
نستعيد في #نهار_من_الأرشيف جزء جديد من سلسلة القنوات السرية للمفاوضات العربية-الأسرائيلية التي كتبها محمد حسنين هيكل في “النهار” بتاريخ 14 آذار 1996. ويحمل هذا الجزء عنوان: “الفرنسيون لفيصل: الإنكليز ضحكوا عليك ووعد الإعتراف بك كان أكذوبة”.
فيصل “يجب ان تتخذ الاجراءات الكفيلة بتشجيع الهجرة اليهودية الى فلسطين والحض عليها”. (اتفاق فيصل – وايزمان) كانت الأمة العربية لا تزال تعتقد انها شاركت في ثورة عربية كبرى، وانها اختارت بمشيئتها الحرة شريف مكة وابناءه لكي يتولوا قيادتها. وهكذا فان اعلان وعد بلفور بعد اتفاق سايكس – بيكو جاء ضربة صاعقة لهؤلاء الذين ظنوا ان الحرب العالمية الاولى وسقوط الدولة العثمانية سوف يستتبعهما بالضرورة قيام دولة عربية جديدة تشمل الشام كله والعراق والحجاز.
فقد ذهب الكوماندر هوغارت (ممثلاً لمكتب القاهرة) لمقابلة الشريف حسين في جدة ليبلغه رسالة تختص بمشروع سايكس – بيكو وبوعد بلفور، وكتب الكوماندر هوغارت تقريراً عن المقابلة قال فيه: في ما يتعلق ب”سايكس – بيكو” قال الشريف حسين انه اذا كان هناك تعديل ثانوي في الخطط الاصلية تفرضه ضرورات الحرب، فهو مستعد لأن يعترف بمثل هذه الضرورة بصراحة، ولكنه طلب ان نبلغه بمثل هذه الصراحة تفاصيل التعديلات المطلوبة والضرورات التي تقتضيها. ثم اثار الشريف حسين مطالب فرنسا في سوريا، ورد عليه الكوماندر هوغارت قائلاً: “ان فرنسا صارت ترى الامور بعيوننا (يقصد عيون الانكليز) في ما يتعلق بسوريا ، وكل ما تريده فرنسا هو ان تحمي وتساعد على استقلال سوريا”.
وبدا ان الشريف حسين كان مقتنعاً. – وفي ما يتعلق ب”وعد بلفور” فان الكوماندر هوغارت راح يشرح للشريف حسين تفاصيل طويلة عن نمو الحركة الصهيونية خلال الحرب، وعظم قيمة المصالح اليهودية والنفوذ اليهودي، وانه من المفيد التعاون معهم (يقصد اليهود ومصالحهم ونفوذهم). – كان رد الشريف حسين باستعداده لقبول صيغة “وعد بلفور”. وروى الكوماندر هوغارت في تقريره لوزارة الحرب في لندن “ان الشريف وافق بحماسة قائلاً انه يرحب باليهود في كل البلاد العربية”.
وجاء الدور على الامير فيصل واقنعه مستشاره الكابتن لورانس بعقد اجتماع مع حاييم وايزمان في العقبة. ثم رتب بعد ذلك لقاءً بينهما في لندن تمهيداً لمؤتمر الصلح في فرساي، وهناك في الاسبوع الاول من شهر يناير (كانون الثاني) 1919 تم توقيع اتفاق مكتوب بين الاثنين اورده المؤرخ الكبير جورج انطونيوس في كتابه المرجعي “يقظة العرب” (The Arab Awakening) على النحو التالي: “ان صاحب السمو الملكي الامير فيصل ممثل المملكة العربية الحجازية والقائم بالعمل نيابة عنها والدكتور حاييم وايزمان ممثل المنظمة الصهيونية والقائم بالعمل نيابة عنها يدركان القرابة في الجنس والصلات القديمة القائمة بين العرب والشعب اليهودي. وهما متأكدان ان اضمن الوسائل لبلوغ غاية اهدافهما الوطنية هو في الاخذ باقصى ما يمكن من اسباب التعاون في سبيل تقدم الدولة العربية وتقدم فلسطين (!) – ولكونهما يرغبان في زيادة توطيد حسن التفاهم الذي يقوم بينهما فقد اتفقا على المواد التالية:
1- يجب ان يسود جميع علاقات الدولة العربية وفلسطين والتزاماتها(!) اقصى درجة من النيات الحسنة والتفاهم المخلص، وللوصول الى هذه الغاية تؤسس وكالات عربية ويهودية معتمدة حسب الاصول في بلد كل منهما(!).
