
وسام سعادة
القدس العربي
17052021
لم يكن محّبذاً في إسرائيل الخمسينيات من القرن الماضي إطالة الإستغراق في أمر الإبادة الألمانية – النازية ليهود أوروبا. ليس لأنّها إبادة لم تحصل، ولا للتخفيف من فظاعتها، بل للنأي بعض الشيء عن هذه الفظاعة، ودرء الذات عن الاستلاب بها.
فالأولوية كانت في ذلك الحين لـ«الملحمة الصهيونية» المعتمدة على التطهير الإثني وأعمال الترحيل لعرب فلسطين، وعلى إنكار هذا التطهير تماماً في نفس الوقت. والمشغولة بدمج هجرات يهودية من أقاليم مختلفة من العالم، في دولة لليهود الأشكيناز في الأساس.
الأولوية كانت لـ«الأمل» بالمعنى الصهيوني للكلمة: اليهودي الذي يحارب، ويستعمر، ويطرح نفسه في نفس الوقت كحركة تحرر وطني من الاستعمار البريطاني والإقطاع العربي المؤيد له. فهذه كانت السردية التي أرادت إسرائيل بعد قيامها فرضها على نفسها: أولوية الصهيوني الذي يواجه مصيره، على يهوديّ المنفى المتحلّل، الذي يُساق مستسلماً في قطار الموت إلى تربلينكا. لم يكن خافياً كذلك الأمر «التناص» بين هذه السردية الرسمية لحرب «الاستقلال» الصهيونية وبين الرواية التوراتية لـ«استرداد» العبرانيين بقيادة يشوع بن نون للأرض، بالعنف، وقطيعتهم، بهذا العنف نفسه، مع ذاكرتي المنفى (العبودية في مصر) والتيه في سيناء. مع هذا، ظلّت المؤسسة الحاكمة حريصة على الاقتصاد قدر الإمكان في هذا النوع من الإحالات للنصوص التوراتية، وتريد اظهار اليهودي الإسرائيلي على أنه تتمة لعقلانية سبينوزا، رغم فشل ديفيد بن غوريون في استصدار تبرئة من الحاخامات لحالة سبينوزا المنشقة، بعد ثلاثة قرون عليها!
وحتى قبل المحرقة، لم تكن الصهيونية مجرّد «حل قومي للمسألة اليهودية» أي مجرّد تحويل للرابطة الدينية إلى رابطة قومية. بل كان يلزمها محو هوية إثنية تاريخية معاشة، هي تلك الناطقة بلغة الييديش، الجرمانية أساساً والمكتوبة بالحرف العبري، والمطعّمة بعدد وافر من المفردات السلافية، والمنتشرة في يهود شمال شرق أوروبا «الأشكيناز» لصالح هوية إثنية جديدة متمحورة حول اللغة «القديمة الجديدة».
فالعبرية أخذت تنتقل تدريجياً من لغة شعائرية دينية إلى لغة جرى العمل على استصلاحها و«علمنة» استخدامها، في النطاق اليهودي لعصر الأنوار الأوروبي (الهسكالاه) إلى أن «أحياها» اليعازار (برلمان) بن يهودا كلغة حديثة النحو، وكلغة كلام، نهاية القرن التاسع عشر، وبخاصة بعد هجرته الى فلسطين العثمانية، واطلاعه على المعاجم الحديثة في «عصر النهضة العربية» واستيحائه منها.
واللغة «القديمة» (بل القديمة جدّاً، لأن يهود ما بعد السبي البابلي كانوا يتكلمون الآرامية وليس العبرية) و«الجديدة» (لأنها ثمرة احياء حديث) جاءت تقترن مع مفهوم الأرض «القديمة الجديدة» إذا ما استعدنا عنوان الرواية التي نشرها ثيودور هرتسل بالألمانية (Altneuland) والتي تحكي قصة يهودي من فيينا مرّ عرضاً بيافا، وهو في طريقه إلى جزيرة نائية، ثم عاد بعد عشرين عاماً من تلك الجزيرة الضائعة في المحيط الهادئ ليجد أن اليوتوبيا التي كان يبحث عنها ولم يجدها على الجزيرة البعيدة، قد تحوّلت بالفعل إلى حقيقة معاشة عجيبة في يافا!
