سمير عطاالله
النهار
25042018
يا أبي دع وطني يصحو…
طاغور
في “الغارديان” الاسبوع الماضي تفاصيل مروعة ومذهلة عن طائرة “بوينغ” في رحلة فوق التكساس انفجر محركها فأصابت شظاياه إحدى النوافذ، فابتلع الفراغ السيدة الجالسة الى جانبها. لكن الركاب تمسكوا بها وراحوا يشدونها إلى الداخل إلى أن نجحوا. فتولت العناية بها ممرضة متقاعدة بين المسافرين. في هذه الاثناء، ومنذ الثانية الأولى للأنفجار، بدأ “الطيار” بالهبوط سريعا نحو اقرب مطار، مخاطباً برج المراقبة في هدوء كلّي، فيما اصوات الركاب الملتاعين تتعالى.
هبطت الطائرة ممزقة والركاب سالمين، إلا جريحة النافذة. أثار فضولي أن أعرف اسم الطيار، لأن في لغتنا لا وجود ل،”طيارة” إلا الطائرة نفسها. ازددت ذهولاً. فالإسم هو “تامي”. ونحن، غنَّت ديبي رينولدز لجيلنا في سينما “دنيا”: “شجر الحور يغني، تامي واقعة في الحب، تامي، تامي”. فهل يُعقل ان البطل امرأة؟ نعم يا سيدنا. والسيدة تامي كانت “طيارة” حربية في “المارينز” قبل ان تنتقل الى الطيران المدني. وطوبى للنساء على تلك الرحلة فوق التكساس: المرأة المصابة، والممرضة التي أدت عملها، فيما الطائرة تنحدر بسرعة السقوط الحُر. و “تامي”. الكابتن تامي.
الموضوع الثاني كان التأبين الذي نشرته “النيويورك تايمس” يوم الخميس للسيدة بربارة بوش، زوجة الرئيس الأب، وأم الرئيس الإبن. هل هذه أهميتها؟ لا. هذه صفتها الاخبارية. أما أهمية بربارة بوش فكان دورها في الحقوق المدنية ودعم حركة السود. وهي المرأة التي قالت عندما ترشح ابنها الثاني “جب” للرئاسة: “لماذا بوش آخر؟ هل عدم الاميركيون مؤهلين من خارج هذه العائلة”؟. الرحمة لك مسز “ب.ب” بربارة بوش.
تزين المرأة عالم الرجل وترفقه بعقاقير الشجاعة. وتضفي عليه غالباً التمسك بالقيَم التي يرمدِّها بلا حساب. وهو لم يكف عن حرمانها وازدرائها واضطهادها باعتبارها مجرد سلعة، أو قطعة من لحم. رماها بالجرم منذ الخليقة، والصق بها اللعنة، طاف هو في الأرض يوزع خيراتها ورحمات السماء: مرة تحت اسم هولاكو. مرة جنكيز. مرة ستالين. مرة هتلر. وهي، مرة جاندارك. مرة الأم تيريزا. مرة مدام كوري. وإذا ما خطر لها ان تصبح انديرا غاندي أو بنازير بوتو، اغتالها.
تجنبت المرأة السياسة في لبنان لأنها ناد مغلق ومَفسَدة مفتوحة. جلبو تحتاج الى الكثير من البهلوانيات، وليس من شروطها النزاهة أو الترفع. لذلك، ظلت الحلبة منذ البداية حكراً على ذوي القلوب الخشنة. وما من بركة في الأفق. طبقة قاسية تغرز نهمها في جسد لبنان وفي رغيف مواطنيه.
كانت علياء الصلح في مقام ألق رجل من فئة الكبار، لكنها لم تعثر على أكثر من مكان لافتتاحية في صدر “النهار”. لم يكن أحد يطيق امرأة على مثل هذا القدر من الحرية، وعلى مثل هذا القدر من الحقيقة، وعلى مثل هذه الروعة من الحضور والفكر.
مبادرة طيبة وأمر حسن ان تلتفت المرأة أخيراً الى الحق الأول بين حقوقها. قالت الثورة الفرنسية للمواطن، إنه يُخلق متساوياً، ويبقى كذلك. المساواة ولادة، لا منَّة. ولا منّة في الشعوب إلا إذا كانت بدائية. أما في الشرع الإنساني، فلا يحق للأقوى ان يسرق الضعيف، ثم يمنّنه بالفتات الذي يقع فقط خطأ تحت المائدة، أو تحت اقدام الحاشية والزبانية.