2- تحدد بعد اتمام مشاورات مؤتمر السلام مباشرة الحدود النهائية بين الدولة العربية وفلسطين من قبل لجنة يتفق على تعيينها الطرفان المتعاقدان.
3- عند وضع دستور لادارة شؤون فلسطين تتخذ جميع الاجراءات التي من شأنها تقديم اوفى الضمانات لتنفيذ وعد الحكومة البريطانية المؤرخ في اليوم الثاني من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1917 (“وعد بلفور”!).
4 – يجب ان تتخذ جميع الاجراءات لتشجيع الهجرة اليهودية الى فلسطين على مدى واسع والحض عليها وباقصى ما يمكن من السرعة لاستقرار المهاجرين في الارض عن طريق الاسكان الواسع والزراعة الكثيفة. ولدى اتخاذ مثل هذه الاجراءات تحفظ حقوق الفلاحين والمزارعين والمستأجرين العرب ويجب مساعدتهم في سيرهم نحو التقدم الاقتصادي.
5- يجب ان لا يسن نظام او قانون يمنع او يتدخل بأي طريقة في ممارسة الحرية الدينية…
6 – ان الاماكن الاسلامية المقدسة يجب ان توضع تحت رقابة المسلمين.
7 – تقترح المنظمة الصهيونية العالمية ان ترسل الى فلسطين لجنة من الخبراء لتقوم بدراسة الامكانات الاقتصادية في البلاد وان تقدم تقريراً عن احسن الوسائل للنهوض بها. وستضع المنظمة الصهيونية اللجنة المذكورة في تصرف الدولة العربية بقصد دراسة الامكانات الاقتصادية في الدولة العربية، وان تقدم تقريراً عن احسن الوسائل للنهوض بها. وسوف تستخدم المنظمة الصهيونية العالمية اقصى جهودها لمساعدة الدول العربية بتزويدها الوسائل لاستثمار الموارد الطبيعية والامكانات الاقتصادية في البلاد.
8- يوافق الفريقان المتعاقدان على ان يعملا بالاتفاق والتفاهم الكاملين في جميع الامور التي شملها هذا الاتفاق لدى مؤتمر الصلح.
9- كل نزاع قد يثار بين الفريقين المتنازعين يجب ان يحال على الحكومة البريطانية للتحكيم. فيصل – وايزمان”. كانت نصوص الاتفاق حقل الغام باكمله: فوايزمان وضع نفسه طرفاً موازياً لفيصل على قدم المساواة، احدهما عن الدولة العربية والآخر عن الشعب اليهودي. والكلام عن الدولة العربية يجعلها شيئاً وفلسطين شيئاً آخر.
وهناك حدود نهائية بين الطرفين من قبل لجنة يتفق عليها الطرفان. والاعتراف ب”وعد بلفور” صريح. وكذلك بحق اليهود في الهجرة. ثم ان الحكومة البريطانية هي الحكم بين الطرفين في حالة نزاع يطرأ بين الفريقين، الخ… الخ… ويبدو ان بعض مستشاري فيصل العرب كانوا يستهولون النصوص التي تنتظر توقيع اميرهم، ولذلك فان فيصل حين جلس ليوقع الاتفاق اضاف اليها تحفظاً بخط يده قال فيه بالحرف: “يجب علي ان اوافق على المواد المذكورة اعلاه شرط ان يحصل العرب على استقلالهم، ولكن اذا وقع تعديل او تحويل في مطالبهم فيجب ان لا اكون عندها مقيداً بأي كلمة وردت في هذا الاتفاق الذي يجب اعتباره ملغى، ولا شأن ولا قيمة قانونية له، ويجب الا اكون مسؤولاً بأية طريقة مهما كانت. فيصل”.
ولم تكن هناك جدوى عملية لهذا التحفظ لأن الامير فيصل في هذه الوثيقة اعترف في واقع الامر بفلسطين دولة لليهود، وقبل كل ما من شأنه التمهيد لاقامة هذه الدولة. – بقي من بين الامراء الهاشميين الشريف عبد الله وكان ممرورا مما بدا له من ان السياسة البريطانية تفضل فيصل عليه. وقد راح يتهم شقيقه بخيانته وخيانة والده والتعامل مع الدول والاطراف من وراء ظهرهما. ويعتبر ان لورانس هو الذي شجعه وحرضه عليه.
