الرئيسية / home slide / الصين هنا، والصين هناك، وهنالك أيضاً

الصين هنا، والصين هناك، وهنالك أيضاً

29-03-2023 | 00:40 المصدر: “النهار”

سمير عطالله

سمير عطالله

دمى خشبية تصوّر الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في محل لبيع الهدايا في وسط موسكو (أ ف ب).  ​

دمى خشبية تصوّر الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في محل لبيع الهدايا في وسط موسكو (أ ف ب). ​

يوم دخل جيلنا معرفة العالم، كانت #الصين في آخره، بكل المعاني والمراتب. بلد يعاني من النقص في كل شيء، ويتمتع بفائض واحد، هو المخلوقات التي تأتي الى الأرض ولا عمل لها، ولا غذاء، ولا علاج إلّا الإبر. ولم يعرف ماو تسي تونغ كيف ينظّم هذا الكابوس البشري المتعاظم، فاختار النظام الشيوعي، ولكن على طريقة الحكماء السابقين، واختار لنفسه صفات وصلاحيات الامبراطور، وأضاف إلى السور الحجري العظيم، السور النفسي المطْبق. ثمة مليار بشري قد يخرجون على النظام في أي لحظة.

كانت الصين “الشعبية” دولة كبرى فقط في المساحة والخلائق. وحتى مقعدها في الأمم المتحدة كانت تشغله الصين “الوطنية” وحكومة تشان كاي تشك “الألعوبة” الاميركية. كان عداؤها مع الامبريالية الاميركية عظيماً، وأعظم منه العداء “للإنحراف” السوفياتي، الذي ضم جميع الدول الشيوعية في معسكره، وترك لبكين، البانيا والرفيق الزعيم أنور خوجا.

حكم الى جانب ماو رفيق قادم من عائلة ميسورة، يتمتع بمواهب ادارية خارقة، يدعى شو آن لاي. تساقط الكثيرون من الرفاق من حول ماو، وظل شو آن لاي واقفاً. وكان رؤساء الدولة في نفوذ رئيس مخفر، أو رئيس خليّة. الصين كانت التشرمان ماو.

بعد وفاته اوائل 1976 (22 كانون الثاني/ يناير) كان لا بد أن تنقلب، وأن ينقلب معها العالم. أُعجِب زعيمها الجديد دنغ كسياو بنغ بتجربة ساحر صيني آخر يدعى لي كوان يو، ومثل زميله في الاستعمار والحرية، جواهر لال نهرو. كان كوان يسارياً من طلاب اوكسفورد. ما بين التزمّت اليساري والمبادرة الرأسمالية حوَّل كوان جزيرته الصغيرة سنغافورة من بلد يشرب اهله من مياه المجارير الى أعلى دخل فردي في العالم. لم يجد كسياو بنغ أي حرج في طلب المساعدة من الصيني الصغير. اعقل مثلي، قال كوان لي: دعوة الانضباط للحكم والحرية للرأسمال. منذ ذلك اليوم بدأت الصين “المسيرة الطويلة الجديدة”، السباق مع الغرب لأن تحتل صدارة العالم الاقتصادي.

لكن المارد الدؤوب حرص على البقاء خارج السباق السياسي. مكلف وسخيف ولا معنى له في دنيا النفوذ. وسوف يأتي يوم تتغير المراتب والمواقع من تلقاء نفسها. في غضون ذلك، مضت الصين تتقدم وتقيم لنفسها قواعد صناعية وتجارية في كل مكان، لكن من دون التدخل في شؤون أحد. وكانوا يعملون في الغابات، ولا يظهرون في العواصم، ولا يطلبون بدلاً لقاء مساعداتهم، ولا ينغّصون حياة الشعوب بالدسائس والسخافات. ازدهرْ ودع الآخرين يزدهرون، وليحكم الرفيق “شي” الى أجمل وأهنأ وأهدأ الابديات.