هذا مع أن الاقتران بين اللغة «القديمة الجديدة» (العبرية المستحدثة) والأرض «القديمة الجديدة» (حركة الهجرة اليهودية الحديثة وذات الطابع الإستعماري أكثر فأكثر الى فلسطين) لم يكن ليجسده هرتسل نفسه. فثقافته لم تكن لا ييديشية ولا عبرية، بل ألمانية حتى النخاع.
وإذا كان هرتسل اشتُهِرَ بمواقف أكثر براغماتية من سواه من رواد الحركة الصهيونية في موضوع الأرض، أي تقبل بدائل ترابية لمشروعه غير فلسطين، فإن روايته «آلتنويلاند» تظهر خلاف ذلك. مثلما تكشف أن فلسطين الساحلية كانت أقرب لمخيلته من فلسطين الداخلية، إذا كان يريد مكاناً يسمح له بالمواءمة بين النوستالجيا (التوراتية في النهاية) وبين اليوتوبيا (الحداثية في صميمها) ولأجل ذلك كان يؤثر الابتعاد عن القدس ويهودا.
في تاريخ الحركات والأفكار الصهيونية، بين الخلفية التوراتية وبين المسوغات «الحداثية» الطابع هو فصل تعسّفي. ما حدث لمسجد ظهير الدين بابر في أيوديا، ولتمثالي بوذا الضخمين في باميان مرآتان لخطر واقعي
وهذه لم تكن حال هرتسل لوحده. في الستينيات من القرن الماضي، حدث التحول حيال المحرقة وذاكرتها. فأخذت تفرض نفسها بشكل تصاعدي (في اثر محاكمة أيخمان) ولم تعد الدولة العبرية تتحاشاها، بل اعتمدتها مصدر شرعية لها، وأداة توحيد قومي أكثر نجاعة من سردية «حرب الإستقلال» والإشتراكية التعاونية. الا أنه، حتى موعد حرب الأيام الستة، لم يكن التيار المهيمن على الصهيونية متقبلاً للمطالبين بالتوسع باتجاه «يهودا والسامرة» (الضفة الغربية، تحت السيادة الأردنية آنذاك) ويرى في دعواهم مزايدة، وحرق مراحل، وعودة إلى ما قبل الصهيونية.
انقلبت الحال تماماً مع حرب 67. فالصهيونية ستكتشف حينها أنها كانت تتحايل وتكابر على نفسها، وأن الأساس التوراتي لمخيلتها أعمق بكثير مما كانت تعترف به، مأخوذة جملة، يساراً ويميناً. وهذا ما يفصح عنه المفكر الفرنسي ـ الإسرائيلي شمويل تريغانو، من ان إسرائيل قبل 67 «كانت دولة خارج ذاتها». نتيجة خروج إسرائيل من حالة «دولة خارج ذاتها» الى «دولة مستعمرة لذاتها» في الضفة، كانت ومنذ 67، انشاء «أكبر سجن على سطح الأرض» على حد تعبير عنوان كتاب ايلان بابيه.
بيد أن إسرائيل بعد 67 ستعلن توحيد القدس كعاصمة لها، من دون أن تضم رسمياً الضفة الغربية، بل راحت تسعى جهدها لتبديل الوقائع فيها من خلال رعاية الاستيطان وتحديد خارطة نموه وانتشارها، دون إلزام نفسها بتوصيف رسمي لسيطرتها هناك. دولة تحثّ على الاستيطان وتعوّل عليه لتبديل واقع الضفة السكاني، وتحترز في نفس الوقت من المستوطنين اذا ما توجّب عليها اتخاذ قرارات مناقضة لمصالحهم، فيما هم توجّسهم منها أكبر. وفي بالهم تفكيك مستوطنات سيناء ثم قطاع غزة. رغم قناعة الجميع بأن الضفة الغربية لا تقارن أبداً لا بسيناء ولا بالضفة. وهذه القناعة متأتية من الخلفية التوراتية، التي طالما حاولت الصهيونية الرسمية توريتها، والايحاء بأنها خلفية كحسب، ليس أكثر.
