Oct 25, 2017
كمال القاضي – القاهرة
لقد ترك الأب أثره في نفس الطفل الفنان، فتربى على الطبيعة نفسها واكتسب الصفات ذاتها، الخجل والانضباط والروح التواقة إلى العلا فموهبته الفطرية أخذت في التنامي ووضح فيها الميل إلى الموسيقى والغناء والشعر، لذا جد في البحث عن متنفس لموهبته، فالتحق بمعهد الموسيقى العربية، الذي عرف وقتها بمعهد فؤاد الأول، وكان لا يزال حديث السن، فاكتشفه أمير الشعراء أحمد شوقي في واحدة من حفلات الموسيقى السنوية، وأخذه ليقيم معه في القصر ويعيد تربيته على قواعد الإتيكيت والأبهة، وقد حقق في ذلك تقدماً ملحوظاً، فصار الفتى وجيهاً من وجهاء المجتمع الراقي، وتلك هي المرحلة التي مهدت لها المخرجة سميحة الغنيمي قبل الدخول في العمق، لتهيئة المشاهد لما سيأتي لاحقاً من صور وأحداث تضع البطل في بؤرة الاهتمام، فبجانب الصعود الرأسي في رحلة الفنان الثرية، نرى اتساعاً أفقياً في البانوراما الحياتية له ونكتشف مناطق جديدة من خلال علاقته بزوجته نهلة القدسي، وهي تروي بعضاً من مآثره وخصوصيته الفنية والأسرية، فنتعرف على أولويات حياته فنجد الفن على رأسها، لا تضارعه أشياء أخرى غير صحته فهو شديد الحرص عليها، يخشى على نفسه من المرض كما يخشى على فنه منه، حيث لا يريد أن يوقف مسيرته الفنية لحظة واحدة، تماماً مثل النهر يجري في قنواته متدفقاً عذباً يروي ظمأ الإنسان وتكتسي بفضله الحياة باللون الأخضر.
هكذا كان صاحب أنشودة «النهر الخالد» يشبه إلى حد كبير ألحانه وموسيقاه، وقد وضح ذلك في الكثير من أعمالة «كالجندول» على سبيل المثال وغيرها من المقطوعات ذات الطابع الرومانسي الإنساني، ويشير فيلم «عاشق الروح» المستوحى عنوانه من أشهر موسيقاه إلى تنوع النغم والمقامات والأصوات، فلم يكن محمد عبد الوهاب ثابتاً عند القالب الكلاسيكي القديم مثل عبده الحامولي وسلامة حجازي وصقر علي وكامل الخلعي وبقية الرعيل الأول، وإنما تجاوز كل هؤلاء وحرص على التحديث وربط الموسيقى الشرقية بالموسيقى العالمية وقد اتصل فنه بالنوابغ في هذا المجال، فتأثر بموتسارت وبتهوفن وباخ ورصد الجديد من احتياج الشباب لموسيقى متطورة، وواكب كل مرحلة، فلم يشغله شيء عن البحث ولم تصرفه السينما ببريقها وضجيجها عن هوايته الأصلية كموسيقي وعازف، علماً بأنه نجح فيها نجاحاً مدوياً وشارك في صياغتها بدخوله حلبة الإنتاج ولكن اللعبة لم تستغرقه تماماً ولم تستهوه الأرقام وحسابات المكسب والخسارة، وظل وفياً باراً بفنه الأساسي منقباً عن المعدن النفيس في الألحان.
اشتمل الفيلم التسجيلي الذي حرصت صاحبته على أن يكون جامعاً مانعاً لكل ما يتعلق بشخصية الفنان على العديد من الجوانب الإنسانية، لا سيما تلك العلاقة الحميمة التي ربطت بينه وبين ابنه محمد، واتسمت بصداقة فريدة من نوعها قلما تتوافر بين الأب والابن، ولكن رغم حرص المخرجة على الإلمام بكل التفاصيل إلا أنها لم تتعرض لا من قريب أو بعــيد لمعــارك عبد الوهاب الفنية، ولم تورد حتى مجرد إشارة لها، غير أن الرائعة السيــنمائية التسجـــيلية لم تتضمن شهادة واحدة لأي من الفنانين أو النجوم، موسيقيين أو مطربين أو مؤرخين، وربما يرجع هذا إلى كون سميحة الغنيمي كانت تعي وهي تكتب فيلمها أنها بصدد رسم تابلوه فني تشكيلي عن فنان ترى أنه أكبر من كل الشهادات التاريخية والفنية، فلم تشأ أن تشوه اللوحة بخطوط إضافية زائدة عن الحاجة، من شأنها أن تفسد على الجمهور متعته.
وقد يكون لها كل الحق، فما احتشد به الفيلم كان بالفعل غنياً عن أي إضافة أخرى، خاصة مع وجود عناصر المتعة والإشباع الجمالي المتمثلة في الصورة الناقلة لرائحة الزمن القديم وعبق الماضي والتاريخ والموسيقى التصويرية المصاحبة للنقلات والتقطيعات الاحترافية الدقيقة لفن المونتاج، الذي اكتملت متعته بالإضاءة الموحية واستخدام الأبعاد لإعطاء أحاسيس مختلفة تتناسب مع الحالة الفنية والزمنية وتعمق الشعور بأهمية الشخصية وتمنحها بهاءها وهيبتها لتتطابق الصورة مع الأصل .. عبد الوهاب وصورته وظلاله.