وكان المؤتمر الصهيوني العالمي تحت قيادة حاييم وايزمان الآن يتحرك بطريقة مختلفة، ويبدو ذلك جلياً في خطاب القاه وايزمان نفسه في لندن بعد اشهر قليلة من اتفاقه مع الامير فيصل. فقد قال في هذا الخطاب: “ان الدولة اليهودية سوف تأتي، ولكنها لن تتحقق بالوعود والتصريحات السياسية، بل بعرق الشعب اليهودي ودموعه، هذه هي الطريقة الوحيدة لبناء الدول، واما وعد بلفور فهو مجرد مفتاح، وقد يكون مفتاحاً ذهبياً، لكنه المفتاح الذي يفتح ابواب فلسطين ويعطينا الفرصة لبذل كل جهودنا هناك. لقد سألونا (يقصد الدول الكبرى) عما نريده.
فقلنا نريد خلق اوضاع في فلسطين من شأنها ان تسمح لنا عندما ينمو ذلك البلد بأن نصب فيه اعداداً ضخمة من المهاجرين اليهود حتى نستطيع ان ننشئ في آخر الامر مجتمعاً يجعل فلسطين يهودية بمقدار ما انكلترا انكليزية واميركا اميركية. هل ستصبح فلسطين دولة يهودية في المستقبل ام لا؟ وعلى من سوف يتوقف هذا المستقبل؟ وعلى من يتحدد مداه؟ قريباً ام بعيداً؟ اني اقول لكم ان ذلك يتوقف علينا نحن.
انه يتوقف الى حد كبير على الدول الكبرى، ولكن استجابة الدول الكبرى ولا سيما بريطانيا لنا سوف تتوقف على الضغط الذي نمارسه، وهذا الضغط سوف يتوقف على قوة تنظيمنا وعلى امتلاء خزائننا، وعلى معرفتنا بما يتوجب علينا عمله لكي نأتي بالشعب الى بلده”. وكانت ثقة وايزمان في الحكومة البريطانية في محلها، فان هذه الحكومة التي حصلت على سلطة الدولة المنتدبة في فلسطين – بقرار من مؤتمر فرساي اشار في ديباجته الى “وعد بلفور” – لم تلبث ان عينت حاكماً عاماً لفلسطين هو نفسه السير هربرت صمويل، الوزير اليهودي صاحب المذكرة الشهيرة الى مجلس الوزراء البريطاني والتي اوصت بان الفرصة مناسبة عقب الحرب للبدء في مباشرة اقامة الدولة اليهودية في فلسطين.
واصبح هربرت صمويل حاكماً عاماً على فلسطين ومهمته طبقاً لاعتقاده وطبقاً لوعد بلفور وهو سياسة حكومته: العمل على انشاء الدولة اليهودية. وراحت نيران “الثورة العربية الكبرى” تخبو، ثم مضت صفوفها تتفرق وتتباعد، ولم يعد لدى بريطانيا شيء تقدمه الى العرب الذين وقفوا معها ومع الحلفاء في الحرب العالمية الاولى. وفي الحقيقة فانها لم تكن تعاملت مع الشعوب ولا ربطت نفسها بأي التزام تجاهها، وانما كان التزامها حيال الامراء الهاشميين.
وقد احست بضرورة تعويضهم، وربما احست ايضا بأن تعويضهم قد ينشئ توازنات عائلية او قبلية تساعد اكثر على تحقيق المصالح البريطانية. وهكذا فان وزير المستعمرات البريطاني، وهو وقتها ونستون تشرشل، جاء الى القاهرة وعقد فيها مؤتمراً لتوزيع بقايا الدولة العربية على الامراء الهاشميين. كان الشريف حسين لا يزال في الحجاز يبكي خروج ابنائه عليه وشرود كل واحد منهم الى ما يحقق مصلحته الذاتية. فقد ذهب فيصل بمشورة لورانس الى الشام، ودخل دمشق املاً في ان يؤسس فيها دولة عربية، لكن الفرنسيين اخرجوه منها بمقتضى حقهم وفق نصوص اتفاق سايكس – بيكو. ثم ان الامير عبد الله توجه هو الآخر شمالاً يبحث عن فرصة ملائمة، وقد وصل ركبه الى مدينة عمان (في شرق الاردن) وعسكر فيها ينتظر التطورات.
