Mar 08, 2018
القدس العربي

تنقل السينما عن الطروحات الروائية، العوالم والغرائب والأجواء فتصبح أكثر عمقا لو صح ما تنقله، وبات ملائماً لطبيعتها كوسيط ثقافي يترجم الصورة والصوت والإحساس، ويحول الشخصيات الافتراضية إلى لحم ودم، يتخفف السرد الروائي حين يعالج درامياً من مثقلات التعبير والمعنى فيصير سهلاً في استيعابه، وهذه واحده من ميزات الأدب السينمائي الخاص والاستثنائي.
«الأصليين»، عنوان الفيلم المأخوذ عن قصة للكاتب أحمد مراد وهو واحد من الأفلام التي تحتاج إلى تركيز عال في المشاهدة، كي يتسنى للمتلقي فهم ما يدور والإحاطة بكل التفصيلات والإيحاءات والإشارات القريبة والبعيدة للقصة والسيناريو والحوار ومواطن الرمز والإسقاط والتورية، فضلاً عن دلالات الضوء والظل والموسيقى والديكور فكلها مؤثرات ذات صلة بالموضوع والمعنى والهدف.
تبدأ أحداث الفيلم بالبطل ماجد الكدواني «سمير» موظف البنك وهو يتجول داخل سوبر ماركت كبير، لشراء بعض الاحتياجات اللازمة للبيت، وتستعرض الكاميرا عبر مشهد طويل صور الدجاج المثلج في رمزية غامضة يتم الإفصاح عنها في ما بعد، حيث تتصاعد الأحداث فيترك البطل الموظف عمله بالبنك بأمر مباشر ومفاجئ، فتتعطل حياته ويدخل في أطوار من الكآبة كمقدمة لرحلته الجديدة في العمل السري، وهنا تكون البداية الحقيقية للقصة التراجيدية الغرائبية، كما يصورها الأديب وتنقلها السينما بتصرف، فنحن أمام شخص غامض وعمل أكثر غموضاً وصفقة مشبوهة بين رجل يظهر فجأة خالد الصاوي في حياة الكدواني ليعرض عرضاً مغرياً يضمن له حياة رغدة واستقراراً مالياً، شريطة أن ينفذ الموظف المسكين الأوامر وهو صاغر بدون أدنى اعتراض، وعلية تتشكل الحكاية المأساوية تشكلاً خاصاً، وندخل في غمار المراهنة الصعبة على نص أدبي سينمائي مركب يتحول إلى أزمة نفسية ومعضلة اجتماعية تجتاح حياة رجل بسيط فتقلبها رأساً على عقب، فهو يدخل طرفاً في قضية كبرى تتجاوز حدود وعيه الفطري كإنسان وزوج وأب لاثنين من الأبناء.
بموجب الاتفاق القسري الذي تم بين الطرفين يكون سمير أو ماجد الكدواني ملزماً بتنفيذ بنود العقد الذي أذعن لكل شروطه بعد تعويض خسارته كموظف مفصول من عملة وترتيب حياته على نحو آمن تماماً، في إشارة للوقوع في شرك المنظومة الأمنية الافتراضية التي تراقبه وتعنى بمراقبة كل من لديه خصوصية فكرية أو سياسية أو حتى عاطفية، سواء كان مناهضاً أو مؤيداً أو يعيش على الهامش، وفي أجواء تأثيرية وداخل دائرة حمراء كأنها طاقة جهنمية، يجلس الرجل المختار على مكتبة ليمارس مهام التنصت والتجسس، وفي القلب من مهمته الوطنية المزعومة يخص بالتجسس شخصية نسائية مهمة تعمل في مجال البحث العلمي وتعيش خارج البلاد منه شلبي أو «ثريا» ولا تزد الشخصية عن كونها رمزاً لضحية ما يمارس عليها هذا النوع من النشاط التلصصي السري الفانتازي للحكاية التعبيرية التي يمكن تلقيها والتعامل معها في أكثر من مستوى، الأول منها أن ما نشاهده ونتخيله وفق القصة يشير إلى ذلك الرقيب الذي يسكننا داخلياً، ويعيش معنا في البيت والعمل ولا نراه، لكننا نخشاه ونطيعه لأنه يمثل ميزان الحياة ويحفظ استقامتها فتظل متوازنة بلا ميل أو شطط، وهي مسألة أزلية أبدية وجدت منذ نشأة الحياة على وجه الأرض وبداية الصراع بين قابيل وهابيل.
ثانياً إن تطور المنظومة العلمية يتبعه بالضرورة تطور في أنظمة المراقبة والتجسس، فالعالم كله أصبح عند أطراف أصابعنا، فلا حاجة لنا بإنكار عملية المراقبة فهي مشروعة في ظل الصراعات والانقسامات والتهديدات الدولية والعالمية، ومن ثم لا يجوز استنكارها طالما تخضع في النهاية لحسابات وتهدف للصالح العام، وهو مفهوم يمرره الفيلم من باب السخرية والتهكم، وتستخدمه الشخصية الأمنية التي يمثلها الصاوي لتبرير دورها كرقيب يقحم نفسه في أدق التفاصيل الشخصية للمواطنين باعتراف صريح بأن كل الناس مراقبون ولا يوجد بينهم استثناء، بما في ذلك الجهات الرقابية ذاتها، فهي تخضع لرقابة أعلى منوط بها ضمان صحة المعلومات وضبط وربط عملية الرقابة!
تتعادل أدلة الرفض والقبول في السياق الدرامي للأحداث إزاء الحالة الإبداعية الخاصة جداً في قصة أحمد مراد والرؤية الإخراجية المتميزة لمروان حامد، الذي آثر أن يدخل المنطقة الأكثر حرجاً ليصورها سينمائياً فتتحول من حالة سرية مرعبة إلى ظاهرة علنية تحتمل النقد والرفض والتعاطف، في حال وضع أي من الشخصيات العادية مكان البطل الضحية الذي فقد الثقة في كل من حوله وأقرب الأقربين منه، الزوجة والأولاد، وهو المسالم الذي لم يسع يوماً لأي بطولة، ولم يمارس إلا هواية البينغ بونغ فقط من باب إشباع رغبة والده في أن يرى ابنه بطلاً.
هذا الإلماح الذكي في الطرح كان كافياً لتقديم البطل المغلوب على أمره في السياق الإنساني كنموذج متخيل لرجل بسيط وجــــــد نفسه في عـــش الدبابير أو عش «الأصليين» أو المصريــــين الأصليين على حد تعبــــير الشخصية الأمنية الغامضة التي جسدها بجدارة خالد الصاوي في دور مهم للغاية يناسب إمكانياته الفنية العالية، حيث كان الصاوي مقنعاً في الأداء، ولعل المميز أيضاً للقصة والسيناريو هو ذلك الربط بين السير البطولية في الحكايات الشعبية كحكاية ياسين وبهية وأحـــداث الفيلم واستخدامها كخلفية لإعادة قراءة التراث الشعبي بعيداً عن التقييم التاريخي والحكي المتداول الذي يمزج البطولات بالأكاذيب فيختلق بطولات وهمية لشخصيات وهمية صنعها خيال العامة فصارت حقائق مسلما بها!