
حاورته: رلى موفّق
القدس العربي
09052021
يقدّم الخبير اللبناني في السياسات العامة زياد الصايغ قراءة حول حال لبنان بعيدة عن النَـفَسِ التشاؤمي، إذ يرى أن الانهيار، في اللحظة الراهنة، حيث إمكانات الإنقاذ غير متوفرة، هو انهيار لخيارات المنظومة السياسية وليس لصمود المواطن، رغم أنه يعيش الوجع الذي هو جزء من مخاض ولادة البلد، وصولاً إلى اللحظة التاريخية، التي تحتاج إلى كتلة وازنة، هي قيد التشكّل، لإعادة إنتاج الشخصية اللبنانية على الثوابت والقيم، وإعادة إنتاج الصيغة اللبنانية باستعادة الدستور بالعودة إلى روحيته وتطبيقه. يقول إن حالة الانهيار هي فرصة للتحوّل الثقافي، الذي يُشكّل التغيير السياسي عبر الانتخابات شقاً منه ليس إلا، فيما التحوّل بكليته يتناول نظرة اللبنانيين لصورة لبنان الحقيقية ودوره وهويته.
المجتمع الدولي، في اعتقاده، ذهب إلى تعرية المنظومة السياسية من شرعيتها التمثيلية والعربية والدولية، ولكن ما لم يفعله هو الوثوق بوجود البديل، ولا يزال ينتظر تنظيماً أفعل ورؤية أوضح، وفاعلية مُنتجة أسرع بتشكّلات القوى المجتمعية الحيّة، التي ستقود العملية التغييرية، متكئاً على نجاح تجارب الثورات بتحالفها مع القضاء والعسكر لاستنتاج الحاجة إلى تحالف بين هذين «الحليفين للثورات الناجحة»، وبين القوى المجتمعية الحيّة التي تتشكّل من قوى ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر والقطاع الأكاديمي والتربوي والنقابات الوازنة كالأطباء والمهندسين والمحامين، ومن الرأسمال البشري اللبناني في الداخل وبلاد الاغتراب، التي تشهد ولادة «لوبي لبناني» يعمل في هذا الاتجاه.
ويُبدي الصايغ ثقة كبيرة بأن لبنان غير متروك، وأن عملاً قوياً يتمُّ بين الفاتيكان والغرب والعالم العربي من أجل إنقاذ لبنان وتحييده عن أن يكون ضحية المقايضات. وهنا نص الحوار:
○ كل يوم تبرز أكثر معالم انهيار الدولة. في ظل الانهيار المالي – الاقتصادي، يسأل المواطن اللبناني ما الذي عليه أن ينتظره إذا بدأ مسار رفع الدعم، هل بإمكانك أن ترسم صورة المشهد الآتي؟
• مسار تحلّل الدولة بدأ منذ فترة طويلة بعدما تمَّ الاستيلاء على كل مؤسسات الدولة وتطويعها لخدمة التحالف القائم بين المافيا والميليشيا، وأيضاً بعد الإطباق على مقدرات اللبنانيين، بما يعني أن رفع الدعم هو تفصيل في المشهد، وليس أساسياً، بالرغم من حجم الانفجار الاجتماعي الذي قد ينتج عنه، ولكنه ظاهرة وعارض من العوارض المتعددة التي تُظهر تفكك الدولة.
أعتقد أن قراءة عارض رفع الدعم على أنه هو الذي يُنتج الانفجار فيه كثير من التبسيط، فمظاهر تحلّل الدولة وانهيارها بدأ منذ فترة طويلة، وما كنا نعيشه من دعم بدا وكأنه نوع من المسكّنات لتغطية الانهيار القائم أساساً في كل إدارة على المستوى السياسي والدستوري والقضائي والمالي، وبقي مربع هو الأمني والعسكري، ولكنه أيضاً يحتاج إلى نقاش في ظل انعدام أخلاقية المنظومة السياسية واستعمالها المربع الأمني والقضائي لتطويعه لصالح خياراتها. بهذا المعنى لن نكون أمام انهيار جديد إنما أمام مرحلة جديدة من الانهيار الذي ربما ينتج عنه انفجار اجتماعي وربما لا. فاللبنانيون قاموا بحملات متفاوتة من الصمود، واستفادت منها المنظومة في مكان ما من خلال المساعدات والإعانات، وشهدنا عملية تعاضدية بين المكوّنات التي تواجه هذه المنظومة حتى تصمد. وأشكك بإمكانية رفع الدعم بالكامل، لذا لا أتوقع بأنه ستكون هناك حالة انفجار بفعل هذا العارض.