بعدما كان بلد المليار ونصف المليار يحاول اخفاء مظاهر الفقر، صار لديه مليار انسان يتمتعون بالكفاية. وصار اغنياؤه في الاسطورة. وحلّ “شي جي بنغ” محل “ماو” الى الأبد من دون كتاب أحمر. وفيما تربعت الصين في الموقع الاقتصادي الثاني لا تزال حليفتها ال#روسيا في المرتبة السابعة بعدها.

ثم فجأة حدث شيء مذهل في السياسة الدولية: الرئيس شي الى جانب الأمير محمد بن سلمان في الرياض، في احتفال لا سابق له. زعيم اكبر حزب شيوعي في العالم ضيفاً على صاحب اهم تجربة حداثية في ديار السلام. وفيما راح المحللون يبحثون في أبعاد المفاجأة، اعلنت بكين مفاجأة أول عودة لها الى عالم السياسة: في ثقة مطلقة بالنفس أكدت انها تضمن عودة العلاقات الطبيعية بين #السعودية وايران.

هل هذا ممكن؟ وماذا عن جولات المسيّرات الايرانية في مصافي ارامكو ومطار نجران وتوترات المنطقة برمّتها؟ لو لم يكن الرئيس شي واثقاً من نفسه لما عرض على الرياض التوسط. ولئن صعب على العالم ان يصدق، فإنما عملاً بقول ميكيافيللي، إنه من الصعب التكهن بالصحو في زمن العواصف.

على طريقة محمد بن سلمان، كرّت المتغيرات سريعة. المحادثات على المستوى التقني تنتقل الى مستوى وزراء الخارجية، والملك سلمان بن عبد العزيز يوجه الدعوة للرئيس الايراني، وايران بدورها تبدأ بإزاحة المتشددين من المراكز الأساسية، وتعدّل تعديلاً واضحاً لغة البيانات الرسمية. ومن الوساطة بين الرياض وطهران، الى مفاجأة أخرى: الوساطة بين موسكو وكييف، ومن ضمنها دور سعودي، ضمن هذه الحالة العالمية من السعي الى بسط الانفراج في كل مكان.

امام هذه المستجدات المذهلات، كان لا بد لهذا البلد الحزين ان يطرح سؤاله: ونحن؟ هل نحن قبل اليمن أم بعدها؟ الثابت أننا قبل افغانستان، على مقياس السعادة الأممي. لكن هذا التصنيف كان قائماً قبل النزاع على التوقيت العالمي: غرينتش أم السراي؟ الآن حذفنا الترتيب مع تورا بورا. كيت، يا سعادة الملا عمر ايه، والله كيت. ولا تقدّم على جنابكم، لا في السعادة ولا في التعاسة ولا في البؤس.

وشكراً للذين يعدّون المؤشرات والذين، برغم كل شيء، لا يزالون يحسبوننا على خانة الدول. ذات زمن كان اهم طبيب عند ماو تسي تونغ لبناني من حمانا يدعى جورج حاتم، الذي عُرف باسمه الصيني (ما هايدي). وكان لنا في اميركا اشهر طبيب قلب ويدعى مايك دبغي، وقد اجرى عملية قلب مفتوح في الكرملين لبوريس يلتسن. وكان لنا كوميدي مضحك أسس مستشفى سانت جود (مار لابا) أهم مؤسسة لسرطان الاطفال في العالم. وأما عن علاقتنا بالنظام الأممي والتوقيت العالمي فقد شارك شارل مالك في وضع شرعة حقوق الإنسان.

الآن نحن على خريطة الأمم كبقايا دولة مفككة، في ما كان يسميه عمّنا الجاحظ التقعير، أي قعر القعر، مفلسون، ومنهمكون في نهب ما تبقى، ونقف جميعاً في صدر سيارة الاسعاف الدولية، لمنعها من الدخول، لأنها إذا دخلت سوف ترى الهيكل العظمي يحاول الهرب… إلى أيّ مكان.