14-07-2021 | 20:58 المصدر: “النهار”


هل يشهد لبنان تقسيماً؟ (تصوير نبيل إسماعيل).
تنشط منذ أسابيع قراءات وتصاريح تذهب بعيداً في تصوير متغيّرات مقبلة على المنطقة، حيث يتراءى لعددٍ من المحلّلين والقراء في الشؤون الاقليمية والسياسية أنّ “ريشة” ستزور صفحات خرائط البلاد المجاورة، بما فيها #لبنان، لترسم تقسيمات وتعاريج جغرافيّة جديدة خارجة عن إطار الحدود المتعارف عليها منذ ما يقارب المئة سنة الماضية. وقد برز هذا التصوّر بشكلٍ أو بآخر في مواقف عبّر عنها عددٌ من مؤيدي الانتقال إلى صيغ جديدة في لبنان، مستقرئين الانتقال إلى عدّة “جمهوريات” على امتداد المناطق. ولم يكن ما سمعه الحاضرون في لقاء مصالحة في الشوف قبل أيام، بعيداً عن تصوير ارتقاب هندسة “الريشة” لمتغيرات ما، حيث قال الوزير السابق وئام وهاب إنّه “توجد متغيرات في المنطقة، حيث ترسم لها خرائط جديدة. من هنا، فإن تكاتفنا يساعدنا لإيجاد مكان نستحقه في هذه الخريطة”. فهل ما يتوقعه البعض في لبنان يعبّر عن واقعية تحليلية، أم يعكس مبالغة في قراءة دهاليز المرحلة؟
تؤكّد الوقائع التاريخية أن الانتقال إلى رسم تعاريج جديدة للخرائط لم يكن يوماً مسألة بهذه السهولة. حتى إنّ البحث في نظام متصرفية جبل لبنان والتوصّل إليه، لم يكن موضوعاً بهذه السهولة، بل سبقه عدّة مقترحات ومشاورات منها مشروع الإبقاء على القائمقاميّتين وتعزيز سلطة السلطان وإنشاء مجلس إداري عام في كلّ من صيدا ودمشق، ومشروع ثانٍ أراد الإبقاء على امتيازات لبنان التقليدية، من حيث استقلاله الداخلي وإلغاء القائمقاميتين وتوحيد السلطة المحلية في يد حاكم لبناني، ومشروع ثالث اقترح تقسيم جبل لبنان إلى ثلاث قائمقاميات مارونية وأورثوذكسية ودرزية، قبل أن يتفق ممثلو الدول الكبرى آنذاك على نظام المتصرفية. وفي سياق متّصل، تنقل المدوّنات التاريخية طرفة عن كيفية التوصل إلى تسمية حاكم لبنان باسم “متصرّف”، بعد التداول باسم “أمير” الذي لم ينل موافقة الباب العالي لأنه يُذكّر بإمارة لبنان، واسم “والٍ” الذي لم يعجب ممثلي الدولة العثمانية لأنه لقب يشابه الولاة العثمانيين، ولقب “حاكم” الذي اعتبر مستخدماً بكثرة، ولقب “رئيس جمهورية” الذي رُفض أيضاً، قبل الاتفاق بعد أسبوعين من التفكير على لفظة “Plénipotentiaire” الفرنسية التي تُرجمت إلى العربية باسم “متصرّف”. وتعكس هذه الوقائع التاريخية عدم سهولة التوصل إلى أنظمة أو خرائط جديدة بين ليلة وضحاها، كما يعتقد البعض لبنانياً.
ماذا عن الأحداث الحالية التي تشهدها المنطقة؟ وهل فعلاً دخلت البلاد مرحلة ممهدة لتبدّل الخرائط؟ تنطلق مقاربة الأستاذ في الشؤون الدولية والوزير السابق ناصيف حتّي التي استطلعتها “النهار”، من الإضاءة على أنّ المرحلة الحالية ضبابيّة ويترُك فيها الإنسان مخيّلته للذهاب بعيداً أحياناً. وفي تقدير حتي، أنّ ما يحصل بمثابة “صراع على النفود في مرحلة رمادية، يراهن فيها كثيرون في لبنان والمنطقة على اتجاه مسار المفاوضات الإيرانية – الأميركية، إضافة إلى عنصر متغيّر أساسيّ يقوم على حوار استكشافيّ إيراني- سعوديّ يعوّل عليه كثيرون. إضافةً إلى عودة بطيئة للدول العربية إلى سوريا. إلى جانب الأخذ بالاعتبار الانسحاب الأميركي من أفغانستان، ما يخلط الأوراق ويؤدي إلى متغيرات في المنطقة. ويضاف إلى ذلك الموضوع الليبي، وازدياد الصراع في العراق وحوله”. كلّها عناصر تفتح الباب أمام أن “يشطح” البعض في تأويلات، ودائماً وفق مقاربة حتّي، حيث لا شكّ أنّ “المرحلة فيها متغيّرات أساسيّة تنعكس على لبنان. لكنه لا يعتقد أن المسار سيتّجه، كما يفكّر البعض، إلى قيام دول جديدة. أما قيام سلطات أمر واقع فشيء آخر. ويشير الى ما يسميه في الماضي بالصوملة أو الدولة الفاشلة مع سيطرة قوى مختلفة على مناطق مختلفة، لكن ليس كما النموذج السوداني أو نموذج أثيوبيا وأريتريا، حيث يُرسم تقسيم وتقوم دولة إلى جانب دولة أخرى”. وحريّ تشبيه الصورة التي تعبّر عنها قراءة حتي، بإمكان الاتجاه الى “التعايش بين مناطق النفوذ المُدارة من الخارج بأطراف داخلية أو صدام. ثمّة حالة من البلقنة في المنطقة، لكن لا قيام لدول جديدة”.
