل فهذا سيكون شيئا مضنيا. إن ما هو أكاديمي لا نقاش فيه، لكن لابد من بنائه على أسس تراثية».
مغامرة الإنشاد الجماعي
من مميزات عضو الأوركسترا الملكية الشرقية التهامي بلحوات تحويله الأغنية الفردية إلى إنشاد جماعي، مغامرة فنية قل من توفق في اجتيازها، بدون مخلفات أو أثار، فكيف يتم التعامل مع هذا الاختيار؟ «إن تطويع الأغنية الفردية إلى إمكانية أدائها جماعيا أو الكراليا»، يقول التهامي ردا على هذا السؤال، «يجب أن تخضع هذه العملية إلى بناء جسور بين مكونات الأغنية من لحن وشعر من جهة، والمؤدين من جهة ثانية. فهذه المكونات يتم أولا تفكيك بعضها عن بعض ثم يجب تلقين المؤدين عماد القطعة المغناة، أي القصيدة الشعرية، مجزءة قبل أي خطوة نحو حفظ اللحن. فلا يتم حفظ اللحن إلا لاحقا، أي بعد حفظ الشعر. ليتعلم المتلقي ضبط إلقاء الكلمات لأن للكلمات إيقاعها الخاص، الذي ينبغي حفظه وحفظ أماكن نبرات تموجاته، ثم يلحق به اللحن الموسيقي، وهذا لا يتم إلا من خلال حفظ التجزيئ الشعري».
الباحث الموسيقي
حين يتم الحديث عــن الفنان التهامي بلحوات في الأوساط الفنية، لا يكون عن عازف الآلات الوترية أو عازف آلة القانون المتميز، بل عن باحث موسيقي، ندب جهوده الفنية لتراكيب موسيقية زاوجت بين النغمات الشرقية والمغربية، حيث أوجد لها فضاء عمليا في مجموعته التي ابتكرها زمن الوصل. فهذا التنوع، الغني بقسمات جود الغيث في زمن الوصل بالأندلسي، تترجمه سياحة ربرتواراته الموسيقية الغنائية من أداء الفنانة العريقة إحسان الرميكي، تحت اسم (المطروز) والمشتملة على إبداعات موسيقية أندلسية تعود إلى زمن مملكة غرناطة وإشبيليا وتراكيب مغربية، ليست أقل عراقة من نظيراتها الشرقية والأندلسية. فهذه التراكيب المغربية هي ألحان التصقت بأذن المستمع المغربي، الذي يتذوق هذا النوع الموسيقي، منذ زمن عريق. لقد استقى من هذا المعين ملحنون جاءوا قبل الفنان بالحوات فاستعانوا به موظفينه حتى في الأغاني الوطنية. وهو ما لفت انتباه بلحوات إلى أن يفكر في: «أن فن الملحون له إمكانية غنائية على منوال الأغاني الوطنية، فالملحون يمتلك مرونة التأقلم والانسجام مع كل ألوان الفن الغنائي. فالشعرالمتداول في فن الملحوني ليس من الضروري أن يتم تلحينه إلى قصائد غنائية ملحونية محددة، بل بالإمكان أن نوظف له أشكالا وقوالب تستوعب ثراء وغنى هذا الإرث العامي الشعبي.
ولقد أكد فنانون قبلنا هذه الإمكانية من خلال توظيفهم لقوالب ملحونية معــــروفة، مثلما قام به في منتصف القرن الماضـــــي الملحن الراحل عبد الرحيم السقاط من تلحين أغنيته الوطنية (يجعل لك في كل خطوة سلامة)، التي وزنها الشعري هو وزن المقدمة الملحونية نفسه (سرابة فصل الربيع)، فكانت قطعة حيوية ذات إيقاع خفيف، سريع ومرن، مرتكزا فيها على مقام الكرد، هذا المقام، الذي يعد السقاط رائده في المغرب دون منازع».