والآن جاء مؤتمر القاهرة برئاسة تشرشل واذا هو يصدر القرار الاتي: “عقد وزير المستعمرات البريطانية المستر ونستون تشرشل مؤتمراً عاماً لشؤون الشرق الاوسط في القاهرة في الفترة ما بين 12 الى 14 مارس (آذار) 1921. وقد شارك في المؤتمر معه السير بيرسي كوكس (ممثل مكتب الهند) والسير هربرت صمويل (الحاكم العام المعين لفلسطين) وشارك فيه من الخبراء كل من الميجور لورانس والميجور كلايتون (من المخابرات العسكرية والسياسية) والمستر كورنواليس والآنسة غرترود بل (من مخابرات وزارة المستعمرات) واصدر المؤتمر قراراً يقدم عرش العراق الى الامير فيصل (ملك سوريا المخلوع).. .وقراراً ثانياً يقدم امارة شرق الاردن الى الشريف عبد الله – الابن الاكبر للشريف حسين”.
وكان الامير عبد الله يعتبر نفسه مظلوماً في هذه القسمة، فاخوه الاصغر منه اخذ عرش العراق، واما هو الاخ الاكبر فلم تتبق له غير امارة شرق الاردن، وامل بعيد يراوده بأن الظروف، في يوم من الايام، قد تمهد له الطريق الى عرش سوريا – لكن احلامه توجهت في الوقت الراهن نحو فلسطين، ولعله احس – في اعماقه – بأن الحركة الصهيونية الفاعلة والنشيطة فيها الآن – طرف رئيسي في اقدار المنطقة. وهكذا راح يمد بصره واتصالاته عبر نهر الاردن. ويفتح قنوات اتصالات سرية مع الوكالة اليهودية في تل ابيب، ويبعث بالرسائل متتالية الى زعمائها يعرض عليهم ان يساعدوه لانشاء مملكة موحدة تضم فلسطين وشرق الاردن – ضفتي النهر، وفي مقابل ذلك فانه يتعهد لهم ان يعطى اليهود في هذه المملكة استقلالاً ذاتياً وضمانات للأمن تحقق مطالبهم. وكان الوسيط الذي ينقل رسائل الامير الى تل ابيب في ذلك الوقت هو بنحاس روتنبرغ وصاحب شركة لتوليد الكهرباء تقع منشآتها على نهر الاردن.
لكن زعماء الوكالة اليهودية ردوا على الامير بعرض مقابل، هو ان يقوموا بالاشراف على تنمية ثروته الخاصة واستثمارها، ويضمنوا له منها دخلاً وفيراً، ثم يكون عليه في المقابل ان يساعدهم بنفوذه في تخفيف معارضة الفلسطينيين لمشروعات الهجرة والاستيطان. لويد جورج “لك ان تأخذ القدس ايضاً… هل هذا يرضيك؟!” (رئيس وزراء فرنسا لرئيس وزراء بريطانيا) كانت شعوب المشرق العربي في حالة يرثى لها.
– فالشعب السوري الذي كان حاضنة الثورة العربية الكبرى وجد آماله تخيب، ثم عاوده شيء من الأمل عندما نودي بالامير فيصل ملكاً على دمشق لاشهر معدودات، ثم جرى خلعه واخراجه من سوريا لكي يدخلها الجيش الفرنسي تنفيذاً لاتفاق سايكس – بيكو. ثم ان اربعة الوية من الارض السورية سلخت عنها واعطيت لتكملة دولة لبنانية تقوم تحت الانتداب الفرنسي هي الاخرى. وقد تم خلع فيصل من عرش سوريا بعد مشهد مزعج آخر بدا كأنه نوع من استجواب متهم في مخفر بوليس. والحقيقة ان المشهد جرى في وزارة الخارجية الفرنسية – ال “كي دورسيه” – وقد ذهب اليه الامير فيصل ليشكو من انه منع من المثول امام مؤتمر الصلح في فرساي لابداء وجهة نظره.
وكان الذي التقاه في وزارة الخارجية هو المسيو جان جوت مساعد مدير شؤون اسيا في الوزارة. وجرى الحديث بينهما – طبقاً لمذكرة بخط لورانس قدمت الى وزير الخارجية البريطاني واودعت سجلات الوزارة تحت الرقم 97/608 ملف 7 – 445 – على النحو الآتي: “فيصل: انني لا استطيع ان افهم لماذا جرى استبعادي من قائمة الممثلين الذين يحق لهم الكلام امام مؤتمر الصلح؟ جوت: هذه مسألة من السهل عليك ان تفهمها. لقد ضحكوا عليك.
