الرئيسية / home slide / الفيلم اللبناني «حديد نحاس بطاريات»: المنفى والحب المستحيل

الفيلم اللبناني «حديد نحاس بطاريات»: المنفى والحب المستحيل

حميد عقبي
القدس العربي
19052021

عُرض مؤخراً في بعض القاعات الفرنسية فيلم «حديد نحاس بطاريات» للمخرج اللبناني وسام شرف. يتناول الفيلم حالة حب بين مهدية (الممثلة الإثيوبية الشابة كلارا كوتريه) مدبرة منزل إثيوبية، ولاجئ سوري هو أحمد (الممثل اللبناني زياد جلاد)، ثنائي من اللاجئين عليهما الحفاظ على هذه العلاقة والحلم بالهجرة إلى أوروبا، وخوض مغامرة خطرة في ظل متغيرات كثيرة عصفت وتعصف بالعاصمة اللبنانية بيروت وتتنامى فيها كراهية اللاجئين، وهذه حالة أصبحت تنتشر في مئات المدن والبلدان في ظل أوضاع اقتصادية خانقة.

الحب في المنفى.. الحب المستحيل

فيما يتعلق بموضوع الحب المستحيل فهو يظهر بوضوح هنا، وهو من القضايا شديدة التعقيد، وحاول المخرج الهروب من الميلودراما، والبحث عن عمق رومانسي ذي تشعبات دلالية تتجاوز المحلية، حيث تدور الأحداث في فضاء يبدو فيه أن كل شيء ميؤوس منه، ولا حل إلا الهروب، ولكن فكرة القفز من هذا الواقع جاءت متأخرة كثيراً، حيث أننا نتلمس شخصية أحمد ونشعر بأوجاع جسده، وتأثير القذيفة التي أصابته خلال الحرب، وقد لعب المخرج بذكاء لنكتشف أن أحمد يفشل في بيع كليته، أو أي جزء لأن جسده كالحديد المتآكل ويقول له الطبيب إنه لا توجد حتى شعرة واحدة طبيعية في جسده، ويظهر شكله من البداية كالميت الحي وملابسه رثة ومتسخة، بينما تظهر مهدية في المشهد الأول في الكنيسة مع رفيقاتها وكأنها الملاك الأنيق، تشع عيناها بالحياة رغم جسدها النحيل.
ربما كان المخرج يريد أن يصور بشاعة العالم كله وليس فقط مدينة بيروت، مهدية لا تريد أن تعود لوطنها، لأن أهلها سيزوجونها رجلاً عجوزاً هناك، وهنا تعيش في بيت عجوزين، السيد العجوز وكان ضابطاً في الجيش وهو مصاب بالخرف، ويأتي ليعتدي على مهدية حيث يتخيل نفسه زومبي ومصاص دماء، نجد السيدة تعاملها بلطف إلى لحظة تكتشف حب مهدية وأحمد فتصبح قاسية، ويبالغ مدير مكتب الخدمات في تعنيفها وتهديدها وحبسها، أي عليها أن تعيش خادمة مطيعة وتتخلى عن الحب، وإلا ستسجن وتهان، وكذلك نرى أحمد ينادي في الشوارع ويصيح (حديد، نحاس، بطاريات) ويبيع ما يجمعه مقابل مبالغ زهيدة لا تكفيه للأكل ولا دفع أجرة مكان نومه، نحن مع أجواء عنف عام، وهنا تصعب الثورة والتمرد، ولكن مهدية فعلتها وتمردت على سيدتها وصديقاتها ومجتمعها هناك، لتقف وتكمل المسيرة مع شخص جسده يتحول إلى حديد ويختلف عنها كثيرا.

مخالفة المتوقع

لنتوقف مع أحد المشاهد الأولى، حيث يتوقف أحمد بطل الفيلم، أمام محل بقالة ويرى البرتقال في ناصية المحل وبينما يقوم بإيماءة نشعر بأنه ينوي سرقة برتقالة واحدة ثم سيلوذ بالفرار، يلتقي بصره بنظرة البقال الذي يخرج من متجره. يفهم البقال حاجة هذا المسكين، ويعطيه برتقالة واحدة، نجد أحمد بعدها يأكل البرتقالة بنهم وهي المرة الأولى والأخيرة التي نراه يأكل، حاول المخرج أن يلعب أكثر من مرة بخلق حدث وتوقعات تجعلنا أمام عدة خيارات، ولعله حاول بكل قوة كسر الكليشيهات وأن يجد لنفسه بصمة خاصة، وربما هذا الفيلم يذكرنا بأسلوب المخرج إيليا سليمان حيث الانتظار ومفاجآت لا نتوقعها، أو لا يحدث شيء أو حتى عندما يحدث شيء مهم مثلاً موت صديق أحمد على البيانو وهو يغني للسلام، عرضه وسام بطريقة جيدة وكأنه يريد القول موت لاجئ أو عشرة أو مئات لم يعد يهز الضمير الإنساني، وموت ضحايا الحروب والعنف والجوع بالمئات في أطراف الأرض ولا ردة فعل، ولا تأثيرات، نادراً ما نرى تأثيراً لما يحدث من قسوة وعنف في البلدان الموبوءة بالحروب.

نحت في الذاكرة الإنسانية

تناول المنفى والمنفيين وقصص الحب في الزمن الموبوء بالعنف والقسوة، هو نحت في الذاكرة الإنسانية، ويتميز الفيلم بتعدد الأقنعة والطبقات، كلما سلخنا قناعاً يبدأ الأمل بالوصول إلى الحقيقة وهي صادمة وقاسية، وحتى عندما نصل إلى النهاية نتمنى أن تبحر بهما السفينة في هذا الفجر الأزرق، وتسقط يد أحمد الحديدية ولا يبالي ويمضي وتمضي الجميلة مهدية وهي تعرج، التشويهات أصابت مهدية فأصبحت تعرج، وهي من قادت أحمد إلى ذلك الفندق المريح ليغتسل ولينعما ببعض اللذة، الجميلة هنا هي الأكثر اصراراً وتمسكاً بهذا العشق مع عشيق نصف حي ونصف ميت، كأنها مؤمنة بحياة قلبه وصفاء روحه وهي تحمل من القداسة والجمال ولديها ما تمنحه له.
«حديد، نحاس، بطاريات» كلمات ستظل تدق في مسمعنا وأنفسنا وكأنه يريد أن يخاطب الداخل، من خلال كوميديا سوداء وتناول نماذج كأنه مطرودة من السعادة والحياة، بل منبوذة دون وجه حق، هذا العشق المستحيل في الفيلم وفي الحياة، كثيرة هي المنافي التي تسحق الحب والكرامة والإبداع.

كاتب يمني