
مالك التريكي
Mar 24, 2018
الشرق الأوسط
ولأن الصحافة الورقية فن وصناعة، فقد قررت الجريدة الخروج إلى القرّاء منذ 12 من هذا الشهر بتصميم جديد ومظهر أكثر جاذبية شمل صدر الصفحة الأولى والاسم والتفاصيل، بما في ذلك صورة تمثال إيروس الشهير الذي استبدل الحمرة القانية بالسواد الكلاسيكي. وإيروس من أشهر التماثيل في لندن، التي حكمت إيفننغ ستاندرد بأنها «أهم مدينة على وجه الأرض». حكم لا يستدعي اختلافا ولا اتفاقا. وإنما هو مجرد تعبير عن التزام عاطفي مفهوم لأن الجريدة لندنية وجمهورها لندني. وقد ختمت تقديمها المقتضب لهذه اللمسات التجديدية بالمسك عندما قالت «إننا لفخورون أن نكون، أكثر من أي وقت مضى، جزء لا يتجزأ من حياة قرائنا».
حقيقة أساسية ولكنها شبه منسية: وهي أن الجريدة المحبوبة رافد حيوي في مجرى حياة قارئها. ومن الشواهد الكثيرة على ذلك، رغم التراجع المخيف في توزيع الجرائد في البلادالعربية ورغم فداحة ضعف إقبال العرب علىالقراءة عموما، أن جريدة «القدس العربي»، على سبيل المثال، تحظى بجمهور معتبر من القرّاء الأوفياء منذ ثلاثة عقود، وأن بعضهم قد مضى في حبها (مثلما يتبين من بعض التعليقات) إلى حد الغلوّ. ولكنه غلو من الجنس النادر المحبّب، نظرا إلى أن دهشة التفزيون لا تزال مالكة على معظم الكبار أمرهم، وان عوالم الانترنت واليوتيوب المتناسلة المتناسخة قد استلبت وجدان الشباب.
ولأن المسألة تستحوذ على اهتمامي، فقد وطنت العزم أثناء زيارات العمل إلى مختلف البلاد العربية في العامين الماضيين أن ألاحظ مدى إقبال مرتادي المقاهي، سواء وسط العواصم والمدن أم داخل الفنادق، على قراءة الجرائد. وكانت النتيجة المفزعة أني لم أشاهد طيلة عامين أي عربي يقرأ جريدة في أي مقهى لا في لبنان، ولا الأردن، ولا تونس، ولا بلدان الخليج الخ. عامان كاملان لم أر أثناءهما أي عربي جالسا في المقهى يقرأ الجريدة إلا مرتين يتيمتين في المغرب. هذا بينما كان الذهاب إلى المقهى، حتى عهد غير بعيد، إنما يعني قراءة الجريدة ولقاء الأصدقاء.
ما لاحظته طيلة عامين هو أن ما يفعله معظم مرتادي المقاهي العرب (مع تدخين النرجيلة) هوالتحديق الطويل في شاشة الموبايل. ولا فارق بين أن يكون الشخص وحيدا أو يكون في جمع. يمكن أن يكون الجمع من أربعة أشخاص أو أكثر، ومع ذلك فكلّ يحملق في شاشة موبايله. وإذا حدث أن كان حول الطاولة اثنان يتحدثان، فيكفي أن يرنّ الموبايل أو أن يشير إلى وصول رسالة نصية أو ايميل حتى يتوقف الحديث فورا لينهمك الشخص المعني في تلبية ما أمر به الموبايل كأنه أولوية قصوى لا تتحمل أي تأخير. وهذه من عجائب زماننا: كلما وقعت مفاضلة بين اتصالات الموبايل ورسائله وإشعاراته من ناحية، وبين الشخص المقابل الذي يجالسنا ونجالسه من ناحية أخرى، فإن السيد الموبايل الموقر المبجل عادة ما يكون هو المنتصر. أي أن زماننا هذا قد أوقعنا في «شرط بافلوفي» فقدنا فيه الإرادة، فصرنا نعطي الأولوية للغائب (المتصل عبر الموبايل) على الشاهد (الجليس من لحم ودم).
ولكن رغم أن وضع الصحافة الورقية في بريطانيا أفضل بما لا يقاس من وضعها في العالم العربي، فإن وزير الثقافة مات هانكوك قرر قبل أيام تشكيل لجنة لتحديد الوسائل الكفيلة بضمان مستقبل الصحافة الراقية ومساعدتها على مواجهة تحديات هذا الزمن المضطرب والمفتوح على خطيرالاحتمالات. ويلخص الوزير الموقف بعبارة بسيطة: «الصحافة الحرة هي أساس أسلوب الحياة في بريطانيا». ويشخص صعوبة الوضع الحالي بأن تغيرات الزمن وتطورات التكنولوجيا قد أثرت في الصحافة أكثر من تأثيرها في أي صناعة أخرى تقريبا. ولكن ممّا الخوف تحديدا؟ يجيب هانكوك: «لا نريد أن نصحو في غضون خمسة أعوام لنفاجأ بأن مصادر الإعلام التي نقدّرها ونثمّنها قد اندثرت، وأن ديمقراطيتنا قد انعطبت واعتلّت نتيجة لذلك».
٭ كاتب تونسي