كان لبنان ايضا، وقتها، في برج عال، وفي الطابق السفلي، يختبىء شبح الانفجار… اللعازارية الاولى كان مبنى اللعازارية رمزا لحقبة الازدهار تلك بيروت كانت مركز الحركة التجارية والاقتصادية في الشرق، واللعازارية كانت محور الحركة في بيروت، واكبر مركز تجاري فيها، منذ منتصف الخمسينات. نستعيد في #نهار_من_الأرشيف ما كتبه باسم الحاج في اللعازارية في تحقيقٍ نشر في 20 أيار 1995 !
كان اسمه “زمور الخطر”. كل الذين يعرفون لبنان ما قبل 1975، يذكرونه. كان صوته يلعلع في بيروت، اول يوم خميس من كل شهر، على سبيل التجربة. لكنه نادرا ما استعمل للتحذير من غارة، من هجوم، من طارىء حقيقي، حتى ان الناس ما عادوا يصدقون ان ثمة شيئا اسمه … “خطر”. كان الزمور، بابواقه الممتدة في الاتجاهات كلها، يتفرج على المدينة من برجه، على سطح اعلى مبنى فيها: اللعازارية. تحته، كانت بيروت تنغل بالحركة… والزمامير. وكان هو، فوق، على سطح اللعازارية، ينتظر دوره. لكن الخطر لم يكن يخطر على بال احد، في تلك الفترة. كان جمرا تحت رماد المشاوي والنراجيل في ليالي بيروت وسهراتها. وكان لبنان ايضا، وقتها، في برج عال، وفي الطابق السفلي، يختبىء شبح الانفجار… اللعازارية الاولى كان مبنى اللعازارية رمزا لحقبة الازدهار تلك بيروت كانت مركز الحركة التجارية والاقتصادية في الشرق، واللعازارية كانت محور الحركة في بيروت، واكبر مركز تجاري فيها، منذ منتصف الخمسينات. ذلك المجمع الضخم، المبني بالحجر الاصفر، ورث الاسم، اللعازارية، عن مجمع آخر، مختلف تماما. ففي المكان نفسه، في منطقة الباشورة، استقر الآباء اللعازاريون والراهبات اللعازاريات عندما اتوا الى لبنان عام 1845. الدير الصغير الذي شيدوه على هذه الارض كان نقطة انطلاقهم الى انحاء لبنان، والى الشرق. كان الدير وقتها يقع خارج المدينة، وخارج بوابات بيروت القديمة. وبالقرب منه، بنيت تباعا كنيسة فمدرسة ثم ميتمان للصبيان والبنات ومشغل. ويقول الاب ميشال عطاالله، الرئيس العام لجمعية الآباء اللعازاريين. “البيروتيون في تلك الحقبة كانوا يعانون الفقر والبؤس، وكان الرهبان والراهبات يقدمون الطعام والمأوى للمعوزين. والتأثير الاكبر كان لاحداث 1860 في جبل لبنان. حصل تهجير كبير من الجبل الى بيروت، وفتح اللعازاريون ابوابهم لايواء النازحين، واقاموا مستشفى للحالات الطارئة، ولاستيعاب الجرحى واليتامى. بعد احداث 1860 ولد الميتمان اللعازاريان. ويتذكر البيروتيون القدامى ان الصفة التي كانت تطلق على بعض ابناء هذين الميتمين هي “بناديق اللعازارية”، وهذه عبارة شعبية تشير بقساوة الى الاطفال اللقطاء الذين كان الرهبان والراهبات يتبنونهم، ويؤمنون لهم الرعاية والحنان. ايام المجاعة، وفي الحربين العالميتين، وفي كل الظروف والصعوبات، كانت اللعازارية ملاذا للمحتاجين، ورسالة محبة وعطاء في المدينة التي كانت بدأت تتوسع. وحافظت على طابعها هذا حتى 1950، حين نقل الدير والكنيسة والمؤسسات الى خارج المدينة، مرة جديدة، وتحديدا الى الاشرفية، التي لم تكن شهدت بعد النهضة العمرانية الحالية. وبدأ تنفيذ مشروع بناء مجمع