
وسام سعادة
Sep 17, 2018
القدس العربي
سؤال طرح نفسه على كاتب هذه السطور في منعطفات ومراحل شتى، مع أنه ليس من الذين حملوا سلاحاً.
في نهايات الحرب اللبنانية فرض هذا الإستفهام نفسه، ضمن بيئات اليسار، بعد ان راعها حجم الاختلاف بين المحصلة النهائية وبين الدوافع الأولى للدخول في «لعبة تأجيج العنف». اكتشفت خلال الحرب، عياناً وبالدم، ان مقولة «العنف الثوري» ليست بالنسبة الى العنف الطائفي بمقولة نقيضة. فكل عنف طائفي يقدّم نفسه لجماهيره على أنه الثوري بامتياز، وبأنه «ثورة فلاحين» من طراز خاص لا يفهمه الا «الأوفياء».
أما العنف الثوري من الموقع اللاطائفي، «المسترشد بالنظرية العلمية»، بل المتكّل على هذه النظرية (وعلى تتمتها التعبوية التنظيمية) لاسترجاع حقوق طائفة من لدن طائفة أخرى، والمطمئن الى أن معطفه الأيديولوجي سميك بما فيه الكفاية ليقيه شرّ تسرّب الإعتبارات المحض طائفية ومذهبية اليه، فسيصعب عليه القبول بصورته في المرآة، بل في أي مرآة كان.
و»صدف» ان تزامنت نهاية الحرب مع انهيار المنظومة الشيوعية، وحظر «الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي» من قبل النخبة التي كانت على رأس قيادته قبل سنوات بل أشهر قليلة. وهنا أيضاً، تقاطرت كل أصناف «الما كان ينبغي». وكل راح باتجاه: ما كان ينبغي حمل السلاح ضد انتفاضتي بودابست 1956 وبراغ 1968 وضد عمال بولونيا، مع أن انهيار المنظومة السوفياتية آخر الأمر، كان «تقنياً» ـ في أقل تقدير ـ بسبب الامتناع عن اللجوء للسلاح لحماية مكوناتها. أو ما كان ينبغي حمل السلاح من الأساس: بمعنى ان الثورة البولشفية نفسها ما كان «لزوم لها»، والأفضل لو تطور التاريخ الروسي والكوكبي من دونها، علما أن الحريق الأوروبي الكبير، المشتعل باندلاع الحرب العالمية الأولى، سابق على عام الثورتين الروسيتين بثلاث سنوات، وهو السياق الذي من دونه تصبح مقاربة كيفية تحول الحرب على الجبهة الروسية ـ الالمانية (والنمساوية والعثمانية) الى حرب اهلية روسية، ضربا من الشطط.
في منحى مختلف، عاد هذا السؤال «هل كان الأفضل الامتناع عن حمل السلاح؟» ليطرح نفسه مؤخراً بعد هزيمة الهزيمة العامة للانتفاضات الشعبية العربية لعام 2011، وبالذات بالنسبة الى الوضع في سوريا. هل كان الأفضل الامتناع عن حمل السلاح؟ بمعناه المجازي، السلمي الجماهيري، ضد نظام حسني مبارك في مصر، أو بمعناه الحرفي، في مقابل قمع نظام آل الأسد للحراك الجماهيري السوري، أو ضد نظام معمر القذافي؟
ليس ثمة سلاح يمكن أن يُدافع عنه في التاريخ الحديث، وبلا قلق ومن دون تردد، على أنه كان محتماً ولازماً وضرورياً. المشكلة حين يجري تسطير مضبطة «ما كان ينبغي حمل السلاح» في المقابل، من دون قلق.
لا يلغي هذا انه، نعم، قبل انفجار الأحداث الانتفاضية في مصر أو في ليبيا أو في اليمن أو في سوريا، كانت حياة غالبية الناس أفضل بأشواط مما هي الآن، وأحقية ومشروعية الانتفاضات لديها منطلقات وحجج أفضل بكثير من معزوفة ان الذي تبدّل هو الشعور بـ«الكرامة». اضمحلال العقود الاجتماعية بما فيها حتى تلك المشوهة الحاصلة بين «المستبد» وبين «رعاياه» هو بحد ذاته معطى أساسي وواسع لمشروعية هذه الانتفاضات. حتى الفقه السلطاني فيما مضى، عندما لم يكن يجوّز الخروج على المستبد، فانه كان يفعل ذلك من منطلق ان «حدا أدنى» من العقد بين المستبد وبين رعاياه لم يزل قائما، طالما ان هذا المستبد لم يلغ الطابع الاسلامي في النطاق الذي يسيطر عليه. ان يقوم هذا المستبد بالغاء هذا الطابع الاسلامي بشكل كامل بقي بمثابة «اللامفكر به» عند الفقهاء، الذين عادوا واطمأنوا، سواء أمام الغزوات المغولية، أو مع حملة جيش الثورة الفرنسية على مصر، بأنه حتى هؤلاء الكفار ليسوا في وارد اجتثاث هذا الطابع. المتغير الاساسي مع عصرنا ان الحد الأدنى من العقد بين المستبد وبين رعاياه لم يعد يمكنه ان يقتصر على الحفاظ على البصمة الاسلامية للمجتمع، كما لم يعد يمكنه ان يقتصر على تأمين ربطة الخبز. ما عاد يمكنه ان يكون عقدا بين حاكم ومحكوم من دون ان يكون حداً أدنى من عقد اجتماعي، اي بين «المحكومين» انفسهم (ونظريا قبل انبثاق «حاكم» من بينهم)، يفرز حداً أدنى من التمثيل السياسي، ويكون على أساسه نظام ضريبي، أو أي اقتطاع مالي من أي نوع، متاحا ومشروعا، هو أيضاً، بالحد الأدنى.
