النهار – أرشيف
06042018
زكي ناصيف
رغارقة بين اوراقي ودفاتري ونصوص مبعثرة هنا. واوراق تنتظر دورها كي تجتاحها الافكار والحبر… لا يخترق هذا المشهد المرهق اللذيذ سوى تسجيلات لمسرحيات رحبانية واغنيات “شاعرة الصوت” فيروز محلقة بكل من يدنو منها نصا وشعرا ونغمات.
اكتب واكتب واسابق الزمن استعدادا لطرح تلك الدراسات التي لم اكتف او “اشبع” من الغوص فيها، والتي اعتز بها وبفضلها كونها حملتني الى اعماق ما كنت لاسبر اغوارها لولا ذلك الالتزام…
حليم الرومي، الاخوان الرحباني، محمد عبد الوهاب، رياض السنباطي، فيليمون وهبي، الياس الرحباني، زياد الرحباني وزكي ناصيف…
امام هؤلاء الاعلام اقف، واكثر ما يستوقفني العملاق زكي ناصيف الملقب بـ”اب الاغنية اللبنانية”، متأملة مصغية لتلك البلاغة الفطرية النقية. اقف طويلا امام تلك الذخيرة لفنان ادرك عمق المسؤولية الملقاة على عاتقه فنهل من ينابيع الاصالة واختط له دربا معبدة بامجاد الجدود فانتزع الخلود.
وحين يكون الصوت ملائكيا والحنجرة ذهبية والاحساس ممتزجا بكل آلام الارض وافراحها، ترى الملحن امام خيار واحد، فيعلو ويحلق بالكلمة ليبلغ آفاق هذا الصوت. هكذا كان اللقاء ذات يوم بين فيروز وزكي ناصيف، الذي فهم الآخرين وقرأ تجاربهم فكانت كل اعماله لوحات، او قل اشراقات تجلت وظهرت كما المذنبات في سماء الوطن فحفرت لنفسها مواقع الخلود!
هو من هؤلاء الكبار، اين لبنان المعطاء المدرار، عمل من اجل الوطن فكان دائما الشاهد الحارس للفرادة اللبنانية، وغرف من تراب الارض الزاخر بغناه، مقدما غذاء للنفس والوجدان والروح، ترنم باهازيج الحب والعونة واخير والجمال والعذرية، فاغلق الابواب واحكمها في وجه رياح المدنية العاتية السامة!
الفنان زكي ناصيف، الفارس القومي، المؤمن بوطنه، ومن لا يتذكر اغنيته الرائعة “بلدي حبيبي” وصرخته في وجه الحرب وامرائها “مهما يتجرح بلدنا” و”راجع يتعمر لبنان” ودعوته للمهاجر الغائب “اشتقنا عالبنان”. وفي اوبريت “يا بني امي… في ظلام الليل” ربما اراد ان يرشدنا الى المواطنية التي تتجلى عشقا للوطن.
هذا الكبير يعلمنا مع كل انشودة واغنية ولحن وصدى كيف يكون المرء حارسا وراعيا ومدماكا مصقولا ومسكوبا في عمارة الوطن التي نشكل جميعنا فيها نقاط ارتكاز اذا اتى كل منا في ركنه.
زكي ناصيف، ايها الكبير، تحية لك، يا من قاوم لابقاء النكهة الشعبية المتفجرة من التراث وصميم الانسان.
يا من علمنا كيف تكون الكلمات لغة القلب آتية منبثقة من اعماق الجذور والحقيقة، منسابة تترجم نقاء الريف والقرية بكل ما فيها من تواضع وبساطة وشموخ.
يا من تعلمنا منه ان الوطن اكبر منا جميعا، وتعلمنا منك كيف نكون كلنا للوطن.
ماذا عسانا نقول لاولئك الذين يتبارون على المنابر والشاشات للحديث عن الفن ورسالته يتنقلون من برنامج الى آخر تسويقا لاسمائهم وابداعاتهم وهم معظمهم في الواقع يحملون المطارق باصرار لزلزلة الفن فوق رؤوسنا، يسرقون الالحان من هنا وهناك، يقتبسون “يقرصنون” ويشوهون ويملأون ليالينا بالضجيج الفارغ والكلام الذي لا جدوى منه، نصاب بالغثيان “عفوا” وهم يتحدثون عن الفن واهله، فنخال انفسنا امام حكاية روما في عصر الانحطاط.
معك زكي ناصيف ومع كبارنا نحن اسرى النغم والحكايا التي نشتاقها، وندرك معنى كلمة “الفن رسالة” ونؤمن فعلا ان زمن “الناس الطيبين” لم يغب الى الابد في هذا العالم. لهذا انا غارقة وسعيدة بهذا الغرق بين اخبار الانقياء وابداعاتهم، ولهذا نهرع مذعورين بعد كل عقاب وتعذيب او جلد فني الى سماع الاصالة طلبا للشفاء والانعاش واستحضار الجذور طلبا للانصاف هربا من التفاهة والسطحية، والعياذ بالله.