
كالوكالوست كولبنكيان ترك ذائقته الجمالية في العراق
لندن – كان غريبا أن يبرز اسم كولبنكيان في حيثيات قرارات تأميم النفط العراقي في السبعينات من القرن الماضي. فعندما أعلن الرئيس العراقي الراحل أحمد حسن البكر أول قرارات التأميم لشركة النفط العراقية عام 1972، تحولت ملكية حصص الشركات العالمية الكبرى في واحدة من أكبر شركات النفط في العالم إلى الحكومة العراقية. وبين هذه الحصص كانت نسبة 5 بالمئة هي حصة مؤسسة كولبنكيان.

السيد 5 بالمئة هو اللقب شبه الرسمي لرجل الأعمال الأرمني الأصل كالوست كولبنكيان. وهو محور كتاب يصدر مطلع عام 2019 بعنوان “السيد خمسة بالمئة: أوجه الحياة المختلفة لكالوست كولبنكيان أثرى رجل في العالم”. ولعل الكتاب قطعة من تاريخ الشرق الأوسط الذي تشكل بوجهه الحالي من قصة اكتشاف النفط.
عمل كولبنكيان، كمواطن عثماني سابق ورجل أعمال درس هندسة النفط، على تذليل كافة العقبات التي تحول دون إجراء استكشافات النفط في المنطقة، في زمن الدولة العثمانية وشركة النفط التركية، وصولا إلى عهد الاستقلال وتأسيس شركات النفط العراقية ونفط البصرة ونفط الموصل. ومقابل تسهيله إرساء العقود وانطلاق صناعة النفط العراقية، كان كولبنكيان يحصل على نسبة استثنائية من عائدات النفط بلغت 5 بالمئة.
عاش كولبنكيان في الثلاثينات في باريس وكان بثروته الكبيرة مقتنيا لأهم التحف والآثار واللوحات الفنية وكانت مجموعته واحدة من أعظم المجموعات الفنية في العالم، وهي المجموعة التي ضمها متحفه في باريس. ومع سقوط فرنسا بيد الألمان خلال الحرب العالمية الثانية، انتقل كولبنكيان إلى البرتغال المحايدة ليستقر في فندق في لشبونة ويقضي في واحد من أجنحته بقية حياته. واليوم لا تزال مؤسسته تتخذ من لشبونة مقرا لها لتدير تركة مالية وفنية هائلة، عزز من أهميتها عدد كبير من المشاريع الخيرية التي تنتشر في أنحاء العالم.
الكتاب الجديد سيكون محط اهتمام العراقيين ليردوا على تساؤل طواه النسيان: ماذا قدم كولبنكيان للعراق مقابل ما أخذه منه؟
انفتحت مؤسسة كولبنكيان على الثقافة العراقية في اتجاهين. الاتجاه الأول تجسد في تقديم منح للفنانين العراقيين من أجل الالتحاق بدورات تدريبية كانت تقيمها خارج العراق. كان الفنانون رافع الناصري وسالم الدباغ وصالح الجميعي من أوائل الفنانين الذين تمتعوا بمنحة إقامة فنية وتدريب في لشبونة لدراسة فن الحفر الطباعي.
أما الاتجاه الثاني فتمثل بالمساهمة في تشييد مبان تكون بمثابة حاضنة للحياة الفنية لتتحول في ما بعد إلى جزء أساس من البنية التحتية للثقافة العراقية على غرار ما فعلته المؤسسة نفسها في المجال الرياضي حين مولت مشروع بناء ملعب الشعب الذي افتتح عام 1966 بمباراة ودية بين منتخب بغداد الأهلي ونادي بنفيكا البرتغالي، كانت مناسبة لرؤية نجم كرة القدم العالمية يومها أوزيبيو وهو يلعب.

بدأ نشاط المؤسسة في المجال الفني بتشييد مبنى جمعية الفنانين التشكيليين عام 1956 وهو من تصميم المعماري العراقي قحطان المدفعي، كما قامت المؤسسة بالاستجابة لطلب تقدم به الفنان نوري الراوي لإقامة مبنى لحفظ وعرض الأعمال الفنية العراقية، التي تعود إلى مرحلة الريادة الفنية. ذلك المبنى الذي انتهى العمل فيه نهاية عام 1961 تمت تسميته بالمتحف الوطني للفن الحديث حين جرى افتتاحه عام 1962 في “الباب الشرقي” قلب العاصمة العراقية. وبالرغم من مضي الزمن وتشييد عدد من الصروح الثقافية فإن المبنيين لا يزالان هما الأجمل في بغداد. وكما يبدو فقد كان لذائقة كالوست كولبنكيان الجمالية دور في ذلك.
وإلى جانب المباني الفنية والرياضية فقد ساهمت مؤسسة كولبنكيان في بناء أكبر مستشفى في العراق هو مدينة الطب، الذي لا يزال يقف شاهقا على نهر دجلة ليذكر بالزمن الذي كان العراق فيه يحثّ الخطى لبناء دولته الحديثة.