○ تُشكّك في الكلام عن البطاقة التمويلية؟
• أعتقد أنه سوف يُستعاض عن البطاقة التمويلية، التي يلهون الناس بها، بترشيد الدعم وخفض مستوى الدعم على سلع معينة وإلغائه على سلع أخرى لا تُحدث غلياناً شعبياً. هناك أموال مُعلنة وأخرى غير معلنة وصلتْ من أجل البطاقة التمويلية، لكنه سيتم الاستيلاء على تلك الأموال وتحويلها إلى حالة دعم مُرشّقة لمرحلة أطول، وهنا يكون تحالف المافيا-الميليشيا ما زال مستمراً من خلال استعمال كل المقدرات الموجودة لإبقاء الحد الأدنى من الهدوء الهشّ في حالة الدعم للمواد التي هي أساسية للمواطنين.
○ قلت إن هناك أموالاً معلنة وأخرى غير معلنة، فماذا تقصد بغير المعلنة؟
• هناك أموال غير معلومة المصدر تدخل لصالح قوى سياسية ومن كل الأطراف، تستعملها هذه القوى للمساعدات. أحياناً تكون من الخارج وأحياناً من خلال عمليات الدعم الداخلية، هذه أموال غير مُعلنة. لقد تمكّنت بعض القوى السياسية من أن تخلق ما تعتبره شبكة أمان تعبّر عن قوّة، ولكنها في الواقع تعبّر عن هشاشة، لأنها تجعل المناصر أو الصديق أو الحليف يعيش تحت رحمة الإعاشة، وهذا معناه أنك أصبحت في موقع ضعف وليس في موقع قوّة، لأن القوّة تكون بتأمين فرص العمل والخدمات الأساسية وليس فقط الطعام، هذا إذا استطعت ذلك. وهناك أموال غير معلنة، هي جزء من مسار التهريب الموجود في البلد عبر استباحة الحدود البحرية والبرية والجوية، هذه الأموال غير المعلنة هي التي تُسهم في مكان ما في ما يعتبره البعض صموداً، في الوقت الذي هو جزء من الفساد الذي انهار وسوف ينهار أكثر. فلا يعتقد أحد أن للفساد إمكانية صمود، هو بدأ بالكشف عن نفسه أكثر وسوف ينهار.
○ مع تنامي الانهيار على مختلف المسارات الاقتصادية – المالية – الدستورية والقضائية، ما هي إمكانات وقفه أو الإنقاذ، ولا سيما أنه يتم ربطه عملياً بتأليف حكومة وهو الأمر الذي يبدو معقداً، لا بل مستحيلاً، بحسب ما أظهرته زيارة وزير الخارجية الفرنسية الأخيرة إلى لبنان؟
• هناك لحظتان: راهنة وتاريخية. في اللحظة الراهنة، ليست متوفرة إمكانية الإنقاذ، ولو ترقيعاً. والدليل أن المنظومة مستمرة بنفس المسار. وإذا كان مدخل الإنقاذ هو تشكيل «حكومة مهمة» فقد أجهضت المنظومة هذه الإمكانية في اللحظة الراهنة. أساساً، ما كان سيحصل هو عملية إنعاش مؤقت فقط، لا يوقف الانهيار، ذلك أن عملية وقف الانهيار تحتاج إلى مسار تراكمي في الداخل من خلال الإصلاحات، ومع الخارج من خلال مؤسسات دولية، ومن خلال استعادة الثقة، ليس لدى المواطنين اللبنانيين المقيمين فقط، ولكن في دول الانتشار أيضاً.
