الرئيسية / مقالات / المثنى الواحد

المثنى الواحد


سمير عطاالله
النهار
10012018

“السياسة لم تعد الخطب المثيرة، أو المزيد من الكلام، أو اثارة مشاعر الناس (…) السياسة في أي بلد يحترم نفسه تعني العمل والانتاج والأجور والاسعار وتطوير المجتمع الى مجتمع أفضل”. 
جمال عبد الناصر(1)

سألتُ الشاعر أدونيس، العائد من الصين، عن آخر انطباعاته، فقال إن الدرجة الأولى في القطارات أفضل أربع مرات، على الأقل، منها في أوروبا. ماذا حدث لتعاليم ماو؟ وجرف الفلاحين، والتربة والعائلات من مكان الى مكان؟ لماذا الصين الشعبية أفضل مليار مرة – على الأقل – مما كانت هي نفسها قبل اربعين عاماً؟

لماذا الدولة التي كان عندها إذاعة ومكبرات صوت تردِّد كل يوم ان أميركا نمر من ورق، لم تعد تردد ذلك بعدما اصبحت تكاد تتجاوز أميركا وروسيا وجميع نوادي الكبار؟ لأنها ليست في حاجة الى ذلك. أميركا خائفة من غير أن يذكّرها أحد، بأن الجبار الصيني ماض في مسيرته الطاغية. ليس “المسيرة الكبرى” بالجثث وفوقها، بل هذه المسيرة المبهرة من دون جريمة سياسية واحدة، من دون بناء سجن سياسي إضافي. ومن دون تأليه أحد: لا إله بين مليار و 300 مليون نسمة، بل رئيس تنتهي
ولاياته.

ما هو السر؟ من الجنون البحث عن سبب واحد لهذا الحجم التاريخي من المتغيرات البشرية الكبرى. لكن ربما كان في نزع الدوغماتي من الشيوعية، أو الماوية. أيام “الثورة الثقافية” كان مثقفو ماو يحرقون المنازل التي فيها لوحة لرافائيل، أو قطعة موسيقية لبيتهوفن. وعندما نُزِع غشاء الطنابر هذا، عرف الصينيون ان ايطاليا من غير دافنشي ورافائيل ودانتي وفيلليني، ليست سوى خرائب مثل خرائب المكسيك. وان الذي خلّد المانيا هم بيتهوفن وفاغنر وغوته، إضافة طبعاً إلى كروب وباير.

فيما كان أدونيس يتحدث عن الصين غير مصدق، ولا نحن مصدقين، كنت افكر في ايران مع بداية الاضطرابات التي عمّت مدنها. طبعاً أثار هؤلاء شفقة العالم، عندما ظهر دونالد ترامب على “تويتر”، يختصر حدثاً مفصلياً في تغريدة عاجلة. لم يكن الأول في هذا الباب، فقد سبقه الى تأييد ميدان التحرير في مصر باراك أوباما، ولكن في بيان لا في تغريدة صوتية.

لا شيء يدوم. ولكن خصوصاً الدوغما لا يمكن أن تدوم. كان دوايت ايزنهاور يقول إن كل قوة أميركا العسكرية والمالية لن تكفي ذات يوم لتغطية شؤون العالم. لم يستطع ستالين، ولا قبله لينين، على رغم كل صقيع سيبيريا وبرودة 30 مليون جثة، أن يحافظ على الثورة البولشفية القائمة على نشر الموت باسم الحياة. أول نافذة فتحت في موسكو، واول حجر سقط في جدار برلين، سقط معهما خطب لينين وافتتاحيات “البرافدا”. الذي اسقط النظام السوفياتي لم يكن الدعاية الاميركية الهزيلة، بل المشاعر الروسية العميقة. شعب يربح الحرب العالمية وتسوقه دولته الى السجون. لاحظ وليد جنبلاط ان المسألة لن تدوم عندما رأى الروس في مذلة الطوابير. وقبله لاحظ امين معلوف ان موسكو تقف في طوابير الملفوف. وكلاهما من منظور يساري عاطفي في تلك الايام. وماذا يضير انتظار ملفوفة بعض الوقت؟ لا شيء. إلا إذا كان غياب الملفوف مرفقاً بغياب الحرية. بعد الحرب العالمية الثانية قننت الحكومة البريطانية الشاي والسكر والزبدة، لكنها تركت نسائم الحرية تدخل من جميع الابواب. ونامت الناس في الحدائق جائعة، ولكن لم يكن فيها سور واحد. ولم يطلب من البريطانيين ان يعبدوا ونستون تشرشل لأنه ربح لهم الحرب، بل اسقطوه في أول اقتراع، وتركوه يتمتع بالتقاعد على يخت اوناسيس، بين صناديق السيجار والشمبانيا.