وتضيء مقاربة حتّي على عوامل مضادة لتقسيم الخريطة اللبنانية، وفي طليعتها، “الاختلاط والتداخل والعيش المشترك القائم بعيداً عن التكاذب الذي تطلقه بعض الشعارات السياسية. وتعقيباً على الذين يطرحون الفيدرالية، فإنّ المشكلة لا تكمن في الشأن الاجتماعي أو الثقافي الذي يستطيع المواطن أن يعيشه كما يريد في لبنان، بل في شأن السياسة الخارجية والثقافية والأمنية والمالية التي تبقى في يد السّلطة الفيدرالية، كما الحال في أي نموذج فيدراليّ، ما يعني أنها لا تحلّ شيئاً في لبنان”. ويتفهّم من واقعية شديدة، كما يصفها، مخاوف البعض، لكن “لبنان صار دولة فاشلة في ظلّ اهتراء دور الدولة وتفكك مجتمعيّ وانهيارات اجتماعية تفتح الباب لأي شيء. قد تقام مناطق نفوذ يسيطر عليها هذا الطرف أو ذاك، لكن ليس بالطريقة التي يعبّر البعض عنها. ويتمثل الخوف على لبنان من أن يصبح ملعباً مشتركاً لكافة أنواع الصراعات، في ظلّ قابلية لذلك، لكن لا خوف من فيدرالية نفوذ باعتبار أن ذلك ليس بالأمر السهل”. ويرسم حتي نقطة انطلاق الحلّ في “بدء الخروج من الأزمة بحكومة الحدّ الأدنى. وبعد ذلك يمكن البناء على الطائف والذهاب إلى ما بعده، عبر بناء الدولة المدنية ودولة المواطنة”.
ماذا في مقاربة الأبعاد الديموغرافيّة والجغرافيّة للخريطة اللبنانية؟ وهل يمكن أن تشجّع تعاريجها على التحول إلى عدّة جمهوريات؟ يقرأ رئيس هيئة الأركان السابق في قوى الأمن الداخلي البروفسور أمين صليبا بين سطور الواقع الديموغرافيّ اللبنانيّ، مشيراً لـ”النهار” إلى أنه “لا يمكن الحديث عن قيام عدّة دول جديدة في خريطة صغيرة كمساحة الأراضي اللبنانية. ولا تعدو الطروحات المعبّر عنها من قبل البعض في لبنان، سوى مجرّد أفكار نظريّة لا تمشي إلا على قوس قزح، ومن غير الممكن تطبيقها على أرض الواقع حتى في ظلّ تعارض المكوّنات الداخلية، وذلك لاعتبارين أساسيين. يكمن العامل الأول في أنّ المقوّمات الطبيعية للمناطق اللبنانية غير قابلة للتقسيم، في ظلّ صغر المساحات ما يجعل منها أشبه بدول غير قابلة للعيش ولا عمق جغرافياً لها. ويتمثل العامل الثاني في الديموغرافيا والتداخل السكاني الذي يجعل من إدارة المناطق زعماتيّاً وطائفيّاً مسألة معقّدة جدّاً، في ظلّ اختلاط كبير وتنوّع ملحوظ مذهبيّاً. ومن الأمثلة على ذلك، قضاء الكورة الذي أصبح ما يقارب ثلث أبنائه من الطائفة السنية الكريمة، ما يشير انطلاقاً من المنطق الى التفكير مستقبلاً بإضافة مركز نيابي جديد للقضاء عن المقعد السنيّ”.
ويرى صليبا أن “الطروحات المتداولة عن تبديل الخرائط بما في ذلك في ما يتعلّق بالخريطة اللبنانية، تصبّ في إطار التحليلات والقراءات اللبنانية في الوقت الضائع، كما لو أن الهدف منها كسب الوقت والهروب إلى الأمام وصرف الأنظار عن الأسباب الحقيقية، وعن مسؤولية الطبقة السياسية التي أوصلت البلاد إلى واقع الانهيار، والمواطن إلى شفير الجوع. ويمكن ألا يكون ترويج بعض اللبنانيين لهذه الطروحات بريئاً، بل قد يكون ثمّة من يدرسها في العمق، لتحويل الأنظار عن الواقع المرير الذي يعيشه لبنان. ومن جهة أخرى، لا يمكن للطروحات المتعدّدة في لبنان أن تمرّ في ظلّ الأزمات الدولية، باعتبار أنها مسائل تحتاج إلى نقاش وتوافق دوليّ. كما أنّ الاهتمامات الدولية بعيدة تماماً عن التفكير في مسائل لبنانية من هذا النوع، والأنظار الدولية تتجه إلى التحديات القائمة في الشرق الأقصى”.
majed.boumoujahed@annahar.com.lb