سمير عطاالله
النهار
11072018
الأول من اليمين ميشال عفلق والى جانبه عبد المجيد اللرافعي
ظل عبد المجيد الرافعي يستخدم مصطلحات وتعابير الخمسينات حتى اليوم الأخير في عمره المديد. رفض ان يقبل، أو أن يرضى، أو ان يرتضي، ان ميشال عفلق مات في العراق وهو محكوم بالاعدام في سوريا. وفي الوفاة، نُعي تحت اسم احمد ميشال عفلق، وفي حكم الاعدام، فات القاضي الإشارة الى مهمته: مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي!
بقي عبد المجيد الرافعي مصراً على ان البعث لم ينقسم، والبعثيين لم يتجزأوا، والوحدة العربية على الأبواب تنتظر كلمة السر: حرية! رفض ان يقتنع انها من محظورات العرب ونقائض الحزب. وببراءة لا مثيل لها، ظل يغرد وحيداً، حريصاً على مفردات “الاستاذ ميشيل”، الذي لم يكن يرد اسمه بين الرفاق من دون توقير الأستذة وتقدير التأسيس.
المقالات الأخيرة التي كان الرافعي يكتبها في “النهار” كانت تبدو مؤرخة في الأربعينات، وموجهة إلى جيل ما قبلها، الجيل الذي سافر الى باريس في الثلاثينات، وتعلم في جامعاتها وصحفها ومقاهيها، أن هذا العالم المأزوم بنفسه، فقراً وحروباً وتخلفاً وفاشية، لا حل أمامه سوى الاشتراكية والحالة الإنسانية.
حاول عفلق، المدرك أن عقبته الأولى في حلمه القومي الكبير، هي اسمه وحارة الروم في الشام، حاول أن يستنبط الحل المتناغم مع وعورة الدرب وقدسية الهدف. ومن اللحظة الأولى جعل المسلمين شركاء مؤسسين. وخاطب طموحات ومشاعر الملأ الاسلامي في رسم أهداف الحزب. لم يرد اطلاقاً الاعتماد على انضواء الاقليات، بل العكس، أراد لها ان تنصهر في مشروع جمهوري اشتراكي موحد، عماده المسلمون، إذا استعصى ان يكون العماد هو الاسلام.
لم أعرف الاستاذ عفلق، إلا من بضع رسائل طيبة كان يرسلها اليّ في “النهار”، مع إثنين من رفاقه واصدقائي: كمال ناصر والياس الفرزلي. ربما كانت هناك رسائل مع آخرين لم تصل. ولكن نحن، ابناء ذلك الجيل اللبناني الحائر، الباحث عن نسب مدني ليبرالي مضاد للجهل والموت والعصبية، كنا نكن اعتباراً وتفهماً للاستاذ، غير مدركين ان فكره وحزبه واحزاب التقدم والحريات، سوف تتحول الى فوضى وحروب بائسة.
لكن بقي في تلك الحركة القومية الصدّيقة، قديسون وأولياء. لا يغيَّرون، لكنهم أيضاً لا يتغيّرون. وقد اسعدتني صداقات الذين عرفت منهم: عبد المحسن القطان، آية الضمير الفلسطيني المضيء، وكمال الشاعر، الذي جاء من البادية الاردنية إلى الجامعة الاميركية بالكوفية والعقال، وحمد اليوسف، وجه الكويت الباسم، وعلي فخرو، مفكر البحرين، وأريد أن أتوقف عند لمعان اليمن محسن العيني، الذي جعلني على مدى السنين، اشعر ان صنعاء أقرب اليّ من بتدين اللقش. أولئك عربي. وتلك هي عروبتي. كم أشعر ان “الوطن العربي الكبير” كان حارة حقيقية، حميمة القربى، وأمة على وشك ان تقوم. ثم عمّت الرياح وتضارب الهبوب.
عندما غاب عبد المجيد الرافعي، شعرت بندم أنني لم أعرفه. وعندما كان حياَّ، كنت أتمنى دائماً حسن المصادفات. وكان يفترض أن أمين الحافظ، منافسه في طرابلس وخصمه السياسي، لكن وجه الأمين كان يشرق محبة وتقديراً عندما يأتي على ذكريات المعارك بين فرسان. عاش الرافعي لكي يحترمه خصومه ويحبّه الجميع.
وكم احترمه الناس، هذا الرجل الذي كرّس نفسه للناس. الذين يدخلون عالم السياسة يجب ان ينحنوا، لأن بوابتها واطئة وعرضها ضيّق. الرافعي اصطدم بالجدران والقناطر، وظل مرفوع الرأس. شيء مثل غيفارا الطبيب، ولكن في أحزان طرابلس وفقرها وبؤسها وبقايا القرن الثامن عشر.