تجاري كبير يضم المحال والمكاتب، ويعود ريع بدلات ايجارها لتمويل مشاريع الرهبانية اللعازارية وأعمالها الخيرية. وتولى بنك سوريا ولبنان تمويل المشروع وانتهت الاعمال في 1955. مدينة تختصر المدينة المهندس الفرنسي لوكونت هو الذي صمم مجمع اللعازارية. مبنى ضخم اصفر اللون ينتصب في شكل مربع في وسط المدينة. وشيئا فشيئا، تحول مجمع اللعازارية، في ذاته، مدينة تختصر بيروت كلها. مساحة الارض التي يقوم عليها هي 8363 مترا مربعا والمساحة المبنية عليها 34295 مترا مربعا. سبعة مبان في المجموع، احدها مبنى عمودي يضم 13 طبقة، الى طبقتين سفليتين تحت الارض كانتا تستعملان مواقف للسيارات. “اللعازارية” كانت حدثا في بيروت الخمسينات. ظاهرة مميزة في المدينة العتيقة، التي كانت تفتخر بتراثها، وبالذكريات الحميمة في شوارعها. كانت بيروت مجموعة نماذج انسانية ومعمارية، جاءت اللعازارية تنضم اليها، ممثلة الحداثة وروح العصر. ويقول نقولا الحجار، صاحب “استوديو مصر” للتصوير الفوتوغرافي (استوديو نقولا) حاليا، الذي كان يتخذ من اللعازارية مركزا: “نحن بدأنا العمل هناك عام 1956. وأذكر ان الناس، صغارا وكبارا، كانوا يأتون للفرجة، وللنظر الى ضخامة المبنى وارتفاعه المميز”. ويروي مبتسما: “كثر كانوا يأتون خصيصا، بدافع الحشرية، لمشاهدة المصعدين يعملان من دون توقف، في صعود وهبوط دائمين، وعلى بابيها موظفان خاصان لخدمة الزوار. كان الامر غريبا فعلا، في تلك الحقبة. كأن المصعدين مركبتان فضائيتان”. تعايش… وعز كانت اللعازارية تضم محال ومكاتب ومؤسسات من كل صنف ولون. نقابة المحررين كانت هناك، ومتاجر الاحذية ايضا. ويقول وسام، وهو رجل في العقد الرابع: “من أراد شراء حذاء، كان يقصد اللعازارية دون غيرها”. ومع انه كان في عهده الذهبي، كان الكتاب يتعايش ايضا مع الحذاء. وكان المجمّع يضم أكثر من خمس مكتبات كبيرة، منها مثلا “مكتبة لبنان” و”مكتبة الفرح”. ويقول ميشال فرح، صاحب هذه الاخيرة: “كان لدينا نحو 27 عقد ايجار في اللعازارية، بينها ايجارات لنحو عشرة مكاتب. كانت فعلا ايام عزّ”. وللكتاب واللعازارية قصة أخرى، موازية للأولى. فعلى حجة المكتبات داخل المبنى وفي الشوارع المحيطة به، كشارع المعرض وشارع سوريا، حيث كان يتردد التلامذة والطلاب الجامعيون لابتياع كتبهم مع بدء السنة الدراسية، نشأت سوق موازية للكتب المستعملة. ويروي سمير (38 عاما): “كنت في الخامسة عشرة عندما كنت اقصد اللعازارية. ففي ساحتها الداخلية، كنا نشتري الكتب المستعملة بأسعار زهيدة، ونبيع الكتب التي لم نعد نحتاج اليها”. كانت سوق اللعازارية مرادفة لبدء الموسم الدراسي. مع حلول تشرين الاول، كان الشبان يأتون اليها من انحاء لبنان كلها. ويتذكر نقولا الحجار: “ايام الكتب كان يصعب الدخول الى المبنى، ولم تكن الحركة تهدأ، نهارا وليلا. ظاهرة مميزة حقا كنا نشهدها في تلك الساحة”. في الداخل، كان المجمع الاصفر الضخم يغلي بالحركة، وكذلك كانت الحركة من حوله. سيارات الاجرة كانت تنطلق من جوانبه الاربعة لتذهب في كل اتجاه. منه ينطلق “السرفيس” والتاكسي، واليه يصلان. وفيه، تحت