عصر الغاز الطبيعي قد إنطلق على حساب تراجع هيمة النفط
الغاز بدل النفط
يقدر تقرير لوكالة الطاقة الدولية أن يرتفع نصيب الغاز والطاقة المتجددة من إجمالي المعروض العالمي من الطاقة من 36% حالياً إلى ما يقارب 54% بحلول عام 2040 في حال استمرت حكومات دول العالم في تبني سياسات اقتصادية تحافظ على البيئة. وما أصبح أكيداً ان عصر الغاز الطبيعي قد إنطلق على حساب تراجع هيمة النفط، في الوقت الذي تتجه فيه الدول نحو الطاقة المستدامة والبديلة وتركيزها ايضا على الغاز الطبيعي كمصدر طاقة أحفوري أقل ضررا بالبيئة من النفط، ضمن المساعي الدولية والاممية للتحول إلى الطاقة النظيفة. هذا التطور أكده المتحدثون خلال اسبوع البترول الدولي الذي استضافته العاصمة البريطانية لندن، حيث كشف بعض خبراء النفط والغاز عن إمكانية ان تشمل منظمة الدول المصدرة للنفط ًاوبيك في الفترة المقبلة، كبرى الدول المنتجة للغاز على رأسها روسيا، وربما بعض الدول العربية التي خطت خطوات مهمة في السنوات الاخيرة لدخول نادي كبرى الدول المنتجة للغاز.
(البلوكات النفطية البحرية اللبنانية (المصدر: هيئة إدارة قطاع البترول – وزارة الطاقة والمياه اللبنانية))
تغيرت طريقة تفكير العديد من كبرى شركات الطاقة العالمية في الفترة الاخيرة، ويصبح تفكيرها يصبح في صالح تعزيز الاستثمار في محطات تسييل الغاز الطبيعي، اي تحويله الى مادة سائلة. هذا واتجهت ايضا العديد من الدول الكبرى للتخلي عن المفاعلات النووية لتوليد الطاقة، وها هي تسعى لبناء معامل جديدة على الغاز الطبيعي لخفض التكاليف، والاهم خفض خطر حصول اي تسربات نووية شبيهة بكارثة فوكوشيما التي وقعت بعد زلزال اليابان في 11 آذار 2011 ضمن مفاعل فوكوشيما 1 النووي. حيث أدت مشاكل التبريد إلى ارتفاع في ضغط المفاعل، تبعتها مشكلة في التحكم بالتنفيس نتج عنها زيادة في النشاط الإشعاعي.
مكامن ثروات المتوسط
توالت اكتشافات مكامن الغاز في شرق البحر المتوسط خلال السنوات الاخيرة، ما حول أنظار كبرى الشركات العالمية، حكومية وخاصة، نحو هذه المنطقة من العالم. وها هو لبنان يوقع أول عقوده النفطية والغازية مع تحالف الشركات العالمية الذي يضم ًتوتال” الفرنسية و”نوفاتك” الروسية و”إيني” الايطالية، لتبدأ أعمالها خلال الاسابيع المقبلة على البلوكين رقم 4 و 9، استنادا الى خارطة الطريق التي وضعتها الحكومة اللبنانية، ووافقت على شروطها الشركات. وما هي ايام حتى خرجت إسرائيل مدعيةً ملكيتها حصة من ثروات البلوك 9 اللبناني، ما استدعى استنفارا لبنانيا رسميا وشعبيا، للدفاع عن ثروات البلاد. أما الخارجية الاميركية فسارعت للدخول على خط مفاوضات ترسيم الحدود البحرية اللبنانية لناحية فلسطين المحتلة.