ما كان ممكن اعطاء اي من هذه الانظمة التي قامت عليها هذه الانتفاضات ما ليس لها، أي صك العقد الاجتماعي الذي هو في الاساس ليس بصك، وان كان الدستور هو الصك المفترض انه الاقرب له. وهذا يعني بكل بساطة ان كل الهزائم والكبوة الحالية لا تبدّل في الأمر شيئاً: الفشل في التقدم، من موقع المنتفضين، بمشروع استصلاح عقد اجتماعي، وشراسة قمع مناخ الانتفاضات تأسيسا على هذا الفشل، لن يمدّ المستبدين بأي شذرة «عقد بين الحاكم والرعية» من أي نوع، وبخاصة بعد ان كانت كلمة الاشتراكية في العالم الثالث هي آخر «مطابع» هذا النوع من العقود. اللهم سوى عقد «الخوف» من الثورة، بنتيجة التبعات المباشرة والمأسوية لكثرة استخدام هذا المفهوم، بلا طائل، في السنوات الاخيرة. وهذا «العقد» لا يمكن المكابرة عليه، او الاستخفاف به. لا يمكن «هت» الناس من انها تخاف «تكرار التجربة» و«تكرار الفشل» مرة اخرى. التصالح مع هذا المعطى «المحافظ» عند الناس هو بحد ذاته ضرورة ثورية.
ما كان ينبغي حمل السلاح بهذا الشكل او ذاك: هنا، لا ينبغي التردد في الاسترسال. بخاصة في سوريا، حمل السلاح بالشكل الذي تم فيه كان كارثيا. الايديولوجيا القتالية التي اعتمدت على النقيض من كل مدارس حرب العصابات في القرن الماضي كانت ايديولوجيا قاتلة للتحرر. تفريخ امارات جهادية في احياء وضواحي من المدن، وابقاء شبكة امدادات ومواصلات النظام قائمة، هو تطبيق مهووس بمعاكسته لألفباء حرب الغوار: السيطرة على الارياف والبوادي، تقطيع شبكة امدادات العدو، وجعله يتكبد الفاتورة التموينية الضاغطة شعبيا عليه في المدن، وليس التطوع لدفع هذه الفاتورة عنه، في معادلة كانت فصائل «تطبيق الحدود» فيها اقوى من المحاولات الحقيقية والاهلية للديمقراطية المحلية المباشرة (التنسيقيات..)، انما غير القادرة على الدفاع عن نفسها وسط كثرة الاعداء والموارد الشحيحة.
ما كان ينبغي حمل السلاح وفقا لايديولوجيا قتالية تطبق مبادىء حرب العصابات بالمقلوب، وتتيح للمعسكر الآخر ان يدمج بين الحربين النظامية واللانظامية، لاستعادة السيطرة. تماما مثلما انه، وكما كان الفيلسوف الايراني داريوش شايغان (غادرنا هذا العام) حادا في مساجلته ضمن كتابه «ما هي الثورة الدينية؟» ضد مقاربة علي شريعتي الدرامية لتاريخ كل مجتمع على انه تاريخ صراع بين «الفئة القابيلية القاتلة وبين الفئة الهابيلية المستباحة»، ثمة حاجة لتفكيك مصادر هذه الرؤية القابيلية ـ الهابيلية، بالشكل الذي تطورت فيه في سوريا. طبعا لم تأت من كتابات علي شريعتي في هذه الحالة، لكنها نسجت على طريقتها خلطة بين الايديولوجيات الاسلامية والبعثية والليبرالية.
بالرغم من كل هذا، لا يمكن الاغفال لحظة واحدة، انه، اذا كان من غير الممكن اسقاط النظام بالسلاح، فان اسقاطه بغير السلاح هو ايضا، وهم، ووهم قاتل.
امام كل تجربة يتصاعد بعدها تعبير «ما كان ينبغي حمل السلاح» يعود هذا المقطع من «الدولة والثورة» للينين، الذي يقارن فيه بين تأييد ماركس للكومونة الباريسية رغم اقتناعه بأنها جاءت في غير أوانها، ورغم نذير الشؤم، وبين موقف أب الماركسية الروسية جيورجي بليخانوف بعد انتكاسة ثورة 1905 بأنه «ما كان علينا حمل السلاح». صعب اسقاط هذه المقارنة كما هي على واقع الحربين الاهليتين، اللبنانية والسورية. صعب، لكن ليس بالمطلق. كان ينبغي «دائماً» حمل سلاح ما، وما كان ينبغي «أبدا» ان تتخلى لعدوك عما يسميه لينين هنا «نذير الشؤم».
٭ كاتب لبناني