الارض وفوقها، كانت تنتشر الكاراجات ومكاتب سيارات الاجرة: كاراج سعد وكاراج صيدا وكاراج السكاكيني وكاراج راشد حمزة وغيرها… كان اسم اللعازارية نقطة استدلال في بيروت، وكان المبنى معلما من معالم المدينة، بحلّتها الجديدة. ومن حوله كانت تنتشر معالم اخرى: “التياترو الكبير” من جهة شارع سوريا، ومقهى الباريزيانا، وكنيسة القديس جرجس للموارنة من جهة شارع الامير بشير. ويحكي نقولا الحجار: “عندما كان رئيس الجمهورية يأتي ليصلّي في الكنيسة في عيد الفصح، كان الشارع يرتدي لباس العيد. ليلة العيد، كانت سيارات فوج الاطفاء تغسل الكنيسة والشارع بخراطيمها، وكان الجنود ورجال الامن ينتشرون، ويتمركزون على سطح مبنى اللعازارية، المقابل لمدخل الكنيسة، ويمنعون ايا كان، ما عدا اصحاب المحال والمكاتب، من الدخول اليه. وصباح الاحد، يزتي الرئيس في اجواء الزينة والمهرجانات، ويستعرض العسكر، قبل ان يدخل الى الكنيسة”. مبنى اللعازارية تحولّ مركزا تجاريا، لكنه بقي، مع ذلك، رمزا دينيا، لاسمه اولا، ولقربه من كنيسة مار جرجس. فمند اواخر الستينات، باعت الراهبات الجزء الذي يملكنه، وهو الاكبر، من شركة “انترا” (خمسة مبان) ومن متمولين سعوديين (مبنى الطبقات ال13). وحده المبنى المقابل لمار جرجس بقي ملكا للآباء اللعازاريين، يدّر عليهم الاموال اللازمة لنشاطات الرهبانية. لكنّ المجمّع المميز معماريا لم يعمّر، على هذه الحال، اكثر من 20 عاما. ففي 13 نيسان 1975، ما عاد “زمور الخطر” يلحّق. الخطر صار هنا، في شوارع بيروت، كل يوم. وبدا ان الحرب ارادت الانتقام من رمز حقبة الاستقرار. في اليوم الثاني لاندلاع الاشتباكات، اصيبت اللعازارية واحترقت ونهبت، كما يقول الاب عطاالله. وعلى رغم “استراحة” قصيرة عام 1977، استغلها المتفائلون للترميم، مات مجمع اللعازارية في العشرين عاما الاخرى، وتحوّل متراسا تختبئ خلفه الحرب في “زمن الاحذية”. وفي “ثالث” عشرين عاما سيقوم المبنى الضخم، كما جاء في … الكتب. اللعازارية… في ملفات “سوليدير” في كتب “سوليدير” وملفاتها، مجمّع اللعازارية هو من بين 266 عقارا قابلة للاسترداد في وسط بيروت الذي سيعاد بناؤه. والسبب، كما يقول مدير الاملاك المبنية في “سوليدير” جورج نور: “هذا المبنى لا يزال قابلا للترميم، والاضرار التي اصابته ليست في حجم يوجب هدمه، وخصوصا ان التخطيط الجديد لا يطاوله. كما ان لهذا المجمع قيمة معنوية، وهو من المعالم الاساسية في بيروت”. العقار 934 هو التابع لشركة “انترا” ويضم خمسة مبان. ويكشف نور ان الشركة طلبت استرداد العقار، وتم توقيع العقد، ولم يبق سوى اتمام الاجراءات اللازمة للاسترداد، في حين ان المجموعة السعودية المالكة للعقار 1470 (المبنى المرتفع)، لم تبد اي نية في الاسترداد. غير ان مجموعة من المستأجرين قدمت طلبا في هذا المعنى، ووقع العقد، اما الاسترداد الفعلي للعقار فرهن باتمام المعاملات ايضا. اما جمعية الاباء اللعازاريين، فكانت اول المستردين. ويقول محامي الجمعية فارس ابي نصر: “في 2 كانون الاول 1994 جاءتنا الموافقة المبدئية على الطلب، وفي 30 كانون الثاني الماضي وقعنا