الرئيسية / أضواء على / المثقف العربي… حيوات فتيات الليل البائسات

المثقف العربي… حيوات فتيات الليل البائسات

محمد عبد الرحيم
القدس العربي
07082019

القاهرة ــ «القدس العربي»: قليلة هي الأصوات التي تحاول الثبات والتمسك بموقفها في ظل نظم القمع العربية، فيدفع أصحابها الكثير نظير موقفهم هذا، بأن ذهبت حياتهم في غياهب السجون، أو انتهت في صمت. وقد يحالف أحدهم الحظ، فينتقل في غفلة من الزمن من الهامش إلى المتن ــ متن مشكوك في أمره على الدوام ــ وفق ظرف تاريخي يُفاجئ الجميع، فيتم استغلاله وتسليعه، بدون أن يملك من أمره شيئا. وإن كان هذا يخص الاستثناء، فالحديث سيكون عن القاعدة ممن يُطلق عليهم وصف «المثقفين»، هذه الفئة التي تظن أنها صاحبة الوعي الأوحد والتجربة القادرة على التأثير في الجموع/الجماهير أو القطيع حسب وجهة نظر السيد المثقف العربي. ولن يسلم أي بلد عربي من هذه الشاكلة من خدم السلطة ومنافقيها، بل قد يتفوق المثقف وتتجاوز قدراته حدود بلاده، فيصبح محترفاً كماركة مُسجلة، وسلعة تستعرض نفسها وقدراتها لمن يدفع أكثر، كأي فتاة ليل بائسة. التجارب كثيرة سنذكر بعضها، تاركين للقارئ أن يضيف ما يحلو له من الأسماء والحالات، وهو أمر هين لا يستدعي الكثير من الجهد.

ظِل دولة الفقيه
«أفق ثورة والطغاة شتات
كيف أروي لإيران حبّي
والذي في زفيري
والذي في شهيقي تعجز عن قوله الكلمات؟

ها رعدها يتعالى
صاعقا
خالقا
وحريقا
يرسم المشرق الجديد، ويستشرف الطريقا
شعب إيران يكتب للشرق فاتحة الممكنات
شعب إيران يكتب للغرب
وجهك يا غرب ينهار
وجهك يا غرب مات». (من قصيدة تحية لثورة إيران لأدونيس)
كتب أدونيس قصيدته بعد تولي الخميني السلطة، ورغم أن الثورة هنا اصطبغت بصبغة دينية، ولم تزل ترتكب الجرائم حتى الآن باسم الثورة وزعيمها الروحي، إلا أن أدونيس يباركها. هذا الموقف يختلف تماماً من الثورة السورية، التي لا يراها ثورة، بل أعمالاً تخريبية خرجت من مسجد، وبالتالي لا يعوّل عليها ولا ينتمي إليها، فهي حسب قوله «لا تمثله». فأدونيس استغل حضوره الدولي وشهرته العالمية لتلميع صورة النظام السوري، وتقديمه للغرب كمحارب لـ(الإرهاب).
ويذكر في مقابله مع مجلة «بروفايل» النمساوية، أنه «لا يدعم المعارضة السورية ضد الأسد، وأي تدخل عسكري غربي في سوريا ستكون له عواقب غزو العراق عام 2003، وسيدمر البلد». متناسياً أن النظام السوري هو الذي طرح فكرة تدخل عسكري، وأتته الإمدادات من روسيا وإيران وحزب الله. ولا نجد أفضل من رد صادق جلال العظم، في المحاضرة التي ألقاها في (كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية)، حينما سُئل عن موقف أدونيس، فقال «عندما بدأت الحرية تقترب من سوريا، أخذ خطاب أدونيس يتلعثم ويتأتئ ويفأفئ، وبدلاً من أن يكون خطاباً واضحاً وصريحاً، أخذ شكل: نعم ولكن أو نعم وإنما، وكان يوزع نصائحه على الطرفين في سوريا، وكأن طرف الشعب الثائر يساوي الطرف العسكري المضطهد، أي المساواة بين الجلاد والضحية».

قليلة هي الأصوات التي تحاول الثبات والتمسك بموقفها في ظل نظم القمع العربية، فيدفع أصحابها الكثير نظير موقفهم هذا، بأن ذهبت حياتهم في غياهب السجون، أو انتهت في صمت.

