مضى لي في “مهنة” الكتابة الصحافية نحوٌ من تسعة وثلاثين عاماً، محرّراً وكاتباً. خلال ذلك، انخرطتُ في “مهنة” الكتابة الافتراضية “الجديدة” منذ تأسيسها. لا أجد حرجاً في القول، إني من أتباع المهنتَين، مشدِّداً على الجريدة التي تصدر كلّ يوم؛ على تصوّرها لهذه المهنة، صفحاتها، حبرها، صحافييها، كتّابها، زوّارها، ريبورتاجاتها، مقالاتها، تحليلاتها، مقابلاتها، إخراجها، تبويها، رؤيتها التقنية، أكشاكها، مكتباتها، باعتها… وأرصفتها.
ضرورة وجود الجريدة الحسّي، الجمالي، وصدورها بالحبر، وعلى الورق؛ أراها موازية لضرورة الدستور في الحياة الوطنية والسياسية، وموازية لضرورة المعيار، لضرورة العقل، لضرورة النقد، لضرورة التحليل، لضرورة الرويّة، لضرورة القيمة، ولضرورة المكوِّنات والأسس الثابتة والخلاّقة للعيش مطلقاً، في أيّ بلدٍ من البلدان.
ومثلما لا أمزح في هذه المسألة، لا أغالي. فأنا أؤمن بما أقول. ومقتنعٌ خصوصاً بما أقول.
لقد جَرَفَتْنا موجات الإعلام الافتراضي، والصحافة الافتراضية. لكنها ليست “موجات”، بالمعنى الموسمي، ولا نزوات، ولا صرعات. بدأتْ كـ”مغامرة”، وصارت “حقيقة”. ولأنها كذلك، راحت تتراكم كمعيارٍ مهني، حياله يجب أن لا نشعر بأيّ نقص، أو عيب، أو عقدة.
كلّ تخلّفٍ عن ركوب هذه “الحقيقة المعيارية” في العمل الصحافي، لا بدّ من أن يرتدّ سلباً على مقوّمات الحياة نفسها، لا على المهنة الإعلامية فحسب.
هذه “الحقيقة المعيارية”، لها شروطها، ومعاييرها، ويجب عدم الاستخفاف بالشروط والمعايير، الضرورية لتحويل الممارسة المهنية “إرثاً”. كلّ استخفاف، كلّ استهتار، وكلّ تسطيح، من شأنه أن يُفقِد الحقيقة المهنية المعيارية هذه، الحظّ في أن تصير “إرثاً” صحافياً، محصّناً بالصدقية والموضوعية والدقة والمعرفة والخبرة والخلق والثقافة.
بقدر ما أشعر بلزوم إعطاء هذه “المهنة الجديدة” كلّ الفرص لتحقيق المنجزات “النوعية”، أشعر بالأهمية القصوى لوجوب تطوير “الإرث الصحافي المكتوب”، المتمثل في الجريدة وأخواتها، وتحديثه، وتثويره، وتحصينه بجسمٍ صحافيّ، متمرّس، ليّن، طليعيّ، اختباريّ، ومعرفيّ، لتمكينه من مواجهة تحديات العصر، وجعلها جزءاً لا يتجزأ من موجبات الجسم تجاه ذاته المهنية وتجاه المتلقّي.
لن تستطيع الصحافة المكتوبة أن “تتحدّى” العصر بإيجابية، وأن تطوّعه، بدل أن يطوّعها، ويُفقِدها حصانتها، و”يغتالها”، إلاّ بجسمٍ صحافيّ قابلٍ لإعادة النظر في طبيعة المهنة، ومعاييرها، وقابلٍ لتأهيل ذاته مهنياً، معاً وفي آنٍ واحد.
هذه النقطة الأخيرة، ليست جانبية. إنها واجبة الوجود، وداهمة. وهي مسؤولية الصحيفة والصحافي قبل أن تكون مسؤولية القارئ المتلقي. هذا هو التحدي!