أما في اللحظة التاريخية، فإمكانية الإنقاذ متوفرة، وسأشرح كيف: كل انهيار موجود ليس انهياراً لصمود المواطن اللبناني، بل لخيارات المنظومة السياسية. صحيح أن المواطن اللبناني يعيش معاناة وهو خاسر على مدى اللحظة الراهنة، لكن في اللحظة التاريخية، سيكون هناك إمكانية للبناء على أسس سليمة. دورنا أن نقول للناس إن عملية الوجع هي جزء من مخاض ولادة البلد، وما كان يعيشه خلال السنوات العشر الماضية هو حالة افتراضية لا واقعية بمحاولة المنظومة تأمين الكهرباء والماء والطرقات والنمو في الودائع والمدخرات وتثبيت سعر صرف الليرة. اليوم انكشفت هذه الحالة الافتراضية، وأصبحنا نعيش الواقع.
برأيي هناك خياران، لا ثالث لهما، أمام اللبناني: إما الرحيل أو العمل. إذا قرر الرحيل، فبإمكانه هذا، ولكن لا يمكنه القول إن حالة الانهيار هي حالة زوال لبنان، هذا الكلام غير صحيح. حالة الانهيار هي حالة تمهيد لبناء لبنان الجديد. هذه هي اللحظة الراهنة. أما اللحظة التاريخية فتحتاج إلى كتلة وازنة تُفكّر وتخطّط، وتقول إن دورنا، رغم كل هذا الوجع، هو إعادة إنتاج الشخصية اللبنانية على ثوابت وقيم، وإعادة إنتاج الصيغة اللبنانية أيضاً، ليس بمعنى أن نصنع أوهاماً كالفيدرالية أو التقسيم، وأن البلد انهار. البلد لن يُقسّم ولا يحتمل فيدراليات، وإن كانت فيدرالية الطوائف موجودة أصلاً. اللحظة التاريخية هي أن نُعيد إنتاج الشخصية اللبنانية المبدعة الكفوءة، والتي تستطيع إنجاز أفضل كهرباء وماء، وأحسن بيئة وطرقات، وأحسن فرص عمل، وأحسن سياحة، وأحسن مدن معرفية وتكنولوجيا، وأحسن إعلام. فالرأسمال البشري اللبناني لا يمكن أن يزول ولا يمكن استبداله، وحتى الذين يهاجرون لا يتركون البلد. كان يدخل البلد بين 6 إلى 7 مليارات دولار، ولكن السنة الفائتة، دخلت 9 مليارات. ما أريد قوله إن الرأسمال البشري اللبناني هو الذي سيُعيد إنتاج اللحظة التاريخية.
○ تراهن على اللحظة التاريخية وتَشكُّل كتلة وازنة، ولكن ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر كـ»حركة شارع» أُحبطت، وإذا كنت تتحدث عن النخبة، فمن هي؟
• بناء أي كتلة وازنة في أي تغيّر تاريخي يمر بمراحل. المرحلة الأولى بدأت بتحركات مطلبية على الأرض وفي المرحلة الثانية انتقلت إلى تجميع نفسها ضمن بعض الأطر والتشكّلات العابرة للطوائف والمناطق التي حاولت أن تقود الاتجاه السائد في الرؤية السياسية، بأن مشكلة البلد ليست فقط اقتصادية واجتماعية، إنما هي مشكلة سيادية وتتعلق بهوية البلد.
ما قامت به في المرحلة الثانية أنها أرغمت المجتمع الدولي على أن يُنتج معادلة جديدة اسمها: الشعب والمنظومة، الشعب والقوى السياسية. اليوم دخلنا مرحلة تكوين الائتلافات والجبهات والتحالفات، هذا تطوّر نوعي وطبيعي، وهذا أُنجز خلال سنة. الثورة الفرنسية بقيت مئة عام حتى استطاعت التغيير، نحن هنا نتكلم عن أنه خلال سنة عُـرّيت المنظومة من شرعيتها التمثيلية. ستقولين إن هناك قواعد شعبية هذا شيء أكيد، وليس المطلوب إقصاء قواعد الأحزاب، فالذي يريد أن يبقى في «تيار المستقبل» أو «التيار الوطني الحر» فليبقى، نحن نريد الكتلة الرمادية التي تمثّل الـ40% التي لم تنتخب، دعينا نذهب ونستطلعها، وحتى يجب قراءة استطلاعات الرأي داخل القواعد الحزبية، وهناك مؤسسات دولية ووطنية تقوم بها، هناك تغيّر في المزاج. لقد تمّت تعرية المنظومة من شرعيتها التمثيلية والعربية والدولية.
