الرئيسية / مقالات / الغربة في الهوية

الغربة في الهوية

سمير عطاالله
النهار
05122018

خرج امين معلوف الى باريس من لبنان العام 1977 ومعه ثلاثة أطفال: رشدي وطارق وزياد. البكر على اسم الأب، طارق وزياد على اسم طارق بن زياد. رشدي المعلوف كان استاذاً للموسيقى الكلاسيكية، يعيش بين مفاتيح باخ وسوناتات بيتهوفن. جيل ينتمي الى سكينة الاستقرار وتداول الايام في الغبطة والهدوء. أي في يمين التصنيفات العقائدية. بِكره أمين، مثل كثيرين من ابناء البورجوازية اللبنانية في جمهورية الاستقلال، انتمى في معظمه الى اليسار والعروبة العاملة، مثل سمير فرنجية وفواز طرابلسي وكمال حمدان.

عندما وصل أمين الى باريس، وضعته المدينة فوراً امام سؤال الهوية: هل هو طالب العلوم الاقتصادية في اليسوعية؟ هل هو ابن رشدي المعلوف الذي قتل بقنبلة صوتية في القطاع اليساري من العاصمة التي تركها؟ هل هو تلميذ فولتير وموليير وبلزاك، الذين سوف يلجأ إلى لغتهم للتو، أم شعراء الجاهلية وجميع من تلاهم من العرب الذين أحبهم وحفظ قصائدهم وحفظ مكانتهم؟

بعد ان يصبح أحد كتّاب فرنسا ويُتَرجَم الى اربعين لغة، سوف يخبرنا أمين أنه باقة متجانسة ومتلازمة من كل هذه الهويات، ويصوغ تجربته في مؤلف رائع آخر، سماه “الهويات القاتلة”. وعلى نحو مناقض يشبه هذا السرد “صراع الحضارات” لصمويل هانتغتون. غير انهما يصلان في النهاية الى مفترق. معلوف، الشرقي، الذي لا يزال يحنّ الى بلاد صخرة طانيوس، لا يقبل اليأس ختاماً، بل يراهن على ان الختام مسك ولو بعد بحار من الدماء والفوضى. وهانتغتون، الغربي، الذي يؤرخ استناداً إلى الخوارزمي والمعادلات الجبرية. جميعها قواعد ومعادلات لا تعترف بذكريات الطفولة في عين القبو.

اتخذتُ أمين معلوف نموذجاً لحلقتنا، ليس بسبب شهرته، بل لأن هذا الجيل من صراع الهويات، أو البحث عنها، يمثل اكثرية كبرى الآن بين الشعوب والأمم. وتم التعارف على تسميته “الجيل الثالث”. فعندما عاد امين الى بيروت في وفد الرئيس جاك شيراك، كان العرض الوجودي واضحاً: شيراك يريد القول، انظروا اين تضع فرنسا ابناءكم، ولبنان يريد القول انظروا كيف يحلق ابناؤنا في سماء الاكاديمية.

إن كثيرين من الذين اطلقوا لحاهم على طراز الساحر تشي غيفارا، عادوا فاطلقوها على طريقة “رجال القاعدة”. وإلى الآن يقال لنا إن الضباط البعثيين الذين صرفهم الرقاص بول بريمر في العراق، هم الذين أسسوا داعش، متنقلين من تعاليم ميشال عفلق الى أوامر أيمن الظواهري.

امضى قريبي وصديقي الدكتور يوسف مقصود 60 عاماً في فلينت ميتشيغان، يحلم بالعودة ذات يوم الى بتدين اللقش. وعندما وصل كنا في استقباله في المطار. وطوال الطريق الى “البريستول”كان متلهفاً يريد ان يعرف ترتيبات الصعود الى بتدين غداً. وفي الغد كنا في الضيعة يتفقد بيت اهله ويزور الاحباء من رفاقه ويتبادل معهم ذكريات الساقية والعين والكروم. وعند الظهر انتهت الجولة وعدنا الى المنزل، فقال ضاحكاً: “قوم خال ننزل عَ بيروت. خلصت بتدين”.

لن يخطر لي أنني سوف أرى هذا المشهد الضيعوي البسيط عند إثنين من كبار كتاب القرن الماضي. يصف غبرييل غارسيا ماركيز عودته الى اركاتاكا بعد غياب طويل. جاء متلهفاً تسبقه مخيلته ويقضّه الحنين. ولما وصل وجد المدخل الترابي كما هو، وحجارة منثورة على الجانبين، وحشيشاً يابساً”. وكتب: “انتهى الامر. تحول كل شيء الى ادب”.