ان الانكليز تخلوا عنك، ولو انك وقفت معنا لكان في وسعنا ترتيب امورك. اننا نعترف بوجودك هنا كضيف كريم، ولكن الضيف لا علاقة له بمؤتمر السلام، والخطأ يقع عليك انت لأنك جئت الى هنا دون ان تحصل على اذن بيكو ودون اخطاره. كنت واقعاً تحت نصيحة خاطئة، والنصائح التي اعطيت لك لا تنفعك. فيصل: الجنرال اللنبي في دمشق ابلغني ان الحكومة البريطانية والحكومة الفرنسية كلتيهما تعترفان بقواتي كطرف محارب.
جوت: هذه اكذوبة. نحن لا نعرف شيئاً عن جيش عربي في سوريا. فيصل: الجنرال اللنبي كان قائد جيوش الحلفاء، وكانت قواتي تحت قيادته. كان هو قائدنا الاعلى، وقد قال لي في دمشق انه يعتبرنا طرفاً محارباً، وقد صدقته. جوت: هذه مشكلتك. وعليك ان تفهم انك اذا اردت صداقة فرنسا فيجب ان تطيع ما نقول به نحن”. ….. ….. – والشعب العراقي وجد نفسه يستبدل السيطرة التركية بانتداب بريطانيا يسلخه عن فكرة الدولة العربية الكبرى، ولا يعطيه استقلالاً كان يطمح اليه بديلاً من الحلم الكبير. ثم استيقظ ذات يوم فاذا الاستعدادات تجري لانشاء عرش في بغداد هدفه في الدرجة الاولى تعويض الملك فيصل عن كل ما قام به وكل ما انتهى اليه بعد ضياع عرش سوريا.
ولم يكن فيصل راضياً بالعراق بعد سوريا. وقد راح لورانس – طبقاً لما كتبه بنفسه في خطاب بخط يده الي صديقه وزميله في المكتب العربي غريفز، وقد اورد غريفز نصه في صفحة 31 من مذكراته – في هذا الخطاب يحاول اقناعه بأن العراق اهم من سوريا فقال: “ان العراق هو الذي سيصبح مركز حركة الاستقلال العربي وليس سوريا. وبغداد ستصبح القاعدة وليس دمشق. ان تعداد سكان سوريا الآن خمسة ملايين وتعداد سكان العراق ثلاثة. لكنه في المستقبل لن يزيد عدد سكان سوريا على سبعة ملايين في حين سيصل تعداد سكان العراق الى 40 مليوناً. ان ذلك سوف يتحقق خلال عشرين سنة لا اكثر”. – والشعب في الحجاز يتابع ما يجري من تطورات متلاحقة ويجد نفسه متفرجا على صراع شيوخ. فقد بقي فيه الشريف حسين لبعض الوقت محسوراً وممروراً وسط نصائح تقدم اليه بأن يتنازل عن العرش لابنه الشريف علي ويكتفي هو بدور “ابو الملوك” – لكن السلطان عبد العزيز آل سعود ما لبث ان وجد فرصته سانحة، فاذا هو يزحف بجيوش الاخوان من نجد ويستولي على الحجاز لكي يعلن فيما بعد قيام المملكة العربية السعودية.
وفي مجمل الاحوال فان مشهداً أخر من اغرب مشاهد التاريخ العربي الحديث يكفي في حد ذاته لشرح الطريقة التي كانت تتقرر بها مصائر العرب وتصويرها. ان راوية المشهد هو اللورد هانكي سكرتير مجلس الوزراء البريطاني، وقد عاشه بنفسه اثناء حوار مباشر بين رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج ورئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو. ففي يوم اول ديسمبر (ايلول) 1919 وصل رئيس وزراء فرنسا ورئيس وزراء ايطاليا الى لندن لمحادثات مع رئيس وزراء بريطانيا. والتقى الاثنان في مبنى السفارة الفرنسية، وبينهما اللورد هانكي الذي جرى تكليفه رسمياً وضع مذكرة عن حديثهما. في البداية – كما ورد في مذكرة اللورد هانكي – كان رئيس الوزراء الفرنسي يشعر بأن الحكومة البريطانية متضايقة من بعض تصرفات الرسميين الفرنسيين.