اليوم الثورة في حالة إنتاج بُنى، بدأنا نشهد تحالفات لمجموعات عدة وتكتلات. وهذه البنى تحتاج إلى وقت في ظل عدم توفر أي إمكانات. دعينا نقول إن هناك كتلة وازنة قيد التشكّل، وهذه الكتلة الوازنة مدعوة لأن تلتقي وتتوحّد على الرؤية والبرنامج. ومن ثم القيادة الجماعية هي التي تفرز أشخاصاً. في كل دول العالم هناك «الإستبلشمنت» والسلطة. الدولة العميقة في أمريكا ليست رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، بل هي «الإستبلشمنت»، المؤسسات التي ليس بالضرورة أن يظهر من هم ضمنها. هناك ناس تخطط وتعمل وتلتزم بقيم وتساعد الرؤساء والوزراء للوصول، ولكن الرؤساء والوزراء يأتون لتنفيذ برنامج.
أما في لبنان، فـ»الإستبلشمنت» هي السلطة. الجديد لدينا، أن هناك مَن قرّر في تشكلات الثورة أن يؤدي دور المؤسسات بمفهوم «الدولة العميقة»، بمعنى أنه لا يريد أن يخوض انتخابات، ولا أن يتعيّن وزيراً أو مديراً، إنما يريد أن يُعيد هيكلة كل مؤسسات الحكم بناء على قيم ومعايير وبرنامج. ومن لديه القدرة والكفاءة والإمكانات حتى يخوض انتخابات ويترشح عليه أن يعود إلى هذه القاعدة. هذا تطوّر نوعي بأن يكون البحث حول بناء المؤسسات الذي ستكون نتيجته لاحقاً بناء السلطة. عملية بناء السلطة وحدها لا تكفي، وهنا نقطة مهمة يجب قولها: هناك فرق كبير بين التغيير السياسي وبين التحوّل الثقافي. من يعتبر أنه إذا حدث تغيير سياسي عبر الانتخابات بنسبة 30% يكون أنجز التحوّل هو مخطئ. التغيير السياسي هو شق من التحوّل الثقافي وليس كل التحوّل الثقافي.
عندما أقول تحولاً ثقافياً فهذا معناه تحول في نظرة اللبنانيين لصورة لبنان الحقيقية ودوره وهويته. لبنان دستوره مدني، فلماذا نريد إبقاء ممارسته طائفية ومذهبية؟ لبنان ميثاقه يتكلم عن لا شرق ولا غرب، فلماذا نضعه ضمن محاور؟ لبنان عربي فلماذا نناقش على هويته؟ لبنان ثقافته غربية، فلماذا نناقش ما إذا كنا نذهب غرباً أم شرقاً؟ ما هذا التشويه لهوية الكيان اللبناني؟ صحيح أننا بحاجة إلى ان نُنجز التغيير في السلطة، ولكن يجب أن نعرف أنه ليس بالتغيير السياسي في اللحظة الراهنة، نقوم بالتحوّل الثقافي لاسترداد البلد، لأنه آن الأوان لأن ننتج الشخصية اللبنانية على قواعد سليمة، أنا لا أعتبر أن المشكلة هي فقط في المنظومة، إنما المشكلة فينا أيضاً.