عشنا في أميركا في السبعينات مع مسلسل ساحر عن قصة العبودية بعنوان “جذور” للكاتب اليكس هيلي، ولم تكن تنتهي حلقة إلا ونغرق في البكاء حزناً على ما تعرض له “كونتا كونتيه” على يد “الرجل الابيض” وتوحشه. وفي كل حلقة كان يتهيأ لي أن 30 مليون اميركي اسود سوف ينزلون الى شوارع اميركا وساحاتها في الصباح لاعلان الثورة.

جاء كونتا كونتيه من قرية في غامبيا تدعى “جوفور” سكانها 75 نسمة. وصار يأتيها كل عام عشرون الف سائح. وعندما عاد هيلي نفسه الى القرية بعد 13 عاماً اختلطت عليه جذوره. تحولت جوفور الى قرية تستغل السياح وتطاردهم. واصبح رئيس البلدية رئيس شركة انتفاعية يحصر الجباية في نفسه. ثم يحدث لصاحب “جذور” شيء أفظع: تأمل في مرآة القارب النهري وجوه رفاقه ووجهه، واكتشف ان بشرته لم تعد سوداء، لقد اصبحت بنيّة. خلصت جوفور…

لم اقتنع مرة أن هناك هوية لبنانية. فالهوية شبه في الناس، لا حقيقة. وهويتنا تشبه كل شيء فينا. كل جذورنا وكل تعقيداتنا وكل مراحلنا. يترجل الجنين من الرحم وينصرف فوراً الى البحث عن الانتماء والنسب، ومن ثم الحزب أو الجمعية.

كان جدي تامر أحب افراد العائلة بعد أمي. وفي رفقته الممتعة الى الكروم كان يسند كل حكاية بمثل من لامية ابن الوردي. وما زلت احفظ لجدي مكانته. لكن الامثال التي أحبها اليوم آخَذها من “سهرة الامثال” لجورج شحادة. وفي اي حال، كان جدي يشبه أيضاً “مهاجر بريسبان” . لكنه لم يدرك ذلك أو لم يقرَّ به. فابن الوردي كان أحد أركان حياته مثل الكروم وجل بو عقل، ويخشى إن هو سقط أن يسقط عالمُه برمّته. هو عاد الى بتدين من فلينت ميتشيغان ليس زائراً، بل لتمضية السنين الأواخر بلا عقدة الغربة وبعيداً من دنيا الاحباء: لذلك، لم تخلص بتدين عنده. ظلت ملء عروقه.

عاتب أهل جوفور اليكس هيلي: لماذا تغيب عنا كل هذا الوقت؟ هل شيكاغو أغلى منا عندك؟ أم نيويورك؟ وسأل نفسه، ترى من أين يعرفون هذه الاسماء في قرية كونتا كونتيه؟

لكلمة “هوية” رنّة منفّرة في لبنان. فبسببها ذبحنا جيراننا السابقين. وملأنا الاقبية بالجثث. ولم نكن نعرف من معنى الهوية سوى دلالتها المحرِّضة على القتل، والقابلة به دون تردد. ولا تزال الهوية التي نحملها في جيوبنا أو في داخلنا مصدر رعب وخوف الى اليوم.

المناطق لها هوية، والطرقات لها هوية، والاحزاب لها هويات. والضحية لها اسم واحد هو لبنان، الذي كانت أهميته الكبرى كونه حديقة آراء.

أيّا يكن تعريفُ الهوية، فإن شرطها الأول هو الحرية، لأنها شرط الوجود الأول. فمن دونها يصدأ الفكر ويجبن الوجدان ويصبح الآخر هاجساً نتجنبه أو نخافه، فيما هو سبب من أسباب الحياة.

ليس في الدنيا شيء اسمه هوية. سار الألمان خلف هتلر صفاً واحداً باسم الرايش الثالث. لكن أولئك الجرمان اخذوا يفكرون في الانضمام الى السوفيات عندما أخذت النازية تتداعى. ولن تصدقوا أن أول مقاطعة فكرت في الانفصال وإقامة دولة في ركب موسكو كانت بافاريا، التي سوف تعود وتصبح موطن الحزب الديموقراطي المسيحي واليمين الرأسمالي.