وهي تعتبر انها احيانا تجاوزت حدود المقبول ازاء الحليف الاكبر وهو بريطانيا وكان كليمنصو حريصاً على استرضاء رئيس الوزراء البريطاني لأنه ما زال يشعر بالحاجة اليه في التسوية النهائية، وما يترتب عليها. وبدأ الحوار بين الاثنين. ودار على النحو التالي على حسب ما سجله اللورد هانكي في مذكرته بالحرف (وثيقة مجلس الوزراء الرقم 14/116 تاريخ 1 ديسمبر (كانون الاول) 1919): “كليمنصو: انني حريص على ان لا تكون هناك خلافات كبيرة بيننا، فما زالت امامنا ظروف تقتضي لقاءنا المستمر. ان تحالفنا نجح في تجربة الحرب، وليس من المعقول ان يرسب في تجربة السلام”. ثم استطرد: “دعنا نسوي الامور بيننا مباشرة، وقل لي ما الذي تقترح ان نبحثه معاً الآن؟” لويد جورج: دعنا نبحث في مصير العراق وفلسطين. كليمنصو: اذن قل بصراحة ماذا تريد؟ لويد جورج: اريد الموصل. انتم تطالبون بهذا الاقليم ونحن نعتبره تكملة لجنوب العراق الذي اتفقنا على ان يكون من نصيبنا.
كليمنصو: حسناً. لك ان تأخذ الموصل. سوف نتركه لكم… هل هناك شيء آخر؟ لويد جورج: نعم… اريد القدس ايضاً. انكم تثيرون متاعب لنا، وتطالبون بالحق في فلسطين باعتبارها جنوب سوريا. كليمنصو: لك ان تأخذ القدس ايضاً… هل هذا يرضيك؟ لويد جورج: هذا شيء طيب. كليمنصو: ان بيشون (وزير خارجية فرنسا) سوف يثير لي مشاكل بسبب الموصل، وارجوك ان تساعدني ازاءه. لويد جورج: ماذا استطيع ان افعل لك؟ كليمنصو: اتركوا لنا سوريا شمال فلسطين من دون ان تثيروا المتاعب في وجهنا. انا لا اعني المنطقة المسيحية في لبنان فقط، ولكن اريد سوريا الداخل ايضاً: دمشق وحلب وحمص وحماه. لويد جورج: ليست لنا مصالح حيوية في هذه المناطق، ولن نعارضكم عندما تضعوها جميعها تحت حكم فرنسي موحد!”.
وانتهت المناقشة بين الرجلين لأن رئيس وزراء ايطاليا انضم اليهما في صالون السفارة الفرنسية. ولم يكن الشعب العربي في فلسطين مستعداً لما نزل عليه. كانت اجود اراضيه تنزع من ملكيته بالشراء او بالاغتصاب. وكانت موجات الهجرة تتدفق على ربوع وطنه ومستعمراتها الاستيطانية تقوم وتتوسع كل يوم. وكان ذلك يتم باساليب وسياسات وامتزج فيها العنف بالخديعة، والاغتصاب بالرشوة، بينما السلطة البريطانية القائمة بالانتداب تنفذ سياسة مرسومة لا تحيد عنها لأي سبب او اعتبار. وفي الواقع فان ما كان يجري في فلسطين تلك الايام كان نموذجاً كلاسيكياً للصدام بين عقليتين: عقلية الغرب المنظم والمصمم، وعقلية الشرق القدري والمستضعف.
وكانت عرائض الاسترحام هي الاسلوب الذي طرح نفسه في ذلك الوقت موجهة الى عصبة الأمم، او الى الحكومة البريطانية، او الى الحاكم العام البريطاني. وكان ذلك يتناسى ان هؤلاء جميعاً مسؤولون ومكلفون مهمة معينة هي تنفيذ وعد بلفور. ولعله مما يثير الاسى ان يقوم احد الآن بدراسة مضمون العرائض التي كانت تقدم سواء الى عصبة الأمم او الى الحكومة البريطانية او الى الحاكم العام البريطاني في فلسطين – من كل سكانها مسلمين كانوا ام مسيحيين. ومن عرائض المسلمين مثلاً فقد كانت العرائض العربية تشكو في الدرجة الاولى من:
– “ان المهاجرين اليهود متأثرون بالمبادئ البولشفية، فهم في معظمهم قادمون من روسيا، ولا هم لهم الا الترويج للفكر الشيوعي، وهم يطبقون تعاليمه في مستوطناتهم” (الكيبوتز). – “ان المهاجرين اليهود متعجرفون ويتعاملون مع السكان العرب باستعلاء وقسوة”.