○ وكأنك تقول إن تلك الشخصية اللبنانية أو الصيغة اللبنانية التي تتكلم عنها هي الدستور. أي لنعد إلى تطبيقه والالتزام به وبالتالي نحن لسنا ذاهبين لنتفق على شيء جديد؟
• المطلوب استعادة الدستور بالعودة إلى روحيته وتطبيقه. ليست عندنا مشكلة نظام، نحن عندنا مشكلة منظومة، هناك من يُخبرنا أننا دولة فاشلة. نحن لسنا دولة فاشلة، نحن محكومون من خلال منظومة فاشلة، لا بل منظومة مجرمة.
العملية التي نقوم بها الآن هي عملية استئصال ورم سرطاني واستعادة المناعة لمؤسسات غير موجودة، نحن نستأصل ورم السلطة الذي دمّر المؤسسات. في الإدارة يوجد أناس عندهم الكفاءة، وكذلك في القضاء وفي الأجهزة العسكرية والأمنية، وكذلك في القطاع المصرفي، وفي الجامعة اللبنانية والقطاع التربوي يوجد أناس لديهم الكفاءة، ولكن المطلوب تنقية واستئصال ورم السلطة من المؤسسات التي هي «الدولة العميقة»، ولكن أيضاً البدء ببناء كتلة وازنة، يعني تأهيل الكوادر للمستقبل، لأننا سنجد صعوبة مع الأفراد الموجودين الذين تعودوا على نهج ونمط معينين. يمكننا مساعدتهم على الخروج منه إذا رأوا أن هناك انتظاماً، أي عندما تكون هناك حكومة ذات هيبة، ورئيس جمهورية لديه الهيبة، وعندما يكون القضاء صاحب هيبة، لا يجتمع ليناقش ماذا يفعل بقاضية، بل ليأخذ قراراً ويضرب بيد من حديد. نحن بحاجة إلى مرحلة انتقالية.
○ لكن مَن هي القوة التي ستقود هذه المرحلة؟
• القوى المجتمعية هي التي ستقود ذلك. من يستطيع أن يقود العملية التغييرية، ودعيني أكون صريحاً، هي ثورة قضائية وثورة عسكرية. كل ثورات العالم التي نجحت كان لديها حليفان، القضاء والعسكر، من دون أن ننحو باتجاه لا استبداد القضاء ولا استبداد العسكر، وهذا يحتاج إلى تحالف بين القضاء والعسكر والمجتمع المدني، يعني قوى الثورة والقطاع الأكاديمي والتربوي والنقابات الوازنة كالأطباء والمهندسين والمحامين وتلك النقابات التي تستطيع أن تتحرر ممن سطا عليها. الكتلة الوازنة ليست فقط منبر وقوى 17 تشرين الأول/أكتوبر والتي بدأت بتنظيم نفسها، إنما أيضاً الكتلة المجتمعية الحيّة التي أسميتها الرأسمال البشري اللبناني. وهناك «الدياسبورا» في الخارج أصبحت منظمة أكثر منا. أنا أتكلم عما أراه وبأي طريقة يعملون. بتاريخ لبنان، كان يوجد على الدوام حضور لبناني في الاغتراب وإبداعات لبنانية فردية، ولكن لم يكن هناك لوبي. في هذه اللحظة، بدأ يتشكّل لوبي لبناني في العالم العربي والغرب، وهذه كتلة وازنة، وهي التي ستنقذ البلد مع المقيمين ولننتظر. ولا يجب أن نستهين بالذي يحدث.
○ ولكن قوى التغيير ستبقى بحاجة لاحتضان ورافعة دولية؟
• المجتمع الدولي والعالم العربي تحديداً ما زال يسأل: أنتم مَن؟ ومَن البديل؟ وماذا تريدون وماذا تُشكّلون؟ وهو يرتاح أكثر، بمعنى الصيرورة التاريخية، أن يعمل مع المؤسسات الدستورية، لكن أريد أن أسأل الرأي العام: ماذا يعني أن يُوبّخ المجتمع الدولي المنظومة طوال الوقت ويفرض عليها عقوبات؟ هل لأنه مرتاح جداً معها؟ دعينا نرى انقلاب المشهد. جاء سكرتير الدولة الخاص بالفاتيكان وزار رئيس الجمهورية زيارة مجاملة (التوصيف المدرج في برنامج الزيارة) يعني أنها ليست زيارة رسمية، وكأنه يقول: أنا حضرت بصفة رسمية، كموفد، وأنا بمنصب رئيس وزراء أتيت لزيارتك زيارة مجاملة، يعني أنا أَشكُّ بشرعيتك. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بغض النظر عن الأخطاء التي ارتكبها، ألقى خطاباً في الإليزيه ضمّنه توبيخاً للسياسيين اللبنانيين.