ظِل خيمة الزعيم

«لا شك أن مجال الأدب يفخر اليوم بأن يكون من بين مبدعيه قائد تاريخي له قامة معمر القذافى». (أحمد إبراهيم الفقيه عن مجموعة القذافي القصصية القرية القرية .. الأرض الأرض، وانتحار رائد الفضاء). «حقق القذافي لنفسه بجدارة مركزاً ومكانة في تاريخ الطغاة، وسيفتخر الليبيون بأنهم أطاحوا برجل يعد من عتاة عظماء الطغاة في التاريخ البشري». (الفقيه في 4 سبتمبر/أيلول 2011). «أحمد الله أنني لم أشارك في تزييف الوعي، ولم أستسلم للطاغية وهو يحاول تحويل الأقلام إلى مجرد أبواق له». (الفقيه في حوار بتاريخ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2012).
هذه بعض من مقولات الكاتب والروائي والدبلوماسي الليبي الرحل مؤخراً أحمد إبراهيم الفقيه، الذي تعد تجربته شبيهة بتجارب كثيرين مثله في بلاد عربية أخرى، من خلال موقعهم ومدى تأثيرهم في ما يُطلق عليهم (الجمهور) وبالتالي قربهم من النظم الحاكمة في بلادهم أو بلاد أخرى يتم تسخيرهم وتأجيرهم للإشادة بحكامها، نذكر منهم مواطنه إبراهيم الكوني وموقفه من الثورة الليبية، وقد خرج متأخراً جداً ليبارك ويساند ثورة الشباب الليبي، بدون أن يتحدث عن الثوار، بقدر ما تحدث عن نفسه وإنجازاته ونضاله ضد الظلم والديكتاتورية. الكوني المُلقب بـ(مثقف سلطة القذافي)، الذي بقى ملتصقاً به أكثر من أربعين عاما، كذلك نفى الكوني أي علاقة تربطه بجائزة (القذافي العالمية للآداب)، رغم أن الفكرة فكرته في الأصل. وقد اختار الناقد المصري صلاح فضل مقرراً لها ــ فضل المُسبّح بحمد جميع الزعماء ــ أضف إلى ذلك الندوة المنعقدة عام 2003، والمعنونة بـ»القذافي كاتباً ومبدعاً»، والتي ألقى بها الكوني محاضرته، التي تناولت المكان الأسطوري في إبداعات القذافي، مشيداً بعبقرية الزعيم الأدبية، هو ومجموعة كبيرة من الأدباء العرب.
وبعد الثورة الليبية حرص الكثير من أصحاب الأسماء الكبيرة التي شاركت في تلك الملتقـــــيات على التأكــــيد أنهم تنـــــاولوا النص بعيداً عن صاحبه، وسارع البعض إلى التبرؤ من الزعيم واتخاذ موقـــف مناهض لتلك الجرائم، كما فعل إبراهيم الكوني والناقد المصري جابر عصفور، ومثلما فعل الروائي واسيني الأعرج، الذي كان من الموقعين على بيان للكتّاب الجزائريين يدين المجازر المرتكبة في حق الليبيين، بل أعلن تضامنه مع الشعب الليبي من على صفحته في الفيسبوك، وهو يتبنى صورة العلم الليبي القديم المناهض لجماهيرية القذافي. واسيني الذي قدّم بدوره من قبل ورقة نقدية بعنوان «المدينة والمثال» في مجموعة معمر القذافي القصصية.
وعن الجائزة وعارها يأتي موقف الكاتب الإسباني خوان غويتسولو، الذي رفضها، لأنها صادرة عن ديكتاتور. هنا أيضاً يواصل الكوني نضاله المحسوب، فأصدر بياناً تبرأ فيه من الكاتب الإسباني، حتى مقدمة خوان غويتسولو للترجمة الإسبانية لروايته الشهيرة «التبر»، زعم الكوني أنها ليست مقدمة، بل مقالا نشر مع الرواية بدون الرجوع إليه. وبعد العديد من الاجتماعات، اختير الكاتب الجنوب افريقي برايتن برايتنباخ للجائزة، لكنه رفضها بدون إعلان السبب. وكان الحل الأخير لإنقاذ الجائزة يتمثل في المثقف المحترف جابر عصفور ــ تحت الطلب دائماً ــ الذي لم يتردد في قبولها، بل خرج في وسائل الإعلام ليبرر قبوله قائلاً بأنه يأتي انسجاماً مع موقفه الداعي إلى الاشتراكية والحرية. عصفور الذي رأى بعد الثورة الليبية أنه لا يتشرف بجائزة صادرة عن ديكتاتور ــ وكأنه اكتشف الأمر فجأة ــ وأعادها للشعب الليبي، بدون أن يعرف إلى مَن يردّ قيمتها النقدية!

أما بعـــــد زلزال 25 يناير/كانون الثاني 2011، فقد انبرى الحـــــس الثوري لمثقـــفي الحظـــيرة، كما كان يسميهم وزيرهم الفنان لتحل اللعنات محل الابتهالات، وعلى الألسن نفسها التي صلّت ودَعَت وقدّست ..