– ” ان المستوطنين اليهود يتصرفون بطريقة اباحية، ويخرج الشبان والشابات منهم الى الشوارع بملابس “خارجة عن اللياقة” متأبطين بعضهم بعضاً ذراعاً بذراع، ينشدون الاغاني ويسلكون مسلكاً مخالفاً “لمبادئ التأدب والحشمة”.
– “ان الحياة في مستعمرات المستوطنين اليهود تتسم باباحية سافرة “يندى لها الجبين”. ومن عرائض المسيحيين مثلاً تجيء عريضة مقدم الى الجنرال واتسون الحاكم العام في فلسطين – يرد فيها ما نصه: “اننا قوم مطيعون لولي الامر، ومصالحنا لا تمتزج مع حكومة غير الحكومة البريطانية. ونحن اقنعنا الاهالي بأن حكومة بريطانيا العظمى هي افضل حكومة تنظر الى عمران بلدنا وترقية. ونحن نرى المزايا التي حصل عليها اليهود، ونأسف كلية لاحوالنا، ونبكي لحرماننا من مثلها، خصوصاً اننا قوم طائعون ومحبون لمن تولى امرنا”. وفي مرحلة لاحقة، مع اوائل الثلاثينات، ادرك الفلسطينيون ان عرائض الاسترحام لا تكفي فانشأوا ما سمي وقتها “المجلس الفلسطيني الاعلى” ليواجه المجلس الصهيوني العالمي.
لكن محاضر اجتماعات اللجنة التنفيذية العليا لهذا المجلس للعام 1933 لا تشير الى ان المجلس الفلسطيني الاعلى عثر بعد على صيغة ملائمة لمقاومة ما يجري على ارض فلسطين. وفي محاضر هذه اللجنة التنفيذية للعام 1933 ما يشير الى بحث يجري حول قيام بعض الاغنياء العرب، وبينهم لبنانيون وسوريون وفلسطينيون، ببيع اراضيهم للوكالة اليهودية في فلسطين ويسجل احد المحاضر مناقشات دارت على النحو الآتي:
السيد جمال الحسيني: “علمت ان عضواً من اعضاء اللجنة التنفيذية موجود بيننا الآن قابل المندوب السامي البريطاني ليحتج على بيع الاراضي لليهود. فرد عليه المندوب السامي قائلاً: “ان هناك رجالاً يمثلونكم يبيعون اراضيهم لليهود، فلماذا تحتج عندي انا؟”.
السيد عوني عبد الهادي: هذه الواقعة حدثت معي، وقلت للمندوب السامي “اعطونا المال واضمنوا لنا موافقة الحكومة الفرنسية ونحن نشتري كل اراضي باريس”. ورد على المندوب السامي بقوله “ان الفلاحين ليسوا هم الذين يبيعون الاراضي، وانما الذين يبيعونها هم الاثرياء”.
الشيخ صبري عابدين: اقترح اخراج من يبيع ارضه لليهود من حظيرة الدين الاسلامي، وانا مستعد لأن اثبت شرعياً ان من يبيع ارضه لليهود يحرم من حق الدفن في مقابر المسلمين ومن الصلاة عليه عندما يتوفى.
السيد عبد اللطيف صلاح: انا متحمس لهذا الاقتراح، واضيف اليه ان تعلن في المساجد في فلسطين وفي كل بلاد الاسلام ظلم بريطانيا لنا، والدعاء على الظالمين بأن يبتليهم الله بظالمين اشد منهم، ثم نطلب بعد ذلك من المسيحيين في البلاد المسيحية ان يقوموا بمثل ذلك في الكنائس. وانا ضامن ان حكومة الانتداب سوف تغير رأيها بعد ذلك”.
ومع مجيء عام 1936 كان الشعب الفلسطيني قد بدأ يقترب من حقائق العصر، فاذا نيران الثورة تندلع في فلسطين تحت قيادة مفتي القدس الحاج امين الحسيني. وكانت الشرارة التي اشعلت نيران الثورة هي مقتل فلسطيني قرب مستعمرة “بتاح تكفاه” يوم 16 ابريل (نيسان) 1936. وعلى الفور جرى تأليف لجان وطنية للمقاومة، ودعت كل الاحزاب الفلسطينية الى تنظيم اضراب عام، ثم تم تأليف لجنة عربية عليا للمقاومة اسندت رئاستها الى الحاج امين الحسيني مفتي القدس، ولم يقتصر الامر على الاضراب، وانما ظهرت عمليات مسلحة للمقاومة قادها الشيخ عز الدين القسام(3) الذي استشهد في معارك الثورة. وكانت الثورة مفاجأة قاسية للسلطة البريطانية في فلسطين، وكانت كذلك مفاجأة لحركة الاستيطان الصهيوني فيها. وعلى رغم تعزيزات عسكرية حاشدة اتت بها السلطات البريطانية من مصر ومالطا فان نيران الثورة كانت تنتشر كل يوم ولا تنحصر.