كانت هناك الى ربع قرن مضى المانيتان يفصل بينهما جدار. الى الغرب منه الماني ليبرالي يركب “المرسيدس”، وإلى الشرق الماني شيوعي يركب “الترابانت” المصممة على شكل علبة كبريت. كلاهما من تاريخ واحد، وعرق واحد، وغوته واحد، وبيتهوفن واحد. ولكن بهويتين بعيدين مثل قطبين. ثم في اسبوع عادا هوية واحدة.

لماذا؟ لأن الدول وحدها تشكل مظلة الهويات. الاميركي عشرون هوية على الأقل وبضع لغات واعراق واجناس ومذاهب واديان، لكنهم جميعا أميركيون بالدولة.

في الصحافة ممنوع استخدام ادوات الجزم. لكننا لن نصل الى هوية واحدة لأننا لن نصل الى دولة واحدة. عندما ايقن كمال جنبلاط غلاظة هذا الجدار، صار يسافر الى الهند بحثاً عن القربى في مفهوم الوطن.

• تلقى اليوم في ندوة “صراع الهويات ومستقبل العالم العربي” بدعوة من رابطة اصدقاء كمال جنبلاط.

76 تعليق

  1. تعقيبات: 3decades

  2. تعقيبات: writing a masters dissertation

  3. تعقيبات: dissertation research and writing

  4. تعقيبات: dissertation meaning

  5. تعقيبات: uf dissertation award

  6. تعقيبات: dissertation help india

  7. تعقيبات: writing a dissertation literature review

  8. تعقيبات: dissertation help ireland editing

  9. تعقيبات: thesis defense

  10. تعقيبات: writing tutor

  11. تعقيبات: buy dissertation

  12. تعقيبات: cheap dissertation writing services

  13. تعقيبات: doctoral dissertation help history

  14. تعقيبات: casino online nj

  15. تعقيبات: star casino online

  16. تعقيبات: mohegan online casino

  17. تعقيبات: online casino minimum deposit

  18. تعقيبات: online casino sverige

  19. تعقيبات: resorts online casino nj

  20. تعقيبات: how to beat online casino slot machines

  21. تعقيبات: online casino paysafe

  22. تعقيبات: secure online casino

  23. تعقيبات: golden nugget online casino

  24. تعقيبات: online casino with free signup bonus real money usa no deposit

  25. تعقيبات: best no deposit bonus online casino

  26. تعقيبات: avira phantom vpn

  27. تعقيبات: best vpn for dark web

  28. تعقيبات: best gaming vpn

  29. تعقيبات: best vpn for pc

  30. تعقيبات: online free vpn

  31. تعقيبات: gay dating web sites denver. co

  32. تعقيبات: gay movie online dating

  33. تعقيبات: michael dinsmore gay dating

  34. تعقيبات: dating apps free

  35. تعقيبات: find my dating

  36. تعقيبات: free dating online chat

  37. تعقيبات: online dating sites free chatting

  38. تعقيبات: datijg websites

  39. تعقيبات: dating site for free

  40. تعقيبات: dating relationships

  41. تعقيبات: matchmaking services

  42. تعقيبات: single chat sites

  43. تعقيبات: mature nl lesbian

  44. تعقيبات: best dating online website

  45. تعقيبات: online casino greece

  46. تعقيبات: online casino app

  47. تعقيبات: gay bear chat

  48. تعقيبات: free ohio gay chat rooms

  49. تعقيبات: gay chat web cab room facebook

  50. تعقيبات: gay chat toms river nj

  51. تعقيبات: gay chat random sites

  52. تعقيبات: gay online webcam chat free

  53. تعقيبات: ontario calif gay chat room

  54. تعقيبات: chat gay grstis

  55. تعقيبات: gay phone chat free no cost

  56. تعقيبات: custom written college papers

  57. تعقيبات: college paper writing help

  58. تعقيبات: write my paper for cheap

  59. تعقيبات: paper writing service college

  60. تعقيبات: buy school papers

  61. تعقيبات: write my sociology paper

  62. تعقيبات: write my thesis paper

  63. تعقيبات: where to buy college papers

  64. تعقيبات: 3convivial

  65. تعقيبات: custom coursework writing

  66. تعقيبات: coursework sample of written work

  67. تعقيبات: custom coursework writing service

  68. تعقيبات: creative writing coursework ideas

  69. تعقيبات: coursework help university

  70. تعقيبات: senior dating sites

  71. تعقيبات: singles dating sites

  72. تعقيبات: matchmeetups dating site

  73. تعقيبات: 100% dating site

  74. تعقيبات: plenty of fish login

  75. تعقيبات: asian girl single

  76. تعقيبات: n dating site

اضف رد