ما لم يفعله المجتمع الدولي اليوم هو الوثوق بوجود البديل في لبنان، وما زال ينتظر تنظيماً أفعل ورؤية أوضح، وفاعلية مُنتجة أسرع بتشكّلات البديل والقوى المجتمعية الحيّة، إنما في المقابل، ليس مرتاحاً في التعامل مع المنظومة وبدأ ينفض يده منها. وهذا الفرق بين قراءتي وقراءة الآخرين.
○ المجتمع الدولي يريد تغييراً دستورياً من خلال الانتخابات، هل القوى المجتمعية قادرة على إحداث فارق كبير أمام الأحزاب والكتل السياسية التي كانت لعقود مهيمنة على الساحة؟
• المأزق هو أساساً عند المنظومة السياسية التي تخاف من إجراء الانتخابات النيابية أكثر مما هو عند الثورة التي تدعو إلى انتخابات. وهذا أول ردٍ من اللبنانيين للمجتمع الدولي لنعطي الإشارة بأن البديل موجود. أنا واثق من القدرة على الخرق في الانتخابات. ومن ثم ستأتي بداية التغيير في الإدارة والحوكمة وسلّم القيم، وكيفية الوصول إلى لبنان الجديد وضمان حقوق أبنائه الطبيعية. وبعد ذلك نذهب إلى فكرة الانتماء والمواطنة التي من المؤكد أنها تحتاج إلى جيلين من الزمن. إذا قُدّر للكتلة الوازنة في البلد أن تبدأ مسار التغيير، فأنا مقتنع بأن ما قام به أشقاء لنا في الخليج خلال عشر سنوات، نستطيع أن نقوم به خلال سنتين، بناء على الخبرات التي راكمها اللبنانيون في عملية تطوير تلك الدول.
○ هل برأيك نواجه أزمة وجودية؟
• نحن أمام انتهاء لبنان القديم، الذي كان ثمّة من كان يسوّق أنه يستطيع أن يتلاعب به وأن يقايض عليه، وأمام مرحلة بناء لبنان الجديد من خلال التحوّل الثقافي التاريخي بإنتاج الشخصية والصيغة اللبنانية التي تنهي لبنان القديم بموبقاته، وليس لبنان الفكر والإبداع والثقافة والحضارة والأبجدية.
○ كل الأطياف اللبنانية تتحدث عن لبنان جديد بما فيها «محور إيران» وتحديداً «حزب الله» هل نحن نتحدث عن لبنان جديد واحد؟
• المحور لا يطرح صيغة لبنانية، بل صيغته الأيديولوجية التي يريد إسقاطها على لبنان، بينما نحن نريد بناء لبنان الجديد باستعادة هويته الحقيقية التي تقتضي العودة إلى الثوابت والهوية والقيم اللبنانية، مع تنقية الشوائب التي أحاطت بها.
○ أي مآل ينتظر لبنان بعد إخفاق المبادرة الفرنسية مجدداً. هل يمكن أن نشهد تحركاً موحداً من المجتمع الدولي؟
• عطب مبادرة ماكرون أنها بدأت فرنسية ووصفت الأزمة في البلد بأنها مالية اجتماعية اقتصادية، متجاهلة البُعد السيادي فيها، واتّكأت على المؤسسات الدستورية وعلى قاعدة المحافظة على الاستقرار، بما في ذلك مهادنة حزب الله. بعد خيبات فرنسا المتتالية، رفعت المبادرة إلى المستوى الأوروبي، فكان للأوروبيين نظرة مختلفة، وأكثرهم وضوحا كان الألمان، الذين اعتبروا بأن هناك خطراً وجودياً على لبنان، وليست المشكلة مالية واقتصادية واجتماعية فقط.
