
الياس خوري
May 29, 2018
تحوّل الخبر السياسي إلى مجرد عرض سمعي بصري يتميز بالرداءة، لكنه يشكّل مادة الاستهلاك اليومية لجمهور لا يبالي بالمضمون، محوّلاً أشكال الاستعراض السياسية إلى غذائه اليومي.
ولقد شهدنا في لبنان مسلسلاً لفن العرض، بدأ مع حكاية كوليت والمأساة التي تعرض لها الممثل زياد عيتاني، خلال حملة إعلامية وحشية رافقت اعتقاله وتعذيبه بتهمة العمالة لإسرائيل، ثم انتهت القضية على الطريقة اللبنانية كأن شيئا لم يكن، وخرج الممثل المسرحي بريئاً بعد إصابته بكدمات التعذيب والتشهير التي لا تُمحى بسهولة.
ردة الفعل على براءة عيتاني كانت لامبالية، فالمحققون الذين قاموا بتعذيبه لا يزالون في وظائفهم ولم يتعرضوا لأي مساءلة، والإعلاميون الذين روّجوا للتهمة وحوّلوها إلى استعراض وحشي للقتل المعنوي، اكتفوا بالصمت المؤقت، ثم عادوا إلى امتطاء أعمدة الصحف وبرامج «التوك شو»، وكأن شيئاً لم يكن.
ولعل الحفلة التنكرية التي افتتحها النائب نواف الموسوي في تغريداته عن فيلم «كفرناحوم»، هي نموذج للكيفية التي تحوّلت فيها وسائل التواصل الاجتماعي إلى منصة لتسديد الفواتير الثقافية بلغة فجة لا تشي سوى بكراهية عميقة للثقافة. وقد انتهت المسألة ببيان لـ«حزب الله» يتنصل فيه من تغريدات أحد أعضاء كتلة «الوفاء للمقاومة»، وبمحاولة من النائب بولا يعقوبيان لاستعراض طول باعها التلفزيوني، فقامت بتحويل الموضوع إلى نكتة.
نواف الموسوي
والطريف أن النائب المحترم لم يرَ فيلم نادين لبكي، كما أن الأكثرية الساحقة من الذين شاركوا في السجال لم يروا الفيلم أيضاً، وهذا يعني أن حفلة الردح كانت ردة فعل على مشهد نيل لبكي جائزة لجنة التحكيم، أي على العرض الختامي لمهرجان «كان» السينمائي. أي أن ما استفز الموسوي لم يكن الفيلم بل كان مشهد الفتى زين، وهو لاجئ سوري في لبنان، يقف على منصة مهرجان سينمائي دولي!
هذا بالطبع مجرد تخمين، فعناصر استفزاز السيد الموسوي قد تكون متعددة، لكنه لم يفصح عنها.
المهم هو كراهية الثقافة واحتقار المثقفين، وهذا صار موضة لبنانية خصوصاً مع مقص الرقيب الذي لا يجد ما يلهو به سوى منع الأفلام اللبنانية، واعطائنا دروسه الحصيفة في الوطنية.
نحن في بلاد الشام، أي في لبنان وسوريا وفلسطين، نعيش لحظة الذروة في فنون العرض، وإذا كانت العروض السياسية في لبنان لا تزال محدودة الأضرار، فإن العروض في سوريا وفلسطين، بلغت ذروة لم يعد القاموس يسعفنا في وصفها.
كيف نصف على سبيل المثال العرض المستمر لنهب ركام مخيم اليرموك، وهو عرض يملأ مواقع التواصل الاجتماعي، وفيه لا نرى فقط أكبر مخيم فلسطيني وقد دُمر وسُحق وصار ركاماً، بل نرى أيضاً مشهد «تعفيش» متواصل لما تبقى.
وكلمة تعفيش مصطلح استنبطته التجربة المأسوية السورية، وهي تشير إلى تحوّل جيش النظام والميليشيات المساندة له، إلى عصابات من اللصوص، التي تنهب كل شيء. واللافت أن المعفِشين لا يأبهون للكاميرات، بل يمرون أمامها بلا مبالاة حيناً وبعلامات النصر حيناً آخر، ثم يهجمون على البرادات ومواسير المياه والكومبيوترات ويحملونها على شاحنات أو سيارات أو دراجات نارية ويمضون.
أغلب الظن أن المعفِشين يريدون للمعفَش بهم أن يروا، فاللعبة كانت واضحة منذ البداية، يجب إذلال الناس حتى آخر الذل كي يعرفوا أن العبد لا يستطيع التمرد، وأن عليه الخضوع لسيده. فالنظام الاستبدادي في سوريا لم يكن معنياً يوماً باسترضاء الشعب، فالشـــعب يجب أن يشعر كل يوم أنه ذليل ومهان، وهكذا يصير الأبد الأسدي واقعاً دائماً.
يصلح اليرموك أن يكون استعارة كبرى، انه استعارة فلسطينية للمصير الذي أعدته أنظمة الاستبداد العربية لشعب زائد ولا مكان له، لأن النظام العربي لا يرى في فلسطين سوى مبرر لوجوده الخانع. وهو استعارة فلسطينية لمصير قيادات فلسطينية تخلت عن الشعب وذهبت إلى وهم السلطة، وسكرت بالخنوع.
كما أنه استعارة سوريا كبرى، استعارة للمصير السوري عل أيدي النظام، وللانهيار الأخلاقي الذي عبّرت عنه ظاهرة الإسلاميين والدواعش، التي لم تكن سوى مطية لقهر الناس، وأداة لتحويل ثورة شعب يطالب بالحرية إلى كابوس.
لكن فلسطين لم تكن في حاجة الى استعارة إضافي
ة كي ترى نفسها في مرايا الخراب النكبوي المستمر. فالجيش الإسرائيلي يشعر بأنه بات طليق اليدين في تعامله الوحشي مع الفلسطينيين، ولم تكن رصاصات قناصة الجيش الإسرائيلي المصحوبة بالضحك والمتعة السادية، في مسيرات العودة في غزة، سوى التعبير عن شعور الإسرائيليين بأنهم ملوك فن العرض الدموي، وأنهم يمتلكون ترخيصاً أمريكياً بقتل الفلسطينيين كما يحلو لهم، وبأن تدريب جنودهم على القتل الحقيقي هو التعبير الأمثل عن «طهارة السلاح» الإسرائيلي، الذي لا يتطهر إلا بدم الضحية الفلسطينية.
من القدس الى غزة شهد العالم عرضاً متواصلاً للوقاحة وانتفاخ القوة والعنصرية واللغة الدينية الأسطورية لا سابق له، ولقد تصرف الإسرائيليون برعاية الأمريكيين وكأنهم يؤدون عرضاً لأحد أفلام «الوسترن»، ولكن باللحم الحي.
فنون العرض السياسي التي تحتل بلادنا تتميز بالبجاحة والوقاحة والغرور، ولكنها تشير في الوقت نفسه إلى أننا في لحظة تشبه الوهم، حتى القتلة يتصرفون وكأنهم في مشهد سينمائي، كأن هذه اللحظة رغم كل آلامها ليست حقيقية، كأن اللاعبين ليسوا سوى ممثلين يقفون على خشبة مصطنعة، قي مسرح يوشك على الانهيار.