كمية الرياء المحتبس في المشروع الصهيوني فظيعة، لأن مؤسسي وقادة هذا المشروع ليس بمستطاعهم المجاهرة ببساطة بكل ما يجاهر به مستوطنو الضفة، من أنهم أتوا هنا ليس فقط من أجل «حل قومي للمسألة اليهودية» بل من أجل «الحل التوراتي» الحرفي ـ كما يتخيلونه ـ للمسألة اليهودية. ولهذا اتصال مزدوج بما هو حاصل حالياً: يحدث لسكان تل أبيب والساحل، وهم يندفعون نحو الملاجئ اليوم، للاستشاطة غيظاً مما يعتقدون أنه يتسبب به مستوطنو الضفة، لكنك لن تجد أي فئة وازنة منهم متقبلة لأي انسحاب جدي من الضفة الغربية، وليس فقط لأي انسحاب كامل. انهم أكثر كذباً بدرجات مضاعفة من مستوطني الضفة. هم غيارى على ثقافتهم «التقدمية» التي لا تشبه معاش الجماعات الحريدية في شيء، لكن الإحالة التوراتية الأسطورية عندهم تقف حجر عثرة دون أي استعداد جدي لتقبل انسحاب من الضفة ومن القدس الشرقية. وطالما لم تتعرّض إسرائيل لصفعة عنيفة قوية فإن شيئا من هذا لن يتبدّل. الى ان يتأمن ذلك، يشكل نموذج» أمناء جبل الهيكل» ماهية إسرائيل الحالية، وليس فقط مجرّد عارض من عوارضها، أو طفرة يمكن أن يجري اقناعها ببترها عنها. مستحيل. وحتى الآن، الغيبية التي كثيراً ما تلام عند من يحمل السلاح ضد إسرائيل، هي أكثر ايغالاً في إسرائيل نفسها، بما في ذلك، الأكثر رياء فيها، علمانيوها.
تحاول إسرائيل ان تهوّن من أمر جناحها المتدين والمتشدد، كما لو أنها مجرد مجموعات تحت سيطرة مؤسسة حاكمة عقلانية، في حين أن هناك غيبا يقود إسرائيل، بل غيب مهجوس ببناء الهيكل، بشكل او بآخر.
بعد حوادث تدمير المتطرفين الهندوس لمسجد بابري بآيوديا، عام 1992، ومجزرة غولدشتاين بالحرم الإبراهيمي بالخليل، وتدمير حركة طالبان لتماثيل بوذا العملاقين بباميان 1998 ليس من الخرافي أبداً أخذ خرافات الجماعات اليهودية الأكثر تشدداً في القدس والضفة على محمل الجد، وهي مثبتة ليل نهار على صورة واحدة: إعادة بناء الهيكل. بالتالي، ثمة خطر فعلي على الحرم القدسي من غير الجائز التهوين منه، وليس هناك من ضامن إزاءه طالما إسرائيل تسيطر على منطقة جبل الهيكل ـ الحرم القدسي. بالتالي، يجدر الاحتراز من كل دعوى للتقليل من خطورة ما يتهدد الأقصى، بدعوى أن فلسطين ككل هي الأهم. هذا فصل تعسفي في كثير من الأحيان. تماماً مثلما أن الفصل، في تاريخ الحركات والأفكار الصهيونية، بين الخلفية التوراتية وبين المسوغات «الحداثية» الطابع هو فصل تعسّفي. ما حدث لمسجد ظهير الدين بابر في أيوديا، ولتمثالي بوذا الضخمين في باميان مرآتان لخطر واقعي قادر أن يفجّر العالم كلّه اليوم.
كاتب لبناني