أليس من حل لهذا الشاطىء الجميل الذي ولد منفياً بين بساتين الليمون، وبقي منفياً، وبقيت طرابلس في منعزلها الشمالي، مرفاً بلا سفن، ورئاسة حكومة بلا سرايا، وتاريخاً منقطعاً عن الحاضر، أو منسلخاً عنه؟
كانت الاحزاب المدنية والقومية حلماً حولته الانقلابات الى كابوس وهزيمة. وبسبب اخفاقها في بسط أفق إنساني موحّد، يستوعب الاجيال ويحتضنها، ظهرت حركات التطرف تطرح نفسها بديلاً مزدوجاً، على الأرض وفي السماء. تسلم البعث الحكم في بغداد ودمشق تحت شعار وحدة حرية اشتراكية. فأقام العداء الحزبي، وأطبق على جميع أنواع الحريات، وطبّق اشتراكية قاتمة تشبه اشتراكية بحيرة بايكال في سيبيريا بدل اشتراكية اسكندينافيا.
ظل المثقفون والطيبون، والذين هم أدرى بالاحلام والوقائع، على هامش السلطة، لا ينشقون، لكنهم أيضاً لا يشاركون في مسرى العنف وتبرير السطوة والغاء الفكر الآخر. الرافعي كان أبرزهم. لم يشأ ان يقرّ بما حدث للحزب وللأمة وللأوطان، أو لهذا الشعب التائه بين سطح المحيطات وأعماقها. اليابسة وخيامها. لذلك، ظل يتحدث لغة من عصور الفكر والاحلام، فيما الناس تبتهج بمفردات محمد سعيد الصحاف: “أوغاد” و”علوج” و”طراطير”.
كم هزمنا الخطاب المفرغ. ويا للمصادفة أن يكون كبيريّ رموزه احمد سعيد في القاهرة، ومحمد سعيد على دجلة. أمّة مفعمة بالسعادة! أتذكر طرفة الراحل أحمد شومان، الذي ظل أحدهم يكتب إليه ملحاً: لماذا لا تغير هذا الاسم؟ أي الشؤم مضاعفاً. فكتب إليه ذات مرة: قررت النزول عند رغبتك. من الآن فصاعداً سوف اسمي نفسي أحمد سعدان. ضعفا السعادة!
لم تنتصر لغة أحمد، أو محمد سعيد. كان الشبه غريباً بين الطائرات التي اسقطها كلاهما. ولم تنتصر لغة الرافعي، لكن انتصر ضميرها وصمودها، كما قال المهندس نقولا الفرزلي، أقرب الحزبيين الى عفلق، ويوم كان اللبناني البعثي – أو أي عربي آخر – شريكاً في الحكم في العراق.
ذلك عصر لم يعد، كما في البلاغة الشكسبيرية القصوى. الطبع البشري الغالب هو الاقتسام، أو التحاصص، كما قال بيدبا الفيلسوف لدبشليم الملك في غابة الرموز، بكليلة ودمنة. يُدرّس “كليلة ودمنة” للصغار كي يُحفَر في ذاكرتهم وقد كبروا. ومنه درس التعاهد على طول المودة والنكوص بها، والتوافق على تقاسم الغنائم في ميزان الهر والجبنة.
ظل القذافي يحكم ليبيا 42 عاماً، ممجداً الشعب، ومحتفظاً بدخل النفط. حاول كثيرون – حتى ابنه سيف – إقناعه بإعطاء الآخرين شيئاً من بعض أرضهم، قليلاً من حقهم ومن سلطته، لكن كيف يتنازل عن حقّه الإلهي المُطلق. انتهى الحكام الآلهة يتوسلون قتلتهم شيئاً من الحياة، أو العفو. لكن القتلة تخرجوا من تلك المدارس اكثر فظاعة وفظاظة، وبلا عدالة سوى عدالة المسخرة وهول الجشع.
تفيق الشعوب المصفقة يوماً فترى أن الآلهة حولتهم الى قالب يقسم بمنشار عمودي. هذا كل ما هي، الشعوب. سواء بالانقلاب المعلن، أو المبطن.
جميع الزعماء العرب دخلوا السلطة ضمن الجماعة وبقوا فيها وحيدين: القذافي وابناؤه، ومن الخارج، صهره وعديله فقط. والشعب له النشيد الوطني يغنيه، وفرق النوبة يؤلفها لكي يمشي بها في جنازة كرامته.
وما لا ينسى لحظة، هو محاربة الإقطاع! توفي الملك ادريس السنوسي يدفع عنه جمال عبد الناصر إيجار منزله في القاهرة. وقتل صاحب ثورة الفاتح عن 150 مليار دولار، جزاء محاربته الرجعية والاقطاع والحكم العائلي. هل تعرف أين المشكلة كلها؟ في حضرتك ايها الشعب العظيم. يا من ترقص وتَقتل وتُقتل وتجوع وتتبطل وتُهان ويُهان ابناؤك، من أجل قرّادية أو عتابا. الذي تقرأه وتسمعه كل يوم هو عنك. انت هو المخدوع. أنت هو المتقاسم. حسّ.
*يقام اليوم في طرابلس حفل تأبيني في ذكرى الدكتور عبد المجيد الرافعي.