
- سمير عطاالله
- 17 نيسان 2019 | 00:45
- النهار
الإنسان ضعيف غريزياً أمام الصورة. لذلك، قال الشاعر، الأذن تعشق قبل العين احيانا، لا غالباً ولا دائماً. ويقتضي أن يكون الصوت المعشوق كمثل صوت اودري هيبورن، رأيتها أو لم ترها. لم يستطع الراديو أن يهزم الصحافة المكتوبة، بل بقي لعقود مكملاً لها. فقد كان في الغالب جريدة الذين لا يقرأون. وطغى على افئدة العامة. لكنه لم يسيطر على عقول النُخب. ورافق الناس الى الحقول والمصانع بعد اختراع الترانزيستور، لكنه ظل محدود الانتشار. فلم يكن في امكان الجميع اقتناؤه. ومنذ الحرب العالمية الثانية لعب دوراً في عمليات التمويه أو رفع المعنويات أو الأيهام. لكن مراسليه كانوا قليلي العدد، ونجومه أيضاً. فقد كان يخاطب كل الحواس، إلّا أكثرها نبلاً: البصر.
وفي موازاته، تطورت الصحافة المكتوبة على نحو مذهل. صارت الجرائد تخرج بالالوان بآلاف النسخ في الساعة الواحدة، مثل مصانع السجائر. ولحق بها المعلنون. ولم تعد المجلات تُرسم بالتصاوير بسلسلة روايات تشارلز ديكنز، أو دوستويفسكي، التي ينتظرها القراء على مداخل القرى، بل اصبحت مصقولة الورق، ثرية التنوع، ومنها مجلات الاختصاص الكبير، في العلوم والطب والفكر.
ازدهرت الصحافة المكتوبة وظلت الصحافة الاذاعية في المرتبة الثانية. لكن غيَّر التلفزيون كل معالم الصحافة المألوفة منذ نحو ثلاثة قرون. لم يعد “فليت ستريت” هو عنوان المهنة الرمزي. ولم يعد كتّاب “التايمس” وحدهم الخبر اليقين. الآن أصبح أشهر وجه في اميركا، وجه مذيع نشرة السابعة، والتر كرونكايت. والنبأ الذي لم يذعه كرونكايت لم يحدث. ومن اجل أن تضفي زوجة ليندون جونسون على زوجها في وفاته، احتراماً افتقده في حياته، اتصلت شخصياً بملك الساعة السابعة قائلة: والتر، هل لك أن تنعى ليندون، لقد توفي قبل دقائق!
عندما كنت في أميركا وكندا، كانت أكرم أوقات النهار، فترة الأخبار مع كرونكايت. الحدث معه كان مختلفاً. الكلمة كانت الثقة والصدق. هيبة ومحبة. موضوعية فوق قدرة الصحافيين. فلما تقاعد مبكراً، وغاب صوته ووجهه عن أمسيات الناس، كانت تلك نهاية عصر تلفزيوني كامل. خرج غوته، ودخل مكانه مجموعة من الشعراء الجيدين. إنما بلا اسماء. لم تعد السابعة طقساً. ولا ساعة نبيلة.
من عصر نشرة الاخبار الى عصر الحدث. من مبنى قديم في أتلانتا أطلق تِد تيرنر صندوق فرجة جديدا، اسمه سي. ان. ان. وسوف تراه في كل مكان من العالم. وأينما كنت، في سري لانكا أو نيويورك أو دوسلدورف، يقدم لك الفندق النبأ من مكان الانفجار. أو العرس. أو جسر الكسندر، حيث اعطي مقتل الاميرة ديانا، تغطية مثل اعلان الحرب الثالثة. أنهت السي. ان. ان الزمن الاذاعي وتركته للـ اف. ام. المحلية واغاني “الاولديز”. وأصبح الراديو الثابت في المنازل قطعة من الموبيليا الاثرية، ينظف عنها الغبار إسوة بالكومودينا والدرسوار.
