المثلية في أدب المسلمين…الحب فريسة الجنون
هل صحيح أن الحب المثلي في العصور الوسطى الإسلامية لم يكن مرفوضًا؟ وأن الشعر المثلي كان مقبولاً اجتماعياً قبل الاستعمار؟ الألمانية ميلاني كريستينا مور ترى في عرضها التالي لموقع قنطرة أن مَنْ يبحث في شعر الشعراء المسلمين الفرس -بين القرنين الـ 13 والـ 15- يواجهه سؤال حتمي حول الدور الذي لعبته المثلية الجنسية في تلك الحقبة. وأبرز مثال على ذلك الشاعران جلال الدين الرومي وظهير الدين محمد بابُر.
يُبيِّن الشاعر والمترجم البريطاني ديك ديفيس في مقاله “حافظ غير القابل للترجمة” مدى الصعوبة الكامنة وراء هذا المشروع. وتحديدًا لأنَّ “لغة الإخلاص الديني والباطني” المكتوب فيها هذا الشعر ليس من النادر أن تكون بعيدة كلَّ البعد عن معناها الحرفي. ولذلك، مثلما يضيف، فمن الصعب جدًا في بعض الأحيان على القارئ غير المنحدر من هذا الوسط التقليدي أن يفهم المعنى الأصلي لهذه الكلمات.
وكذلك تجدر الإشارة إلى أنَّه عند التعامل مع الشعر الفارسي يزداد الأمر تعقيدًا، لأنَّ البنية النحوية لا تعرف أي ضمير قائم على أساس نوع الجنس، وهذا يعني أنَّه لا يتَّضح نحويًا إن كان الحديث يدور حول جنس مذكَّر أو مؤنَّث – بشرط أن تكون المفردات موجَّهة إلى فرد ما.
وهذه الدقّة تظهر فقط من الصيغ التفصيلية، أو يمكن استنتاجها من سياق حياة المؤلف (إذا كان معروفًا). والحالة الأخيرة نادرة للغاية باستثناء شعر ظهير الدين محمد بابر. وهو الحاكم الوحيد في العصور الوسطى الإسلامية، الذي ترك وراءه عملاً شعريًا يتوافق واقعه الاجتماعي إلى حدّ كبير مع الواقع الروائي.
ظهير الدين وجلال الدين
ظهير الدين محمد بابُر، الأب المؤسِّس لسلالة المغول: “بابُر نامه هي سيرة ذاتية مميَّزة ليس فقط لأنَّ ظهير الدين بابر قد كتب سيرة حياته بأسلوب الواقعية المعروف من تولستوي وبضمير الأنا، بل لأنَّه دمج أعماله الشعرية في نصّ السيرة الذاتية وليس من النادر أن يشرحها في السياق”، مثلما تكتب ميلاني كريستينا مور.
تمتاز لغة ظهير الدين محمد بابر (ولد عام 1483 وتوفي عام 1530) بكونها دقيقة ومفصلة بشكل مباشر وبارز. وظهير الدين بابر هو مؤسِّس سابق لسلطنة المغول، وكذلك سليل تيمورلنك من ناحية الأبّ وجنكيز خان من ناحية الأم، ولم يترك وراءه للأجيال القادمة ثروةً شعريةً وحسب، بل وحتى سيرة ذاتية تعرف باسم “بابُر نامه”.
وهي سيرة ذاتية مميَّزة ليس فقط لأنَّه قد كتب سيرة حياته بأسلوب الواقعية المعروف من تولستوي وبضمير الأنا، بل لأنَّه دمج أعماله الشعرية في نصِّ السيرة الذاتية، وليس من النادر أن يشرحها في السياق.
وفي حين يتعثَّر القارئ في القرن الحادي والعشرين عند أبيات شعر جلال الدين الرومي (ولد عام 1207 وتوفي عام 1273)، ولا يعرف تمامًا ما الذي يجب اعتباره كعائق، فقد صاغ ظهير الدين بابر أشعاره بوضوح ومن دون التباس. صحيح أنَّ المواد الشعرية الموجودة لدينا اليوم من جلال الدين الرومي هي أكثر ثراءً، وأنَّ الباحثين يبالغون في نشر المنشورات حول هذا الشاعر الذي أعلنته منظمة اليونسكو في عام 2007 أيقونة ثقافية عالمية، ولكنَّ هناك خلافاً حول أشياء كثيرة.