وقررت الحكومة البريطانية ان تبعث بلجنة تحقيق تتقصى اسباب الثورة. وجاءت اللجنة برئاسة اللورد بيل واصدرت توصية بتقسيم فلسطين دولة يهودية ودولة عربية يتم دمجها مع شرق الاردن. على ان يظل الانتداب البريطاني قائماً عبر الضفتين. ورفضت قيادة الثورة الفلسطينية اقتراح التقسيم، وطالبت بانشاء دولة فلسطينية واحدة مستقلة توفر الحماية والحقوق المشروعة لليهود وغيرهم من الاقليات. واستمرت الثورة تهز فلسطين لثلاث سنوات كاملة، وقدم الشعب الفلسطيني خمسة آلاف شهيد في معاركها. وكانت مما يلفت النظر في وقائع الثورة ان ثلاثة من ملوك العرب وامرائهم، وهم ملك السعودية وملك العراق وامير شرق الاردن – تدخلوا في مسارها لتوجيه نداء الى اللجنة العربية العليا لتوقف الاضراب العام حتى تعطى الحكومة البريطانية فرصة لاعادة تقويم الامور.
واستجابت اللجنة العربية العليا النداء، واوقفت الاضراب فعلاً، لكن الحكومة البريطانية لم تفعل شيئاً. وعادت نيران الثورة تتأجج مرة اخرى حتى اضطرت الحكومة البريطانية، بعد مؤتمر دولي عقد في لندن عام 1938 وشاركت فيه بعض الدول العربية وبينها مصر للمرة الاولى – الى اصدار كتاب ابيض عام 1939 يشرح تصورها لحل المشكلة الفلسطينية.و كان الحل الذي قدمه مالكولم ماكدونالد وزير المستعمرات البريطاني هو “استقلال مشروط لدولة فلسطينية بعد فترة انتقالية مدتها عشر سنين، مع السماح بدخول 000ر15 مهاجر يهودي كل سنة الى فلسطين لمدة خمس سنوات”.
وثارت ثائرة المنظمات اليهودية، وراحت كلها تكثف من عملها المسلح، كما ظهرت بينها فرق تطالب بشن الحرب الشاملة على العرب واقتلاع جذورهم اساساً من كل فلسطين. وكانت الاجواء الدولية ملبدة بالغيوم. ومرة اخرى يلفت النظر ان الحركة الصهيونية لم تتفاوض مع اصحاب البلد الاصليين، اي الفلسطينيين. كان ممثلو الحركة الصهيونية قد تفاوضوا مع بريطانيا في البداية: روتشيلد مع بالمرستون، ثم قاموا بنوع من التفاوض لصفقة شراء بلد بأكمله:
هيرتزل مع السلطان عبد الحميد. ثم عادوا للتفاوض مع بريطانيا في التمهيد لوعد بلفور: روتشيلد مع بلفور. ثم جربوا نوعاً من التفاوض مع الامراء الهاشميين: وايزمان مع فيصل. لكن التفاوض مع الفلسطينيين لم يكن وارداً على الاطلاق، وكانت محاولته اعترافاً بوجود “آخر” لا بد من انكار وجوده اساساً.
وبالنسبة الى مصر لم يكن عزلها او حجزها وراء سيناء او وراء قناة السويس يحتاج الى تفاوض معها، ولم تكن مصر مدركة ما يدبر لها، ولم تكن هناك مصلحة لأحد في لفت نظرها اليه حتى من باب دعوتها الى الحديث عنه – مجرد حديث، فضلاً عن ان يكون الحديث من باب التفاوض! الحلقة التالية: فاروق يفاوض اسرائيل عبر عشيقة! (3) قامت الكتائب التي تحمل اسمه بمعظم اعمال المقاومة الاسلامية في قطاع غزة ضد الاحتلال الاسرائيلي في النصف الاول من التسعينات اثناء وقائع “الانتفاضة”.