فشل الوساطة الاميركية
سلسلة لقاءات عقدها مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد ساترفيلد خلال الايام الاخيرة ، فتنقل بين بيروت وتل ابيب عدة مرات. ولكن، أتت سلته فارغة. بالفعل، كانت نتائج مشاوراته غير مشجعة بحسب المعلومات. فالجانب الاسرائيلي أبلغ ساترفيلد قبوله خفض حصته من ثروات البلوك رقم 9 من 40% الى 25% على ان تكون الكمية المتبقية للبنان، وهذا ما رفضه لبنان، الذي يؤكد ان كامل البلوك يقع ضمن المياه اللبنانية الخالصة، كما أكد الجانب اللبناني موقفه الثابت بأن لا تنازل أو إعادة نظر في الملف، والمسألة محسومة ولا نقاش حول ملكية لبنان للبلوك رقم 9 . أما البحث، بالنسبة للبنان فيتركز على المنطقة التي سبق أن حصل عليها خلاف والتي تمتد على ما يقارب 860 كلم مربعاً ولا يقع ضمنها البلوك 9 وفق الخرائط اللبنانية. وللتكذير، في العام 2012، قام الوسيط الاميركي فريدريك هوف برسم ما يُعرف بـ”خط هوف” الذي يرسم الحدود البحرية بين لبنان ومياه فلسطين المحتلة، وكان أعطى لبنان الحق في استثمار 500 كلم مربع من مساحة 860 كلم وترك الـ360 كلم الباقية للتفاوض حولها والتي يؤكد لبنان انها أيضا ضمن مياهه الاقليمة. غادر ساترفيلد، مثلما أتى. لا حلول والازمة مستمرة. اقله بالنسبة لإلى الجانب الاسرائيلي، فلبنان، ملتزم مراحل خطته النفطية وعمل تحالف الشركات على البلوكين 4 و 9، بالتوازي، ينطلق خلال اسابيع من اليوم.
صراع قبرصي – تركي
الخلافات حول ثروات المتوسط لا تتوقف هنا. فطبول الحرب كادت تُقرع بين قبرص وتركيا، بعد ان منعت وما زالت تمنع بوارج حربية تركية سفينة ايطالية تعود لشركة “إيني” الايطالية من التنقيب عن الغاز قبالة الجزيرة، ما أدى إلى توقف الحفر على بعد 30 ميلا من موقع الحفر المستهدف، بعد ساعات قليلة من إعلان وزير الطاقة القبرصي جورج لاكوتريبيس أن “إيني” و”توتال”، اكتشفتا مخزوناً جوفياً كبيراً من الغاز في المياه القبرصية. هذا وأكدت “إيني” أن سفينتها أُمرت بالتوقف من قِبل بوارج تركية، الجمعة 9 شباط 2018، بحجة وجود نشاطات عسكرية في المنطقة المقصودة، وذلك بعد إبحارها للبدء باستكشاف البلوك 3 من المنطقة الاقتصادية الخالصة القبرصية.
هي المرة الأولى فى التاريخ الحديث التي تعطل فيها تركيا مرور سفينة أوروبية في البحر المتوسط. أمام هذه التطورات، وبلهجة قاسية ومرتفعة التبرة، خرج الرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادس ليؤكد أن عملية التنقيب عن الغاز قبالة ساحل الجزيرة المتوسطية ستستمر كما هو مخطط لها رغم معارضة تركيا وحكومة الجزء التركي من جزيرة قبرص غير المعترف بها دوليا. ولكن، أناستاسيادس سعى في الايام الماضية إلى كسب ود القبارصة الذين يعيشون في الجزء التركي من الجزيرة، بعد ان أكد ان أي ثروة محتملة قد تتوصل إليها عمليات التنقيب والاستكشاف في المياه القبرصية، سيتم تقاسمها بشكل عادل مع جميع المواطنين القبارصة بعد إعادة توحيد الجزيرة، ليتم إيداع عائدات الغاز المكتشف، في حال تحققت، في صندوق سيادي سيتم تأسيسه. لم يتوقف أناستاسيادس هنا، بل ذهب أبعد من ذلك مع طرحه مبادرة لإعادة استئناف محادثات السلام بين البلدين شرط أن تتوقف تركيا عن عرقلة التنقيب جنوب شرق قبرص بعد موافقة البرلمان.