بماذا تمتاز الصين عن الولايات المتحدة؟ بأنها في ديارها “هانئة في الداخل، فيما العالم خارجها مضطرب” كما يقول احد فنانيها الكبار. واعتذر عن نسيان اسمه، فسوف يمر وقت قبل ان نعتاد الاسماء الصينية ويصبح لفظ تشومونيكي في سهولة لفظ بوب وجون. حديثاً، اقامت الصين قاعدة عسكرية لها في جيبوتي من جملة اندفاعها الاعماري في القارة السمراء. وهذه خطوة ناقصة! الشعوب الضعيفة لا تحب مظهر المهندس عندما يعتمر قبعة عسكرية.

شيئان لا يمكن ان يحجبا عن الانسان الى الأبد: الرغيف والحرية. تصبر الشعوب طويلاً، ثم تطل صارخة من جديد، تريدهما معاً. الثورات تحاول اقناع الناس بأن الحياة المثلى هي الحياة العقاب. هناك 700 مليون صيني لم يعودوا يقرأون “الكتاب الاحمر” لكنهم انضموا الى فئة الشبع والكفاية بين البشر.

هل تدرك ماذا كان أقبح من منظر المهراجا الهندي راكباً فيلاً مشنشلاً بالذهب؟ مشهد “الفقير الهندي” الذي درَّب روحه وجسده على أن ينام 40 يوماً جائعاً فوق المسامير. قم استحم يا تنبل. قم اشتغل. قم الى يومك.

تظاهرات الخبز وقعت من قبل في تونس بورقيبة ومصر السادات. طهران ومشهد ليستا الأوليين ولا الأخيرتين. سوف يتكرر الرغيف والحرية في أي مكان. سباق العصر لم يعد في مدى التلاعب بعواصم الآخرين، بل في مدى الابتعاد عنها. مثل الصين.

ايران تكرر الخطأ: بدل أن تتلاقى الحضارة الفارسية والعربية من جديد، تتصادمان مرة اخرى. تستيقظ كل منهما الى الثأر بدل السلوك الحضاري في النظر الى الجوار والمستقبل. و”الثورة الاسلامية” بدل ان ترى في سقوط الشاه استعادة علاقات ايران التاريخية، رأت فيه بداية العودة الى جروح التاريخ.

مثل معظم الثورات، نسيت أن الاولوية للداخل. وأنك لكي تبشر الناس بالنصر، يجب أن تبشرهم أولاً بالكفاية والطمأنينة، وليس ان تنقلهم، كما فعل عدوك صدام حسين، من حرب الى أخرى.

ما من شرع، أو شريعة، يقر أو يقبل الفقر للناس. اعظم ما قيل في ذلك شهادة الإمام علي: لو كان الفقر رجلاً لقتلته. والخبز والحرية لهما اسم واحد في العصور والازمان والبلدان، سواء كان النظام مدنياً أو عسكرياً أو دينياً. جميع صواريخ كيم الثالث، ومعها زره النووي، لا تساوي فصل مجاعة واحداً. حياة الشعوب في ان تكون حياتها لائقة، لا في ان تكون خطراً على حياة غيرها. هذا هو تماماً الفرق بين القبضاي المفتول الزندين، الذي يفرض الخوة على صاحب العقل المنتج. يُمكن ان يكون مرعباً، ولا يُمكن أن يكون مُقدِّراً أو يطمأن إليه.

يتغير منطق الأمم من شهر الى شهر، وليس من ألفية الى أخرى. مضى زمن الامبراطوريات في كل مكان.

الحرية والخبز. ما من قاعدة أخرى في الأرض. قليل من الأولى وكفاف من الثانية. أو العكس. أو كثير منهما. سنغافورة أقامت تمثالاً لآخر حاكم بريطاني، لأنه علمها احترام القانون. والهند ازدهرت باللغة الانكليزية. العيب ليس في ان تتعلم لغة الاستعمار، بل أن تجهل لغة الحرية والاستقلال والكرامة البشرية.

أعلن الاسبوع الماضي في لندن ان الاقتصاد البريطاني سوف يتحسن من مداخيل عرس الأمير هاري، وليس من جولات الاساطيل، ولا من حدث افريقيا والكاريبي. الذي يقرر مستوى الأمم والشعوب اليوم، هو معدلات النمو. اللغات الفوقية لم يعد يسمعها أحد: 128 دولة قالت لا لترامب في القدس. والفلسطينيون قالوا له القضية ليست طابقاً في ابراجك. أو ابراج سواك.

سبب آخر في اسطورة الصين: ضبط تنين الفساد. الكثيرون منهم رموا في زبالة التاريخ بدل أن يرموا البلد فيها. عندما تترك الرسن للرأسمالية تفترس كل ما يقع أمامها. الماركسية تقتل الناس من الجوع، وهي تقتلهم من التجويع. لذلك تتقدم وتبقى فقط الأمم العاملة بالعقل والعدالة. وتدرك أن كل الانظمة المتخيلة قد جربت على سطح الأرض. وليس هناك اسم واحد لتلك التي استمرت، أما جميع التي سقطت، فالعنوان الثنائي لم يتغير: الخبز والحرية.

(1) مأخوذ عن كتاب Nasser and his Generation – P.J. Vatikiotis 

اضف رد