لقد اجتمع الصوت والصورة والقمر الصناعي. جاءت كريستيان أمانبور من ايران الى لندن تطلب عملاً بعشرة آلاف جنيه في السنة. وبعد سنوات قليلة كانت السي. ان. ان. تعطيها ستة ملايين دولار. الآن لا أعرف كم مليوناً تتقاضى. قلدت البي. بي. سي المحافظة، الاسلوب الاميركي الطاغي والمغامر. وتبعها الجميع: آخر لغات فرانس 24 اليوم، هي الاسبانية من بوغوتا، ويدير جميع هذه الفروع، مارك الياس سيقلي، من المية ومية.
لكن التلفزيون لم يدفع الصحافة المكتوبة عن الساحة، بقدر ما حاشرها. التغير الأكبر كان مع اختراعات سحرية لم تخطر لجول فيرن أو الدوس هكسلي: الانترنت وما تفرع عنها. وما كان يعرف بالخيال العلمي المسلي ولا يصدّق، اصبح لا يرحم، والمشاهد، مثل سائر مواطنيه على الكوكب، لا يملك الوقت للتجارب. هذا زمن “البراندنغ” الذي كنا نسميه في أيامنا، “الماركة” أو “الاتيكيت”: ديور، أو لا ديور. لانفان، أو مهارات برج حمود في تقليد كل شيء. تايوان، على الدورة.
سجل لبنان تقدمه في التلفزيون كما سجل رياداته في الصحافة المكتوبة من قبل. وكان أول من التقط اشارات المستقبل كالعادة، ذلك الرائي العجيب غسان تويني. وأنزل عن كتفه حقيبة الوزارة ومهرجان الطابق التاسع، لكي ينضم الى تلفزيون لبنان بصفة محاور، يطرح الاسئلة، لا الافكار. لكنه كان أكثر من أن تتحمله الوصاية حتى بهذه الصفة. لقد كان مرئياً مثله في افتتاحية الإثنين.
تعبت الصحافة في لبنان، كما تعب لبنان. وانتقل الاعلان الى دبي. وفقد البلد وهجه الثقافي مع خفوت جميع وهجه الآخر. وخلال أشهر أقفلت الزميلة الكبرى “السفير”، التي كانت جريدة اليسار، قرّاءً وكتّابا، وتبعتها “دار الصياد”، طاوية معها المجد الذي اعطاه سعيد فريحة لعبقريات الايتام وانتصار الظرف.
لم تكن المحطات التلفزيونية أقل نجاحاً. سرعان ما وجدت لنفسها مكاناً الى جانب الشبكات العربية الكبرى، على رغم الافتقار الى الاعلان. ومثل الصحف، عكست التحولات والتيارات العربية. وتقدمت الصحافة في التأثير على الرأي العام، فالأثير يدخل البيوت مع الأثير. ومعها تسرعت ايضاً وتيرة التفاعل. وكما في تنافس الصحافة المكتوبة، تنافست لعبة الصوت والضوء. ونجح مبدعون كثيرون في إنشاء عدد من البيوت التلفزيونية الناجحة، بينها MTV. ويؤسف ما أشيع اخيراً عن خلاف ضمن عائلة المر، التي اسست وتملك هذه المؤسسة العالية المهنية. وفي مثل هذا المناخ الملوث، تكثر شماتة الصغار ومتفلتي القواعد والأعراف. لم اتشرف بمعرفة أحد من آل المر. لكن، كلبناني من أصل هذه المهنة، احب ان الفتهم الى ان MTV لم تعد مُلكاً عائلياً. إنها جزء من حياة الناس ومن الجسم الصحافي اللبناني. وهي تملك صك التأسيس، لكنها لا تملك حق التصرف بما اصبحت عليه. هي مالكة للأسهم، لكنها مدينة ومرهونة عند الناس وجمهورها وموظفيها وعمالها، وكل من ساهم في بنائها.
لا أدري من ينتصر ومن ينكسر في المصالحة بين أفراد العائلة، إذا ما كان التقاء العائلات المختلفة، انكساراً أوانتصاراً. ليس مسموحاً المضي في الخلاف. العناد ليس من صفة العاقلين والاوادم.