وهذان الشاعران يرتبطان من خلال أصلهما المنحدر من بلاد ما وراء النهر، التي كانت تشير في تلك الفترة إلى المنطقة الجغرافية المعروفة اليوم باسم أوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وجنوب غرب كازاخستان، وكذلك من خلال شعرهما المثلي، الذي تعامل معه الشاعران طيلة حياتهما.
الشعر المثلي مقبول اجتماعيًا
عندما نتحدَّث اليوم عن الحبِّ المثلي في الإسلام، فلا علاقة لهذا تقريبًا بذلك التفهُّم الذي كان بديهيًا في فترة ما قبل الاستعمار. وبصرف النظر عن أنَّ مصطلح “المثلية” يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتاريخ الفكر الأوروبي الأمريكي، والذي يقوم بالتالي على أساس تقليد ثقافي محدَّد – ولا توجد لديه أيضًا أي مطالب عامة، فإنَّ الحبَّ المثلي في العصور الوسطى الإسلامية لم يكن شيئًا مرفوضًا. وفي الشعر كان الحبُّ المثلي سمةً حسنةً تقريبًا ولذلك يجب أن تتم دراسته بشكل منفصل.
وفي هذا الشعر كانت تتم مساواة مدح الغلمان وجمالهم وكذلك تأثيرهم الجنسي مع مدح الله. والتمييز بين المغاير والمثلي يصفه المؤرِّخ الاجتماعي والاقتصادي فرانتس إكس إيدير بأنَّه “ظاهرة محدَّدة من الثقافات الغربية الحديثة”.
وهذا يعني على نحو معاكس أنَّ الحبَّ الفردي في العصور الوسطى الإسلامية لم يجتَز من هذه الناحية أي خطاب اجتماعي، لأنَّه لم يكن مضطرًا لذلك. وفقط تحت تأثير الاستعمار بات يتم التعامل مع الشعر المثلي المكتوب في العالم الإسلامي على أنَّه شيء من المحظورات، وبناءً على ذلك تم تأطيره سلبيًا.
وبالإضافة إلى الاعتقاد المنتشر انتشارًا واسعًا بأنَّ الطبيعة الذكورية تعكس الكمال الإلهي، فقد كان يتم تفضيل المثلية بالمقارنة مع المجازات والاستعارات المغايرة وحتى بالاستناد إلى الفصل بين الجنسين المترسِّخ في المجتمع. وكذلك كانت للزواج أهمية أخرى. فكثيرًا ما كانت تُعقد الزيجات على أساس المصالح الخاصة، ولم تكن ممارسة الحبِّ في أماكن أخرى أمرًا نادرًا.
وفي المقابل فإنَّ الشاعر ظهير الدين بابر يصف وهو في سنِّ السابعة عشرة مشاعره العاطفية للمرة الأولى عندما يرى بعد فترة قصيرة من زواجه في نحو عام 1500 في سوق داخل مدينة أنديجان غلامًا جميلاً اسمه بابوري.
وقبل ذلك بأسطر قليلة يصف بالتفصيل السأم الذي أضناه من عدم مقدرته على ممارسة علاقة حميمة مع زوجته، التي تزوَّجها حديثًا، ويقول: “خجول ومحتشم كنت أذهب لها أوَّل مرة كلَّ عشرة أو خمسة عشر أو عشرين يومًا، حتى تبدَّدت هذه المودة الأولى (…). وحتى والدتي، الخانم، باتت لا تستطيع معي أكثر من أن ترسلني إليها كلَّ أشهر أو أربعين يومًا، وهذا بأكبر العناء”.
ولكنه أصبح في المقابل مُتَيَّمًا بعَيْنَي الغلام بابوري، وحول ذلك يقول: “حتى ذلك الحين لم يستحوذ عليَّ مثل هذا الشغف العنيف بإنسان”. وأخيرًا عندما يقف أمامه، يبقى مثل المشلول ولا يستطيع الكلام بكلمة واحدة، ويكتب: “منذ أن وقعتُ بالحبِّ / أصبحت فريسة جنون / لكنه يثير، ويرسل / الحرمان المسحور”.
بالإضافة إلى ابن عربي كان جلال الدين الرومي من أهم روَّاد التصوُّف الفكري: الكثير من أفكار كبار الصوفيين مثل جلال الدين الرومي وصلت من خلال الاتِّصالات بين العالمين الإسلامي والمسيحي إلى أوروبا – سواء كان ذلك في الدول الصليبية، أو في عهد النورمانديين في صقلية أو في شبه الجزيرة الإيبيرية، وقد أثَّروا من خلال تصوُّراتهم بمشاهير الغرب.