الرئيسية / home slide / السلطة ايضاً تثور

السلطة ايضاً تثور

28-04-2021 | 00:03 المصدر: النهار

سمير عطالله

الشرطة اللبنانية (تصوير نبيل اسماعيل)

“نعم للاصلاح، لا للمهازل”
ديغول

 ظهرت في السبعينات حركة جديّة تضم نخبة من الطبقة المتوسطة، للعمل على الغاء #الطائفية، اذكر من روادها الطبيب اميل البيطار، والمحامي باسم الجسر. ثم جاءت الحرب، فألغِت، فيما الغت، الحركة، وأحيت الطائفية هذه المرة على شكل متاريس، وحواجز طيارة، ومجازر ثابتة. المرة الثانية التي شعرنا خلالها باندفاع مدني وطني غير طائفي، كانت في عفويات 17 تشرين. اللاطائفيون هنا، ليسوا عقائديين متجذرين مثل القوميين أو الشيوعيين، بل مجموعات آتية من كل الطوائف والأمكنة، وسيدات قادمات للتو من عند “الكوافور”، ومغتربات قادمات في زيارة، وطلاب وآباء وامهات.

 الذين تأملوا، كثيرون. أنا، اكتفيت بالابتهاج. لم تعد لديّ طاقة على الأمل بعد عمر من الخيبة. لكن المشهد كان مسراً: الشباب يبحث اخيراً، عن وطن، ويطالب بدولة، ويُجمع على ان عدوّه وعدواهما معاً، الفساد. كلن يعني كلن.

 ولا وقت لذكر الاستثناءات. هذه تأتي لاحقاً، وغير ذات أهمية. الآن فلنتفق على المبدأ. لكن 17 تشرين لم يطلْ. لن يُسمح له بأن ينزع من السياسيين الاداة الوحيدة التي يحيون بها. فمَن هم من دون طائفيتهم، وماذا هم من دون هذه الوسيلة المجانية، الثابتة الفعالية مع ضمانة بعدم انتهاء الصلاحية. دائماً لها شعوب مصفقة وجماهير. ودائماً لها غرائز جاهزة وثقاب الشر لا يبتل.

 إذن، وداعاً 17 تشرين، وعودة مظفرة الى “حقوق المسيحيين” وشيعة شيعة” و”سنّة شيعة”. كان مؤلماً للبعض، ومعيباً للجميع، أن يأتي التعليق من الفاتيكان بالذات: “بل الحقوق لجميع اللبنانيين”. 

 قررت الدولة أن تقضي على ما تبقى من امل لدى الناس، فلجأت الى الأسلوب القديم: أن تعلن هي ثورتها. 

لكن ثورات الأنظمة مكشوفة دائماً، وفيها تكرار فاضح وبطولات سقيمة الاخراج. وثورة النظام بدأت بتجاوز القانون واصوله وخصوصاً، صورته، ناهيك بمرجعيته. فالذين يحتقرون القانون عادة هم الخارجون عليه. المأزق هنا ان المخالف هو القضاء. أو من يمثله.

 الاحزاب الشمولية تبهر الناس بعمل ما. موسوليني اضاف الى روما، شيئاً من عمارها المذهل. هتلر اعاد الاقتصاد المنهار و “المارك” المتلاشي، قبل ان يبدأ حرباً عالمية بغزو تشيكوسلوفاكيا، بحجة الدفاع عن الأقلية الألمانية فيها. أما هنا، فليس على الاحزاب أن تبني شيئاً. أوتقدم نموذجاً. الوعود وحدها تكفي.

في الحروب النفسية يسعى كل فريق الى أن يكون الضحية والبطل. ظلت اسرائيل تلعب هذا الدور حتى عام 1967. هي النعجة التي يريد العرب ذبحها. هي المسالمة، التي لا تطلب اكثر من سلامتها، وأن تعقد مصالحة مع جوارها. وذات صباح افاق العالم عليها تحتل جزءاً من مصر والقدس والجولان. ولم يعد دور الضحية ممكناً. لكنها أصرت على قناعه. 

لكي تستطيع الاحزاب الشمولية البقاء، عليها ان تؤمن دوماً وجود عدو. من دونه لا تستطيع تعبئة الناس، وزرع الحماسة فيهم وتحريضهم على كره الخصوم، واتهام هؤلاء بأنهم يعيقون عملها ورسالتها ومشاريعها المستقبلية.