يوم لا ظِل

مصر هي قلب العروبة النابض، والمثقف المصري هو قلب هذا القلب، لذا له نصيب الأسد من التسكع الليلي في دروب السلطة، ورغم المواقف الكثيرة لهذا المثقف الذي يؤذن فينا ليل نهار عن قيم الحرية والديمقراطية والعدالة، إلا أن مآربه الأخرى تتجلى وتنكشف، ونذكر مقطعا من كتاب الكاتب سعد القرش، المعنون بـ«الثورة الآن.. يوميات ميدان التحرير» لنعرض صورة مكثفة ودالة لمثقفي الســــلطة، الذين لا يجدون ظلاً إلا ظلها..
في مقابلة مع الرئيس المخلوع مبارك في 30 سبتمبر/أيلول 2010، أفردت صحيفة «الأهرام» صفحة تتصدرها صورة لمبارك ولفيف من مثقفي مصر المعتمدين لدى مؤسسة الرئاسة، وجاء العنوان «لقاء مبارك مع المثقفين بأقلام كُتّاب الأهرام». جاءت الصورة لتجمع كلا من فوزي فهمي، صلاح عيسى، يوسف القعيد، محمد سلماوي، عائشة أبو النور، السيد ياسين، أنيس منصور، خيري شلبي، سامية الساعاتي، أحمد عبد المعطي حجازي، وجابر عصفور ــ الأحياء منهم حضر لقاء مماثل مع محمد مرسي، ثم السيسي في ما بعد ــ كتب يوسف القعيد ــ زبون النظام الدائم ــ «لقد كان المهم لي صحة الرئيس وحضور ذهنه». وتحت عنوان «مصر في بعث جديد» كتب خيري شلبي «إن أكبر وأهم محصول خرجنا به من لقاء الرئيس هو الرئيس نفسه، لقد خيّل إليّ شخصياً أنه كان على سفر، ثم عاد إلينا قوياً فتياً، ليقود أحلام مصر وطموحاتها في بعث جديد». ويضيف أحمد عبد المعطي حجازي قائلاً «أسعدني كذلك أن أرى الرئيس متفقاً معنا إلى حد كبير حول المبادئ الفكرية والأخلاقية التي يجب أن يكون عليه وجودنا كشعب». أما جمال الغيطاني الذي لم يحضر الجلسة العائلية، فقد كتب قبلها، عند عودة مبارك من عملية جراحية في ألمانيا، بعنوان «قائد القوات»، فيقول بعد أن عدد صفات القائد الحسنى «عندما رأيت الصور الخاصة باستئناف الرئيس لنشاطه، شرعت في تدوين هذه الشهادة التي تخص أبعاداً عامة وخاصة، تتصل بالرئيس وملامحه الإنسانية، وسعة صدره، وأيضاً ما أكنّه تجاهه من امتنان ومودة». (جريدة «الأخبار» في 28 إبريل/نيسان 2010).
أما بعـــــد زلزال 25 يناير/كانون الثاني 2011، فقد انبرى الحـــــس الثوري لمثقـــفي الحظـــيرة، كما كان يسميهم وزيرهم الفنان ــ والرجل أدرى بساكني حظيرته ــ لتحل اللعنات محل الابتهالات، وعلى الألسن نفسها التي صلّت ودَعَت وقدّست ..
«طغيان مبارك والذين سبقوه أنهك المصريين وأذلهم وبدد ثرواتهم واستنفد قدراتهم على الاحتمال، ودفعهم أخيراً إلى الثورة». (أحمد عبد المعطي حجازي «الأهرام» 30/3/2011). «نظام مبارك هو أسوأ نظام مرّ على مصر، حتى من الاحتلال الأجنبي، فالنظام السابق جرّف البلاد ونهبها بكل طاقته، حتى إن المساحات المخصصة لهموم المصريين في خطابات مبارك تقلصت، حتى اختفت تماماً وحل محلها سخرية واحتقار وتجاهل». (جمال الغيطاني. موقع «اليوم السابع» 8/4/2011). «إنني أشدد على استمرار محاكمة مبارك، ولو أنه حُكم عليه بالإعدام في حالة إدانته، سيكون شيئاً عظيماً. (خيري شلبي «الأخبار» 26/4/2011).
وبما أن الشيء العظيم لم يتحقق، فالشيء الأعظم هو كشف هذه الكائنات الضالة ــ الأحياء منهم والأموات ــ وتحطيم الصورة الزائفة للكاتب الكبير والمفكر العظيم، كل هذه الصفات المجانية والمُستهلَكة، لتبدو صورتهم الحقة، مجموعة من الآفات والمرتزقة، وأحد الأسباب الرئيسة في وجود أنظمة مستبدة لا تحقق وجودها إلا من خلال أصوات هؤلاء.

اضف رد