لقد عبَّر البابا فرنسيس بوضوح بعد تفجير المرفأ أن لبنان في خطر داهم وخطر فقدان هويته. مأ أود أن أقوله كمعلومة دقيقة أن الكرسي الرسولي هو الذي يقود دبلوماسية إنقاذ لبنان، انطلاقاً من قناعة وليس من مصالح، وانطلاقاً من أخلاق، وأن هذا البلد يُشكّل نموذجاً للعيش الواحد، ونموذجاً في الحريات، وشعبه دفع الكثير من الأثمان جراء قضايا لا علاقة له بها. وهذا الذي برز في الإرشاد الرسولي في العام 1997 وفي «سينودس مسيحيي الشرق الأوسط» في العام 2011، والذي برز أيضاً في تحوّل الفاتيكان نحو فكرة المواطنة. الفاتيكان لم يعد يتكلم عن حماية المسيحيين في الشرق، إنما يتكلم عن المواطنة، وهو ما عبّرت عنه «وثيقة الأخوة الإنسانية» مع شيخ الأزهر والبابا فرنسيس في أبو ظبي. حين ذهب الرئيس المكلف تأليف الحكومة سعد الحريري إلى الفاتيكان قال له الحبر الأعظم أن لا حقوق للمسيحيين ولا للمسلمين، بل هناك حقوق للمواطن اللبناني.
هناك دبلوماسية أخلاقية ترعى لبنان، ولا يمكن أن نتجاهل أن هناك اتصالات قائمة للفاتيكان مع كل من الإدارة الأمريكية وروسيا وأوروبا والعالم العربي لمناقشة القضية اللبنانية لحماية هذا البلد. اللافت هو تعيين الدبلوماسية البولونية يوانا نورسكا، التي تُتقن العربية، ممثلة للأمين العام للأمم المتحدة في لبنان. ماذا يعني أن تُعيَّن بولونية في هذا الظرف في لبنان، بولونيا يوحنا بولس الثاني، بولونيا لبنان الرسالة، في هذا الموقع تحديداً بتقاطع فاتيكاني غربي عربي وفي توقيت مفصلي. ألا يمكننا القول إن هناك عين راعية للبنان وسيكون هناك احتضان للبنان بغض النظر عن مصالح لهذا المحور أو ذاك.
في تقديري أن هناك مبالغة بأن لبنان هو قيد الشراء والبيع. هناك عمل فاتيكاني عربي غربي لتحييد لبنان عن أن يكون ضحية أي مقايضة، وفي تقديري أن مسار حياد لبنان انطلق، ومثلما خضنا معركة لبنان الكبير في العام 1920 سنخوض معركة حياد لبنان في هذه المرحلة، ليعود صلة للوصل بين الشرق والغرب، ومركزاً عالمياً لحوار الحضارات والثقافات، فلنهدأ. نحن نحتاج إلى قليل من الصبر والمثابرة من دون أن نقوم باستنتاجات سريعة. أنا لا أعطي نتيجة حتمية ولا على ماذا سيتفقون، ولكن في تقاطع المعطيات والتحليلات، هناك عين راعية للبنان.
○ طروحات البطريرك الماروني حول الحياد تنبع من رحم توجهات البابا وتترجمه؟
• هي تنبعُ منه لجهة قراءة المناخات والوقائع. الفاتيكان يراقب بهدوء، والبطريرك قام بطرح فكرتيّ الحياد وعقد مؤتمر دولي حتى تصل إلى الحياد. هذه الأمور قيد النقاش. قوة الطرح أنه خلق توازناً في مرحلة انعدام الوزن في المشهد الوطني، وفي الوقت نفسه يحتاج هذا الطرح إلى تحصين في خارطة الطريق، وهنا يُفترض بالكتلة الوازنة، التي هي قيد التشكّل، أن تعملَ على خارطة طريق لرفع مستوى القضية اللبنانية إلى هذا المستوى الأعلى، لأننا في خطر وجودي، ولسنا في مأزق حكومي.