 في هذه الدنيا، ليس مهماً كثيراً اين تبدأ. الأهم اين تنتهي. الأكثرية الساحقة من الذين تمتد حياتهم من قرن الى قرن، كانت بداياتهم بسيطة: يسوع ابن مريم كان نجاراً، ومحمد بن عبدالله كان راعياً. وفي السياسيين كان ابراهام لنكولن مصارعاً قبل أن يصبح شفيع المصالحة العرقية في اميركا. وتيتو كان ميكانيكياً وحّد يوغوسلافيا قبل ان يفككها الدِّب سلوبودان ميلوشيفيتش. ونيكيتا خروشوف كان راعياً قبل ان يصبح زعيم الاتحاد السوفياتي ويحرر روسيا من سمعة ستالين.

المشكلة هي في النهاية وفي ما تترك خلفك: أقرب الى الانبياء مثل ديغول، كثير الانتصارات كثير الاخطاء، مثل نابوليون، منقذاً لأميركا مثل روزفلت؟ قاد جمال عبد الناصر مصر الى الحريّة والسد العالي والمكانة في العالم، لكنه تركها دولة متعبة تبحث عن امجادها الضائعة في النكسة وذيولها.

 مأخوذاً بشخصيته وتأثيره على الجماهير طاب لعبد الناصر ان يكون في كل مكان: افريقيا والهند والصين واليمن والعراق وسوريا وفلسطين. ثم تبين له، في النهاية، ان الحل الأمثل كان في التفرغ لمصر. لا دولة كبرى من دون اقتصاد كبير. واليوم تخشى فرنسا (لو بوان) انها قد تصنَّف دولة في العالم الثالث، بسبب ما يصيبها من وهن. بلاد “باستور” تتخلف في حرب كورونا، بلاد كليمنصو، لا تقدّر معنى الاتكال على صدق السياسيين والسياسة في لبنان فتغرق في رمالهم واشياء أخرى.

 نسي ماكرون وهو في مرفأ بيروت،ان لبنان آخر قد نشأ، وأن غايات الحياة قد تغيّرت. ولم يعد بودلير في ثقافة الناس، وديغول في نماذجها، وسارتر في ترجماتها. فاته وهو يرى الحطام ويشّتَم روائح الموت، أن لبنان اصبح يتلهى بنيترات الامونيوم، التي انفجرت في وجهه ويخزنها الى جانب اهراءات القمح. ؟لبنان الجديد” بلد براغماتي استراتيجي وليس تكتيكياً. وارجو ألاّ تسألني ماذا يعني ذلك، ولا ما هو الفرق. هذا ما تبلغناه. ألم تلاحظ أننا نذهب جماعياً الى موسكو للمرة الأولى في التاريخ: 8 و 14، وعدّ معي. كان طالبو الرئاسة، في الماضي، يتجهون صوب باريس ومصر وواشنطن، وبعدها استقروا على دمشق، وتخففوا من المشاوير الطويلة عبر الاطلسي. ثم اختلف
الوضع مرة اخرى. رجاء أن تسجل عندك: موسكو وطهران.

يعزيك، ربما، ان الدنيا كلها تتغير. فموسكو التي كنت تخشى السفر اليها خوفاً من شبهة الشيوعية والإلحاد، عادت الآن مقر المسيحية الشرقية، ووضع بوتين صور لينين على “التتخيتة” ليلتقط الصور التذكارية الى جانب بطريرك الروسيا. وبهذه الصفة تحاول موسكو الحلول محل اميركا في كل مكان تضعف فيه. هكذا فعلت اميركا من قبل، عندما راحت تتلقف كل مكان ضعف فيه الانكليز والفرنسيون. لا اعرف ماذا تسمى هذه الحال: تكتيك أم استراتيجيا؟ تفاصيل غير مهمة.يتغيرون. ويتقلبون. ويتلونون. ولا حياء في السياسة ولا عتب في طلب السلطة أو حفظها أو توريثها. في كتابه الساحر “الايطاليون” روى لويجي بارزيني ان الانكليزي يقول، لا تضرب انساناً بعدما يقع، أماالايطالي فيقول، إذا لم اضربه بعد وقوعه فمتى اضربه إذن؟ 

عبثاً حاولت جميع دول العالم، بما فيها روسيا والامانة العام
ة للأمم المتحدة، توسلنا لتشكيل حكومة. لكن الميثاق لا يسمح. ولا الدستور. ونحن شعب لا هم له في الدنيا سوى التزام الدستور والميثاق والامعان في تفسيرهما. ولا يشك في ذلك إلاّ المشككون.. تباً.