في العام 1918، قبل مئة سنة، أصدر جبران خليل جبران كتاب «المجنون». كان هذا الكتاب على ضآلة حجمه، فاتحة كتبه بالإنكليزية أولاً ثم فاتحة ما سمي «الأدب الجبراني الرؤيوي» الذي بلغ ذروته في «النبي»، هذا الكتاب الذي أسّس مع «كتاب خالد» لأمين الريحاني و «مرداد» لميخائيل نعيمة مدرسة الأدب الرؤيوي التي لم تكن مألوفة عربياً.
الذكرى المئة لصدور باكورة جبران الإنكيزية قد تكون مناسبة مهمة لإعادة قراءة الأدب الجبراني الإنكليزي وإلقاء الضوء على هذه التجربة التي خاضها صاحب «رمل وزبد» واستخراج خصائصه في لغة شكسبير أو والت ويتمان، وتبيان إخفاقه أو نجاحه في ما كتب. وقد يكون ممكناً أيضاً دراسة الظاهرة الثنائية اللغة أو «البيلنغويسم» التي تمثّلها جبران في اعتماده اللغتين أداتين للكتابة، وهذه الظاهرة الشائكة لم تخضع للبحث ولم تنل من اهتمام الباحثين ما يكفي. ولعل المؤتمر الدولي الثالث الذي عقد في الجامعة اللبنانية الأميركية أخيراً في الذكرى المئة لـ «المجنون» بدا عادياً جداً وتقليدياً ولم يسع منظموه إلى سبر آفاق جديدة في الأدب الجبراني. وهذا الأدب بات يحتاج فعلاً إلى إعادة قراءة حقيقية بل إلى قراءة نقدية تطرح حوله الأسئلة وتحاول الإجابة عنها بصراحة وجرأة، كاسرة هالة المجد التي ألقيت على جبران جاعلة منه «صنماً» لا يمكن المساس به.
ما أحوج النقد العربي اليوم إلى مساءلة أدب جبران والتحرّي عن موقعه في الآداب العالمية وعن الأثر الذي تركه في الأجيال. فواضح أن جبران شبه غائب عن الحركة الأدبية ، الروائية والشعرية، في الأدب الإنغلوسكسوني، ولايذكر بتاتاً عندما يتمّ الكلام عن الحركات الأدبية الحديثة على رغم أرقام المبيع الهائلة التي حققها كتاب «النبي». ومعروف أن هذا الكتاب غالباً ما يُدرج في خانة الأدب الأخلاقي أو «الأتيكي» الذي يتوجه إلى العامة بخطاب روحاني، لا يخلو من الإرشاد والوعظ.
كان كتاب «المجنون» إذاً أول أعمال جبران بالإنكليزية والخطوة الأولى نحو الأدب الرؤيوي، وهنا تكمن فرادته. وعشية انطلاقه في الكتابة بالإنكليزية وغداة هذه الانطلاقة، باح جبران لصديقته وحبيبته ماري هاسكل مراراً عن معاناته في هذه اللغة التي لم تحل محل اللغة الأم، معترفاً أنه بينما يكتب بالإنلكيزية كان يفكر بالعربية. لكنّ ماري التي كانت تتولى تصحيح نصوصه الإنكليزية وتهذيبها وصوغها أحياناً، لم تجد فرادته إلا في هذه الازدواجية، أي أن يكتب بالإنكليزية من غير أن يصبح إنكليزياً بل يظل عربياً ومشرقياً. وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، فجبران لم يكن بوسعه أن يحلّق في لغة كتب بها شكسبير أو وليم بليك أو… بخاصة أنه ظل غريباً عن هذه اللغة ولم يتمكن من اعتناق أسرارها ولا وعيها الوجودي.
كان شخص «المجنون» (1918) الرومنطيقي النزعة والصوفي و»التيوصوفي» والباطني أو «الإيزوتيركي» والرؤيوي والوجداني بمثابة الطيف الذي فتح الطريق أمام «السابق» (1920) الذي يذكّر بشخصية يوحنا المعمدان في اللاهوت المسيحي، ثم أمام «النبي» (1923) و»يسوع ابن الإنسان» (1928) وأخيراً «التائه» (1932). هؤلاء «الأشخاص» يلتقون معاً ومع «آلهة الأرض» وهو كتاب صدر العام 1931 ليرسخوا معالم الملحمة الجبرانية المشرعة على أفق الرؤيا المشرقية الجذور والأديم. وقد كتب جبران هذه «الملحمة» بالإنكليزية على خلاف كتبه القصصية والشعرية التي كتبها بالعربية ومنها: «عرائس المروج» (1906) و «الأرواح المتمردة» (1908) و «الأجنحة المتكسرة» (1912) وسواها. هذه الكتب العربية لا تبلغ الذرى الرؤيوية والباطنية التي بلغتها كتبه الإنكليزية، فهي تدور في فلك الثورة الاجتماعية والتمرّد على سلطة الإكليروس والإقطاع والتحرّر والحبّ والإصلاح… وفيها اعتمد جبران لغة إنشائية رومنطيقية ووجدانية استطاع عبرها فعلاً أن يحدّث اللغة العربية ويجعلها لغة الحياة، محرّراً إياها من عبء الكلفة والتصنّع والحذلقة التي كانت وقعت في أسرها طويلاً. وقد تكون ثنائية جبران اللغوية هي التي ساعدته في تجديد العربية وإحيائها. ونذكر كيف أخذ عليه بعض سدنة الفصاحة استخدامه فعل «تحممت» بدلاً من «استحممت». ولعل في هذا «الخطأ» سرّ الحياة التي أسبغها جبران على العربية.
في كتاب «المجنون» يعبّر جبران عن «الحرية والأمان» اللذين وجدهما في الجنون. هذا هو الجنون الذي جعل من جبران فريد نفسه.