تحذير أردوغان…
سارع صهر الرئيس التركي ووزير الطاقة والموارد الطبيعية برات ألبيراك إلى الرد على دعوة أناستاسيادس حول استئناف المفاوضات ليؤكد أن تركيا لن تسمح بأعمال حفر من طرف واحد. أما الزعيم القبرصى التركي مصطفى اكينجى، فاتهم القبارصة اليونانيين بالتصرف في موارد الجزيرة وكأنها ملك لهم فقط، وقال إن القبارصة الأتراك سيطلقون بحثا عن الغاز بالتعاون مع تركيا. هذه التطورات تُسجل بعد ايام قليلة من تحذير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الشركات النفطية الأجنبية من مغبة “تخطي الحدود” في البحر المتوسط. وقال أردوغان في خطاب عبر التلفزيون: “لا تظنوا أننا تجاهلنا المحاولات الانتهازية للتنقيب عن الغاز الطبيعي في مياه قبرص وسواحل بحر إيجة. نحن نحذر من يتخطون الحدود، من الحسابات الخاطئة في قبرص وبحر إيجة”. وشبه أردوغان ردَّ فعل تركيا حول هذه المسألة بعملياتها العسكرية في شمال سوريا، حيث تعتبر أنقرة أنها تخوض معركة ضد جماعات إرهابية. ورغم هذه التحذيرات، أعلن رئيس مجموعة “ايني” كلاوديو ديسكالزي ان الوضع في المياه الاقليمية القبرصية هادئ والمجموعة لن تغادر الجزيرة المتوسطية. وقال ديسكالزي “اعتدنا الدعاوى القضائية. لم نترك ليبيا او اي دولة أخرى حيث كانت هناك اوضاع معقدة. هذا الأمر آخر ما يقلقني. نحن مطمئنون تماما”.
انقسمت قبرص إلى قبارصة يونانيين في الجنوب معترف بهم دوليا وشمال انفصالي للقبارصة الأتراك في العام 1974، عندما اجتاحت تركيا الجزيرة نتيجة انقلاب نفذه موالون للوحدة مع اليونان. وتعترف فقط تركيا باستقلال الشطر القبرصي التركي، وتحتفظ بأكثر من 35 ألف جندي في الشمال، في الوقت الذي لا يعترف فيه المجتمع الدولي بحكومة قبرص التركية. واليوم، تتنازع قبرص وتركيا حقوق استثمار مخزونات الغاز في شرق المتوسط، حيث تتشدد أنقرة في الدفاع عن حق القبارصة الأتراك بحصة من الاستثمارات. ويشكل الخلاف بين أنقرة ونيقوسيا حول الموارد الطبيعية في البحر المتوسط، عاملاً آخر يزيد في تعقيد جهود إعادة توحيد الجزيرة، بعد انهيار المفاوضات الأخيرة التي أُجريت العام 2017 لحل النزاع، المستمر منذ 44 عاماً.
هذه الازمة استدعت تدخلات اممية ودولية، فخرج رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك ليتصل بالرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادس، كما دعا تركيا إلى “تفادي التهديدات أو التحركات ضد أي عضو في الاتحاد الأوروبي. أما السفيرة الأميركية لدى قبرص فأكدت بدورها بأن واشنطن تؤيد بشدة حق الحكومة القبرصية في استكشاف مواردها البحرية واستغلالها.
مواجهة مفتوحة!
ومن أهم التقارير التي خرجت خلال الايام الماضية، ما صدر عن مركز “جيوبوليتيكال فيوتشرز” الأميركي للأبحاث الجيوسياسية ، من أن احتدام الازمة “الغازية” بين أنقرة من جانب وكل من نيقوسيا والقاهرة ومصر من جانب آخر قد يكون نقطة انطلاق لصراع أكببر بين قوى أوروبية وتركيا. ولكن، رغم ان البحرية الإيطالية قررت ارسال واحدة من فرقاطاتها العسكرية إلى المنطقة المتنازع عليها، لكن قائدها قد أمر بتفادي المواجهة المباشرة مع السفن التركية التي تعرقل عمليات التنقيب للشركة الإيطالية. ولفت المركز إلى أن عرقلة مصالح مصر وقبرص واليونان، من قبل تركيا يستدعي انتباه الحكومات الأخرى، مؤكدا ان تطور المواجهة مرهون بمواقف تركيا، فضلًا عن حاجة إيطاليا وأوروبا الغربية في الحفاظ على وجودها في شرق المتوسط، ومع ذلك، من غير المرجح أن تؤدي المواجهة الحالية إلى صراع وشيك بين تركيا وأوروبا الغربية. وبدلا من ذلك، ستستخدم تركيا هذه المواجهة للحصول على تنازلات سياسية واقتصادية من قبرص.
الجزء الثاني ينشر غداً.