“الحياة وقفة عز”، كما هي أجمل أقوال سعادة وأنبلها، لأنه خشي على أمّته ان تغرق في دناءة المنّة وهمجية التعالي. ولقد أدت الخفة الطفولية في الغطرسة والسخف الى 1860. وربما بعد كل هذه السنين، آن لنا ان نتعلم اللغة التي لا تهين أحداً في كرامته وحقه ووجوده.
سوف تفرض المرأة على مجالس السياسة محاسن السلوك وحسن المشاعر، وترفع مستوى النقاش، وترسّخ صدق الخطاب والعمل. أكتب ذلك وأنا اتأمل في تجربة بهية الحريري يوم كانت شقيقة فرحة، ويوم صارت شقيقة ثكلى، ويوم مارست السياسة والوطنية والعمل باسمها الشخصي في البرلمان، وفي اللجان، وفي عواصف صيدا باحيائها القديمة أو تلالها الحديثة.
كم سرَّنا، نحن في الجنوب، أن تكون سيدتان على لائحة واحدة: الست بهية من صيدا، والاستاذة انجيل خوند من صيدون، الساحل المحافظ والجبل الليبيرالي وما يمثلانه معاً من خليط غني ومتجانس ومستقبلي ووطني، بالمعنى الحقيقي البسيط، وليس بالمعنى العنصري الفارغ.
الآن نضيف الى هذا النسيج طائفة المرأة المنخرطة في العمل السياسي وحقوق الناس جميعاً، والرجل بينهم اولاً. فهو مثل المرأة بلا حقوق وبلا مستقبل وبلا استقرار، ينام على خوف ويقوم على قلق.
لم يخاطب روبسبيير الفرنسيين بـ”أيها السيدات والسادة”، “ناس”، خاطبهم، من دون أيها. شعب. احباء. تذكروا انه من دون المساواة، الحرية كلمة خاوية. الغطرسة استبداد واستعباد. وكم من خلل سوف يصحح إذا اعطيت المرأة حقها في الرفع من شأن العمل السياسي. و”النهار” تقدم مناضلتين للمجتمع المدني الذي كان غسان تويني احد مؤسسيه، وجبران تويني أحد شهدائه: ميشيل تويني وجمانة حداد.
وفي التجربة الحزبية تقدم ستريدا جعجع مثالاً باهراً. ولا أريد ان تمضي هذه المناسبة الاختبارية من غير أن أعلن أمراً بالغ الشخصية: المصالحة مع “القوات اللبنانية” بعد الغربة القائمة بيننا منذ لحظة ولادتها. لا يمكن ولا يجوز ان يمر هذا الموقف ضد سقط الفساد، من دون واجب التحية والتقدير. اخجلتنا “القوات”، نحن الذين كابرنا في الاعتراف بها أو التصالح مع ولاداتها بعد الحرب.
الصمود في وجه الفساد في لبنان ليس بطولة، بل شهامة.تلتقي “القوات” من داخل الحكومة، و “الكتائب” من خارجها، في هذه العودة الى الصفوة اللبنانية. وليست سهلة مهمة سامي الجميل في اعادة بناء حزب الطبقة المتوسطة والمجتمع العامل في وجه هذا الطغيان المتعاضد من شبكات الرساميل السافرة.
لم يترك “القانون” مكاناً أو فرصة للمستقلين. فرض علينا تعابير طائفية نابية. ولعل الاحزاب المسيحية المستضعفة تنجح في ايقاظ المنحدرين والباحثين عن عز الظهيرة الساعة الرابعة عشرة.
هذه الآن مهمتنا وواجبنا وحدنا، أن نستضيء بضميرنا ونحن نبحث عن مندوبينا الى الندوة أو البرلمان أو الـ “كونفانسيون” بلغة روبسبيير، هذه فرصة لاستعادة اللحمة الطبيعية بين الناس والغاء هذا الفحش الطبقي والفئوي الذي أودى بنا في الماضي الى جحيم لم نخرج منه حتى اليوم.
لا أدري من ابتدع عبارة “الصوت التفضيلي” لزيادة الفصل بين الناس وترسيخ الزهو الباطل وتأجيج صراع الديوك وغريزة الانتصار بالمناقير. نحن، الناخبون، مع الصوت الافضل. مع القلب الأفضل والعقل الأفضل والضمير الأفضل، ومع رفاق الدرب الطويل. مع الذين تعد سيرتهم بمستقبلهم ومستقبلنا ومستقبل لبنان، لأنه سوف يبقى مهما تكاثرت عليه عناصر الزوال، ومظاهر النفوس الرخوة.
ليس صعباً مرة ان نفكر بضمائرنا. فكروا في اولادكم، لا في المفرقعات التي ستفجر ليلة النتائج.