عقد الاسترداد ونشر في الجريدة الرسمية في 2 شباط”. ويقول الاب عطاالله: “السبب الاول الذي دفعنا الى استرداد المبنى ان الآباء اللعازاريين استقروا هنا اولا عندما جاؤوا الى لبنان. والسبب الثاني اننا احببنا الاحتفاظ بالمبنى، مركزنا في وسط بيروت، خصوصا انه يقع تجاه كنيسة مارجرجس. والسبب الثالث ان الاموال التي نحصل عليها من المبنى تساعدنا في تمويل اديرتنا وتطويرها في الشرق كله”. العمل على استرداد العقار 933 المعروف بالمبنى A2 بدأ منذ صدور المرسوم 2236 في 19 شباط 1992 وهو يقضي باستملاك نحو 2200 عقار في الوسط التجاري. ويقول المحامي ابي نصر: “سعينا منذ البداية الى استرداد العقار المستملك لاسباب معنوية تتعلق بجمعية الاباء اللعازاريين. وباشرنا اعداد الدراسات على ثلاثة مستويات: الاول قانوني واداري ومعلوماتي، والثاني هندسي، تولته شركة سمير سركيس، والثالث اقتصادي ومالي. وعندما حانت اللحظة المناسبة، كان كل شيء جاهزا لتقديم طلب الاسترداد”. في مكتب ابي نصر اعيد جمع المعطيات المتعلقة باللعازارية كلها، ورتبت وباتت موجودة على اجهزة الكومبيوتر، مع ان معظم الملفات السابقة كانت مفقودة او محروقة. ضمن شروط “سوليدير”، استرد الاباء اللعازاريون المبنى، فدفعوا عشرة في المئة من قيمة التخمين الاجمالي كمساهمة لحل مشكلة المهجرين وتأهيل البنية التحتية، والتزموا كذلك الشروط الهندسية والفنية. مبنى اللعازارية سيبقى بحلته المعمارية القديمة، لكنه سيكون متناسبا مع الطابع الحديث لبيروت المستقبل، وسيضم كل التجهيزات المتطورة المضادة للحريق والتي تتيح تنقل المعوقين داخل المجمع. ويكشف ابي نصر ان طبقتين جديدتين ستضافان الى الطبقات الاربع في المبنى التابع للآباء اللعازاريين. قرب اللعازارية، هذه الايام، حركة جرافات وشاحنات. انها اللمسات الاخيرة قبل بدء ورشة الترميم، وهي الاولى لمبنى تجاري في وسط بيروت. ويقول جورج نور: “اعتقد ان الحركة التجارية ستنشط في اللعازارية فور انتهاء الترميم، وهذا المجمع سيساهم في عودة الحياة الى وسط بيروت”. على كل حال، الاقبال على العودة الى اللعازارية ملحوظ. المحامي ابي نصر يوضح ان المستأجرين الذين ابدوا رغبتهم في العودة الى مبنى A2 يشغلون نسبة 52 في المئة من المبنى. ويشير الى ان ثمة 70 مستأجرا في المبنى، مرتبطين بنحو 140 عقد ايجار. ويستدرك نور في هذا الاطار: “العلاقة بين المالك والمستأجر ستكون اكثر وضوحا في المستقبل، وصفحة الماضي ستطوى بين الطرفين”. اللعازارية تنتظر بدء ورشة الترميم. بعد اسابيع تقوم من بين الانقاض، وترفع الانقاض من ساحتها الداخلية. وفي مهلة 12 شهرا، يفترض ان تنجز الاعمال. وحده سليم دبوس رمم قبل الاخرين بكثير. هو بقي صامدا في اللعازارية طوال الحرب. فقط في ايام القصف الشديد والمعارك العنيفة، لم يكن يأتي. يقول: “في الحرب، انتقلنا الى الطابق السفلي، وقبل خمسة اعوام، عدنا الى سطح الارض”. ودبوس، للمناسبة، يملك… مطبعة. قبل اسابيع، غنت فيروز في كنيسة مارجرجس، ودقت اجراس القيامة، وجرس قيامة اللعازارية قرع بدوره، فهل يسكت زمور الخطر… الى الابد؟